جمهوريو المملكة 1/4

إدريس ولد القابلة
saharaokd@gmail.com

2007 / 3 / 28


يقال إن بلد بدون تاريخ وبدون ذاكرة جماعية كالجسد بدون روح، وبالتالي لا يمكن بناء المستقبل إلا بتذكر الماضي بمفاخره ومآسيه، وهذه ضرورة لسببين على الأقل: اغتراف الاستعداد والقوة للاستمرار في استخلاص الدروس من الأخطاء والانحرافات المقترفة من جهة، ومن جهة أخرى العمل على توفير الشروط حتى لا تخلف البلاد، مرة أخرى، مواعيدها مع التاريخ ولا تضيعها، لأن المستقبل، في واقع الأمر، يجب الإعداد له البارحة وليس اليوم.
وملف هذا العدد لا يطمح لعرض خبايا فترة تاريخية، ما دام أغلبها تم الكشف عنها بفضل الفعاليات الصحفية المستقلة، وإنما الهدف هو بالكاد الإحاطة بجملة من جوانب إشكالية النزعة الجمهورية بالمغرب.
إن تاريخ المغرب المعاصر يعد فترة حملت الكثير من الملابسات والطمس وتزييف الحقائق، وهذا ما أقره الجميع، من رسميين وغير رسميين، كما أجمع الكل على حقيقة مفادها، أن التاريخ الشعبي وتاريخ القرب ظل مغيبا مقارنة بالاهتمام المبالغ فيه بتاريخ الأسرة الملكية والقصر الملكي وانجازاته، وبقدر ما كان هذا التاريخ يفرض نفسه فرضا بالترويج القسري، بقدر ما ظلت الانجازات الكفاحية للشعب المغربي وآلامه ومعاناته خارج دائرة التاريخ الرسمي، إلى درجة أن أجيال اليوم اكتشفت أنها كانت جاهلة لتاريخ بلادها.
وفي هذا الصدد، فإن الحديث عن النزعة الجمهورية أو عن جمهوريي المملكة قد يشبه الحديث عن "قنبلة موقوتة" في نظر بعض ضيقي الأفق، باعتبار أن النظام الملكي يظل بالنسبة لجميع الفرقاء السياسيين ثابتا من الثوابت التي لا تقبل التشكيك. لكن شروط ومقتضيات حرية التعبير لا تستثني، بأي حال من الأحوال، الحديث في مثل هذه القضايا، أراد من أراد وكره من كره، لأن ذلك يعتبر ضريبة اختيار اعتماد هذه الحرية والعمل بها.
فالنزعة الجمهورية بالمملكة ارتبطت بالمشاريع المجتمعية التي كانت ترى أن طريق التغيير تمر بالضرورة عبر إسقاط النظام القائم، وهذا أمر لا يخفى على أحد. وبذلك برزت معالم هذه النزعة، بوضوح أو ضمنيا، على امتداد الهزات الاجتماعية التي عرفتها البلاد منذ 1958 إلى بداية الألفية الثالثة، مرورا بمارس 1965 وأحداث 1969 وانقلابي 1971 و 1972 وأحداث 1973 وانتفاضات الثمانينيات ومشروع أحمد الدليمي الانقلابي الذي أجهض في المهد وحركات التسعينيات النضالية، لذلك ووجهت كلها بعنف شديد، ساهم في تأكيد قناعة ظلت قائمة طيلة المرحلة في أوساط النخب السياسية، مفادها أن خلاص البلاد هو تغيير جذري نحو نظام جمهوري، بالرغم من عدم الإعلان الواضح عن ذلك.
إذن، كاءت نشأة النزعة الجمهورية بالمملكة انطلاقا من الرد على واقع مزري ظل يتأزم. بفعل الإحباطات المتتالية، منذ حصول البلاد على استقلالها، وبفعل رفض التهميش والإقصاء، وبفعل الرغبة في المشاركة وصنع القرار السياسي من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، وبفعل الرغبة في تجاوز تقاسم أعباء التنمية إلى تقاسم فوائدها ونتائجها كذلك، والتي ظلت حكرا على قلة من المحظوظين لا تكاد تبين، وبفعل التوق إلى تجاوز وضع الرعية المتدني نحو إرساء الحق في المواطنة الكاملة غير المنقوصة والعدالة والديمقراطية واحترام كرامة الإنسان المغربي المداس عليها جراء آليات الحكم الاستبدادي.
ومن المعلوم أن المطالبة بالنظام الجمهوري قد بدأت تلوح معالمها منذ بداية الاستقلال، وتأكد هذا المنحى كمطلب رئيس خصوصا بعد تنحية أول حكومة وطنية برآسة عبد الله إبراهيم.
مع العلم أن المهدي بن بركة والفقيه البصري، على سبيل المثال لا الحصر، كانا يطمحان آنذاك إلى ملكية من نوع خاص، وإن ظل موقف الأول أكثر غموضا فيما يخص نظام الملك بعد الاستقلال.
وبعد أن جدد الحكم الفردي أسسه ودعائمه لاحت في الأفق المغربي معالم حركات جماهيرية – شعبية مؤيدة للنظام الجمهوري، بل أكثر من ذلك أعلن أشخاص تأييدهم لهذا النظام مع بزوغ أول شمس للاستقلال، وعلى رأس هؤلاء محمد بنونة (شيخ العرب) وإبراهيم التزنيتي (النمري) وغيرهم.
لا ينبغي أن ننسى أن حركة الشبيبة قد شكلت، منذ منتصف الستينيات، بؤرة أساسية لعدة تيارات، أهمها الحركة الماركسية – اللينينية والخيارات الثورية الأخرى التي زاوجت بين الطرح الماركسي وطروحات ذات توجهات ثقافية ماوية وغراشية – وهما حركتان جمهوريتان بامتياز.
ومن المعلوم أيضا أن قانون الأحزاب ألزم احترام المقدسات (الطابع الملكي للنظام، الدين الإسلامي، الوحدة الترابية)، وبالتالي لا يمكن تصور قيام حزب جمهوري أو حزب أمازيغي أو حزب إسلامي بالمملكة المغربية خارج التصور السابق.
لكن هذا لا ينفي وجد مغاربة بالمملكة المغربية ذوو نزعة جمهورية، بعضهم كشفوا ذلك بوضوح، وبعضهم يضمرها.
مع أن هناك إجماع على كون تبني النزعة الجمهورية وفكرة النظام الجمهوري يدخل في نطاق حرية التعبير، ولا يمكن اعتباره إلا كذلك ولو كره الكارهون، لأن هذه هي ضريبة من ضرائب الإقرار بالديمقراطية الحقة وحرية التعبير التي من المفروض أنها لا تخدم مصالح البعض دون البعض الآخر، وإنما هي مبدأ وحرية يستفيد منها الجميع، خلافا للنصوص القانونية التي تميل لخدمة هذه الفئة من المصالح أو تلك.

عهد الحسن الثاني في سطور: التربة التي ترعرعت فيها النزعة الجمهورية

إن التاريخ الرسمي ("المخزني" حسب نعت البعض)، خلافا لما يراه التاريخ الشعبي، يرى أن عهد الحسن الثاني تميز أساسا بتثمين استقلال البلاد وإعادة بناء وحدته على أسس صلبة قبل الانطلاق في سنة 1962 لإجلاء القوات الأجنبية (الأمريكية) من البلاد، في حين يرى الكثيرون أن الاستقلال بدأ أعرجا وقد شكل صفقة غيبت طموحات الشعب وساوم فيها القصر الملكي والإقطاع على مصالحهما، الشيء الذي أدى إلى اغتيال حلم المغاربة في المهد بعد معركة الكفاح من أجل الحرية والاستقلال.
ويرى التاريخ الرسمي "المخزني" أنه اعتبارا للصعوبات السياسية والأزمة الاقتصادية تميز عقد الستينيات باللجوء إلى تقوية مركزية الحكم، في حين يرى التاريخ الشعبي أن النظام اهتم أولا بتقعيد أجهزته القمعية وعيا منه بضرورة الاستعداد لكل الاحتمالات على أساس أن كل الطموحات الشعبية تم استبعادها منذ الوهلة الأولى.
وفي سنة 1965 اعتمد الإصلاح الزراعي، والذي لم يكن في نظر التاريخ الشعبي إصلاحا، وإنما تكريسا لنظام الاغتصاب الذي أقره الاستعمار الفرنسي، إذ لم يتم التفكير ولو لحظة في إرجاع تلك الأراضي لأصحابها الشرعيين الأصليين وإنما تم توزيعها من طرف الدولة على القصر والمقربين وعلى خونة الأمس وأبنائهم الذين سرعان ما عادوا إلى احتلال المواقع الأساسية في صناعة القرار.
(ويرى التاريخ الرسمي المخزني في استرجاع مدينة سيدي إفني من الاستعمار الإسباني سنة 1969، في حين أنه تأكد الآن أن هذا الإنجاز لم يكن قد انطلق من إستراتيجية تحرير المناطق المستعمرة وإنما لم يكن إلا ترجمة لخطة مبلورة من طرف الموساد والمخابرات الأميركية التي كانت ترمي إلى تكريس توازن بالمنطقة يخدم أولا وأخيرا التبعية غير المشروطة للامبريالية وتقوية أسس الاستعمار الجديد).
وعلى الصعيد الدولي، تميز عهد الحسن الثاني حسب التاريخ الرسمي المخزني بإرسال تجريدات عسكرية إلى الجولان (سوريا) وأخرى إلى سيناء (مصر) للتصدي إلى الاعتداءات الإسرائيلية، وفي ذات الوقت كانت علاقات القائمين على الأمور بالموساد والمخابرات الأمريكية في أوجها، علما أن المغرب لعب دورا حيويا في تمرير الإستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية بخصوص القضية الفلسطينية في الخفاء.
وكان الحدث الأكبر هو المسيرة الخضراء في نوفمبر 1975 ورئاسة الملك لجنة القدس التي سعت إلى إنقاذها من التهويد، علما أن قضية الصحراء ظلت مستبعدة من التصور منذ حصول المغرب على الاستقلال، إذ تم حرمان الشعب المغربي وفعالياته من المشاركة في صنع القرار بخصوص هذه القضية خصوصا أن القائمين على الأمور كانوا حريصين على التمسك بما تقره الإمبريالية بهذا الصدد، وبذلك لم يتحمل لا الشعب ولا قواه الحية أي مسؤولية بشأن ما قرر بهذا الصدد قبل 1999، لاسيما أن كل القرارات الحاسمة بهذا الخصوص تم اتخاذها بشكل فردي بالأساس.
وفي المجال الاقتصادي والاجتماعي تميز عهد الحسن الثاني، حسب التاريخ الرسمي المخزني، بسياسة فلاحية متميزة ساهمت في إرساء القاعدة الاقتصادية المغربية عبر بناء السدود وتوزيع الأراضي على صغار الفلاحين، ومن أجل تطوير القاعدة الصناعية أنشئت معامل ومصانع وشبكة طرقية وموانئ ومطارات. لكن في المنظور الشعبي لم تخرج نتائج كل هذه السياسة على آليات خدمة مصالح القصر والمقربين وتكريس سيرورة التفقير والتهميش والإقصاء لإغناء أقلية لا تكاد تبين، هذه هي النتيجة الفعلية على أرض الواقع اليومي في المنظور الشعبي. وفي هذا الصدد يتذكر المغاربة القرار الملكي الرامي إلى تخفيض السومة الكرائية بالثلث، والتي لم تعط أية نتيجة بفعل أن كل البنيات القانونية لم تؤد إلى فرصة للمزيد من المضاربات وبالتالي لإثقال كاهل المواطنين وليس للتخفيف عليهم في، وقت ظلت أزمة السكن تستفحل منذ حصول البلاد على الاستقلال بدون توقف.
وبخصوص إرساء القاعدة الديمقراطية يقول التاريخ الرسمي المخزني إنه تم الإقرار بمجالس حضرية وقروية وبرلمان وإحداث ولايات جديدة لتحسين التقسيم الإداري للمملكة، في حين تبين على أرض الواقع اليومي، أن الأمر لم يتعلق في نهاية المطاف إلا "بتجنيد" عبر انتخابات صورية لأناس يلعبون دور "الكراكيز" لخدمة تصور قائم أصلا، ولتكريس سياسات واختيارات لم يسبق لأوسع الفئات الشعبية أن شعرت أنها تأخذ بعين الاعتبار همومها أو أنها شاركت في بلورتها إطلاقا.
فمنذ بداية 1961 وعد الملك بإرساء نظام ديمقراطي بالمغرب في إطار ملكية دستورية، لكن دور البرلمان ظل قاصرا ومعوقا وظل دور الملك هو السائد والمهيمن على اتخاذ القرار بدون حسيب ولا رقيب.
وقد ابتدأ العهد الحسني بغليان شعبي واسع المدى في مختلف المدن المغربية، وتم التصدي إليه بالنار لاسيما بعد الإعلان على حالة الاستثناء في يونيو 1965 وتمركز كل السلطات بيد الملك. وفي السبعينيات تكرس عهد ما سمي بسنوات الجمر والرصاص التي أسقطت من الضحايا ما يفوق شهداء الحرية والاستقلال، وذاق فيه المغاربة ويلات لم يذقها حتى في أوج الحماية الفرنسية.
بعد الوصول إلى الباب المسدود اضطر الحسن الثاني سنة 1973 إلى محاولة تليين الحكم، وأعلن عن مغربة الأراضي المسترجعة، وهو خيار استفاد منه القصر والمقربين والأقلية التي لا تكاد تبين، ثم جاءت قضية الصحراء لفرض سلم اجتماعي وافتعال إجماع وطني وظلت الأوضاع الاجتماعية تتردى في وقت ظلت مصالح القصر والمقربين والأقلية بعيدة عن كل هذه المشاكل.
ومع تردي الأوضاع عمت حالة من الاستياء والاستنفار فشهدت البلاد في بداية الثمانينيات ومنتصفها انتفاضات شعبية عفوية ووجهت كالعادة بقوة النار.
وبعد 38 سنة من الحكم ترك الحسن الثاني ما يناهز 50 في المائة من المغاربة أميين وخلف وراءه نظاما مهترئا ولازال في سيرورة تردي وفقر مدقع في كل أرجاء البلاد ورشوة متجذرة حتى النخاع بالمجتمع من أعلى الهرم إلى أسفله والخوف المغروس في ملايين المغاربة الذين أضحوا يكرهون ويمقتون المخزن وكل توابعه وكل من ارتبط به، كما ترك ما يناهز 85 في المائة من الثروات والخبرات الوطنية بيد ما يناهز 3 في المائة من سكان المغرب، وقدم للواجهة بضعة "كراكيز" وهمش رجالات كان بإمكانهم خدمة البلد بصدق عوض نهبه. هكذا يقيم المنظور الشعبي عهد الحسن الثاني على أرض الواقع المعيش. فعهده ظل مطبوعا في الذاكرة الجماعية بسنوات الجمر والرصاص والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وبالانتفاضات الشعبية ضد الظلم والقهر والاستبداد، بدءا من أحداث الريف سنة 1959 ومرورا بمارس 1965 وتازمامارت ووصولا إلى قمع مظاهرات الثمانينيات بالرصاص، هذا في وقت تكرست فيه آليات إنتاج وإعادة إنتاج الفقرقراطية والخوفقراطية والإهانقراطية.
هذا ما يراه التاريخ الشعبي خلافا لما يراه التاريخ الرسمي المخزني، وهو ما شكل تربة خصبة لترعرع النزعة الجمهورية بالمملكة المغربية.

الحلم الجمهوري بالمغرب

بدأ الحلم الجمهوري بالمغرب مع اقتناء بعض المغاربة فكرة إقامة جمهورية للتمتع بالحرية والعدالة الاجتماعية وتمكين المواطن من المساهمة في اختيار من يمثله للدفاع عن مصالحه؛ وأغلب هؤلاء الحالمين بالجمهورية المغربية كانوا من النخبة المنحدرة من الفئات الشعبية أو المنحازة إليهم، اجتماعيا وسياسيا وثقافيا.
ففي السبعينيات كان شعار إقامة الجمهورية بمثابة قناعة يحملها جملة من المغاربة، بعد أن صرحوا أن النظام القائم لا يمكن أن يغير من طبيعته المخزنية وسوف يتشبث بها مهما كان الثمن ولو أدى ذلك إلى تصفية ثلثي المغاربة والاحتفاظ بالثلث "الصالح".
وللإشارة منذ أن حصلت الجزائر على استقلالها، ساد الشعور بأن المسلسل الثوري والتحريري لا يجب أن يتوقف إلا بعد القضاء على النظام القائم بالمغرب، وقد فسر الرئيس الجزائري هواري بومدين، هذا الموقف قائلا: "في الواقع، يعتقد إخواننا المغاربة، أنهم قد ساعدونا في تحقيق استقلالنا عن فرنسا، والآن يتوجب علينا أن نساعدهم في التحرر من الملكية".
وفي سنة 1963 قامت حرب الرمال بين المغرب والجزائر، وهي الحرب التي ساندها حزب الاستقلال وعارضها الجناح اليساري في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وأدانها المهدي بن بركة من منفاه بالجزائر، وتلت هذه الحرب مرحلة طرحت خلالها إشكالية العنف بقوة. لاسيما وأن هذه القضية عرفت عدة مسارات آنذاك في صفوف حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي انبثق منه الاتحاد الاشتراكي وحزب الطليعة وفصائل من الحركة الماركسية، ومن أهم تلك المسارات مسار اتجه نحو حمل السلاح تعزز بعد اغتيال المهدي بن بركة، ومسار آخر له ميولات انقلابية. وظل المساران يتحكمان في الحركة الاتحادية بين 1967 و 1973.
آنذاك تأكدت فكرة أنه لا يمكن الوصول إلى السلطة إلا باعتماد العنف المضاد للتصدي لعنف الحكم (عنف الدولة). وهذه قناعة كانت منتشرة بقوة وسط كل أطياف المعارضة المغربية التي كانت تناضل من أجل غد أفضل. لكن في غضون سنة 1975 فصل المؤتمر الاستثنائي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وتم اعتماد الاشتراكية الديمقراطية ونبذ كل أشكال العنف. يومئذ ساد الاعتقاد أن اللجوء إلى حمل السلاح ضد النظام ومن أجل التغيير الجذري ليست مسألة إرادية، وإنما العنف ارتبط بشروط سياسية وقانونية واقتصادية واجتماعية، بل ارتبط أساسا بالاضطرار للعمل في السرية.

أسلوب الملكية في الحكم شجع بروز النزعة الجمهورية

إن ما يهمنا في مجال الحديث عن ارتباط أسلوب الملكية في الحكم وبروز النزعة الجمهورية بالمغرب ليس هو تاريخ النظام الملكي وإنما فقط بعض محطات الحقبة التي أسست للمغرب المستقل، لأنها خلفية من الخلفيات المهمة للصراع على السلطة بالمغرب. وقد يكون من الأفيد الانطلاق من الأربعينيات، ومن أهم أحداث هذا العقد، وثيقة المطالبة بالاستقلال (11 يناير 1944).
لقد كانت في واقع الأمر عبارة عن عقد سياسي بين المؤسسة الملكية، ممثلة في الملك محمد الخامس والحركة الوطنية ممثلة في حزب الاستقلال، ومنها رغبة الطرفين (الملك والحركة الوطنية) في استبعاد الشعب المغربي وقواه الحية المستقبلية في لعب الدور الأساسي، كما هو شأن كل شعوب الدنيا في مرحلة التحرير، وهذا ما تأكد بجلاء بعد الاستقلال في نهج التعامل مع جيش التحرير وأقطاب المقاومة المسلحة.
لقد كان الهدف المشترك بالنسبة للمؤسسة الملكية هو البحث عن الإقرار بالشرعية خصوصا بعد التهميش بفعل سلطة الوصاية. أما بشأن الحركة الوطنية، فالهدف كان هو العمل على إحلال البرجوازية التقليدية (لاسيما الفاسية منها) محل المعمرين الأجانب.
هكذا كان منطلق المسلسل الذي كانت حصيلته على الدوام وفي أي مرحلة، تقوية المؤسسة الملكية عبر المزيد من مركزة القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري بيدها بدون منازع أو مشارك. ولولا هذا المنحى الذي لعبت فيه الأحزاب السياسية المغربية دورا حيويا لما تمكنت المؤسسة الملكية من الخروج دائما من الأزمات المتكررة أكثر قوة وصلابة. وكلما كانت هذه القوة وهذه الصلابة تزدادان كانت النزعة الجمهورية تزداد حضورا في صفوف المعارضة وقوى التغيير.
وبدأت النزعة الجمهورية تستوطن في صفوف قوى المعارضة والتغيير منذ رجوع الملك محمد الخامس من منفاه وحصول المغرب على استقلاله "المعوق" سنة 1956، لاسيما عندما شرعت البرجوازية الفاسية في الاستحواذ على المراكز الإدارية والاقتصادية، وبذلك قامت مقام المعمرين القدامى، وهكذا تحولت رموز الحركة الوطنية إلى معمرين جدد.
ومنذ الحكومة الأولى في عهد الاستقلال، حكومة مبارك البكاي وبعدها حكومة بلافريج، تبين بوضوح أن التحالفات بين المؤسسة الملكية والحركة الوطينة كانت مبنية أساسا على الفصل بين السياسي والاقتصادي. وبذلك انصرفت البرجوازية المغربية التقليدية إلى الاستحواذ على جزء مهم من الثروات والخيرات الوطنية ومراكز القرار، وبالمقابل انفرد القصر بالركح السياسي دون منازع أو منافس، ومن هنا تأسست أرضية احتكاره للمجال السياسي. لكن سرعان ما تأكدت رغبة القصر في التحكم كذلك في الحقل الاقتصادي مع ترك هامش ضيق جدا لرموز الحركة الوطنية ذات البنية الاقتصادية. وتكرس هذا الوضع بشكل نهائي سنة 1975 حيث أقر في مؤتمره الاستثنائي بقطع العلاقة مع البلانكي، ذي التوجه الجمهوري بامتياز، الذي كان يقوده الفقيه البصري، وكذلك مع التوجهات الراديكالية، ذات النزعة الجمهورية أيضا، والتي كان قد أسس لها المهدي بن بركة من قبل.
وتميز فجر السبعينيات (1971، 1972) ببروز حركة الجيش، التي كانت هي كذلك ذات نزعة جمهورية بالرغم من ارتباطها أصلا بالمخابرات الأمريكية والموساد، وكذلك الشأن بخصوص مشروع أحمد الدليمي الذي انتهى في مهده.
ومن أبرز معاقل النزعة الجمهورية في السبعينيات، بداخل المغرب وليس خارجه، الحركة الماركسية اللينينية (منظمات "إلى الأمام" و "23 مارس" و "ولنخدم الشعب")، والتي لعبت دورا جوهريا في كشف خبايا الخيارات السياسية وتأجيج الصراع السياسي والاجتماعي على امتداد عقدين (السبعينيات والثمانينيات) هذا في الوقت الذي فقد فيه الشباب المغربي الثقة في الأحزاب السياسية بفعل تركيزها على شعار الإجماع الوطني مع تغييب كل المطالب السياسية والدستورية والاجتماعية التي ظل المغاربة ينتظرونها منذ الاستقلال.
وفي 4 مايو 1990 تمكنت الأحزاب أخيرا من تحقيق أكبر خطوة في حياتها، تقديم ملتمس الرقابة ضد الحكومة، وبعدها كان دستور 1992 حيت تمت الانتخابات التي علقت تجربة حكومة التناوب، وربما أعدمتها. وعند اقتراب المغرب من السكتة القلبية كان دستور 1996 الذي أقر بمكر واضح اعتماد الغرفتين.
وتوفي الملك الحسن الثاني في صيف 1999، فذاقت النخبة السياسية لذة كعكة الاستوزار والتزمت بالصمت على كل شيء وتنكرت لكل الأفكار التي كانت مستعدة للموت من أجلها، كما كان يقول بعضهم الذين كرسوا في السابق كل كتاباتهم للتصدي للامبريالية وعملائها. وبرزت نخبة جديدة من المثقفين والتقنوقراط أضحت تمارس كل الاختصاصات والأدوار بواسطة اللجان والصناديق والهيئات الموازية التي ضيقت الخناق على الحكومة، إذ كانت تبلور كل القرارات الحاسمة خارج الحكومة ودون علمها.
وبذلك انتهت المرحلة الافتراضية لحكومة التناوب بشكل هادئ وبدون ضجيج كأن شيئا لم يحدث، لاسيما بعد تحقيق انتقال الحكم والعرش بهدوء، وبالتالي انتهت مهمة تلك الحكومة.
هذه بعض المحطات التي من شأنها تبيان كيف شجع أسلوب ونهج القصر الملكي في تدبير أمور النزعة الجمهورية بالمغرب.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن