بأيّ ذنب حجبت؟

نضال نعيسة
nedalmhmd@yahoo.com

2007 / 3 / 10

ارتكبت الوهابية الدولارية جريمة إبادة فكرية جماعية بحق شعوب المنطقة، وتدخلت في خصوصيات الناس، وحكمت بالإعدام على عقولهم، وفرضت أزياءها عليهم، ووجهت سلوكهم، وطريقة تفكيرهم بما يتفق مع أهوائها ومنطقها البدوي الجاهلي الأهوج، مدعومة بتغطية، وتواطؤ رسمي وعلني من أنظمة الاستبداد. وناهيك عن الشرائح البشرية العريضة التي تأذت، وتأثرت من التغول الوهابي الفظيع وخرجت بسببه من التنافس الحضاري البشري الشريف حيث صار أعظم اهتماماتها ومنتهى طموحها هو فلسفة الحيض والنفاس والاستنجاد وحف العانة والشوارب وفقه الإيلاج....إلخ، فقد كان من أهم وأبرز ضحاياها، الطفولة البريئة التي لم يتم النظر إليها، ومن يومها، إلا وفق منظور جنسي صرف لا يراعي ماهيتها، وقدسيتها، وأهمية أن تنال حقها من الفسحة الطفولية العمرية التي منحتها إياها الطبيعة. فإن من أقسى المناظر التي تولـّد مشاعر الأسى، والحزن في النفس في مجمل هذا المشهد البانورامي الجنائزي البكائي الأسود الحزين، هو رؤية الطفولة وقد تم الاعتداء عليها بذاك المظهر البائس وهو التحجيب القسري الذي يعني فيما يعنيه وأد معنوي، وسايكولوجي بشكل أو بآخر، ليس ببعيد البتة، من حيث تأثيره الفعلي والنفسي، عن الوأد بمفهومه الجاهلي الحسي.

فإن الإيقاظ المبكر لنوازع الجنس في النفوس الصغيرة، وزرع اليقين فيها بأنها ليست سوى موضوع جنسي محض، وماكينة للتفريخ، وتفريغ الشهوات، هو تشويه متعمد، وعن عمد وسابق قصد وتصميم لمعنى الطفولة، والأنثوية بشكل عام، والتي هي في الأصل والحقيقة، منجم للعطاء والإبداع وكنز ثمين ولا ينضب من الثراء.

ولو عدنا إلى أصل، ولبّ المشكلة، فإن في الموروث الثقافي والفكري والسلوكي البدوي، لهذه المنطقة ما يبيح "نكاح" الصغيرات في أعمار مبكرة عبر "أبواب" و"وضعيات" مختلفة كالمفاخذة مثلاً، في الوقت الذي تجرّمه كل الأعراف والمواثيق الإنسانية العصرية المتحضرة وتضع العقوبات الرادعة والقاسية له. كما أن سيادة ثقافة الغزو، والسبي، واستغلال مفهوم الخلوة، وشرعة الاستحلال يتيح بشكل أو بآخر لبعض "المتفيقهين"، ومن والاهم بالولوج إلى هذا العالم البريء من هذا الباب الفقهي والجنسي الخطير. ويظهر بما لا يدع مجالاً للشك، الحيّز الهام والكبير الذي تتبوأه فوبيا، وحمى، وهوس الجنس على عقول الناس، وهي التي تحرك سلوكهم، وحياتهم. وهنا يتقاطعون بشكل مثير، وبمفارقة لا تكاد تخلو من مرارة ساخرة، في بعض المفاصل والجزئيات، مع التفسير الفرويدي للجنس وأهميته في الحياة كونه المحرك الوحيد لسلوك الأفراد. فهل سبق هؤلاء المتفيقهون فرويد بنظرته للجنس بمئات السنين؟ إنه سؤال مثير وجدير بالاهتمام، وإن كان لا يخلو من دعابة سوداء في بعض من جوانبه. ومن هنا فقد أنبنى عليه فعل عزل الطفولة جنسياً وراء حجاب، وإبعادها عن كل "المؤثرات" الخارجية التي لا تتورع قط عن النيل منها في حال توفر "الشروط" الفقهية الداعمة له.

غير أن هذا يمثل اعتداءً صارخاً على الطفولة وحقها في أن تأخذ قسطاً من اللهو واللعب البريء، ويشوّه نفسيتها ويترك شروخاً وأخاديداً عميقة في البنية السايكولوجية لها تتجلى في عدم قدرتها على التكيف المجتمعي والقيمي والسلوكي لاحقاً، وتغير من نظرتها للعالم باعتبارها هدفا جنسياً ومحركاً على الاعتداء، وليس كائناً جميلاً محبباً باعثاً على الخصب والحب والجمال، وذلك ما يولد في نفسها عقدة اللوم واحتقار الذات كونها مصدراً للشر والبلاء.

إن انتشار الحجاب وثقافة التحجيب بهذا الشكل الأفقي العريض، ليس انتصاراً للإسلام السياسي كما يتباهى البعض، بقدر ما هو غياب لأية بدائل إنسانية، وفكرية، ومشاريع حضارية أخرى كما هو الحال في الكثير من المجتمعات الإنسانية التي خلعت عنها تلك الموروثات البدائية حيث تنعم النساء بوضع راق وحصانة قانونية كبرى، من دون حجاب، ويستعيضون عنه معظم الوقت بالبكيني والشورت والسوتيانات. فالحجاب الذي يفرض على المرأة بغير إرادتها، وتشرّعه القوانين الموجودة، يمثل حالة لا إنسانية في التعاطي مع هذا المخلوق الناعم الرقيق. وإذا سلمنا جدلاً بخطاب وعاظ السلاطين، بأن المرأة البالغة "شيطان"، وينظر إليها من زاوية كونها سلعة جنسية تثير الغرائز في مجتمع الذئاب التي لا تتورع عن الفتك بأي "لحم مكشوف" يظهر أمامه وعلى طريقة مفتي استراليا طيب الذكر، وإذا كان مفهوماً تحجيب البالغات، وعزلهن، ومنع اختلاطهن، فما هو مبرر "تحجيب" طفلة بعمر الورود، لا يمكن أن تكون موضوعاً جنسياً إلاّ للشاذين والمهووسين والمنحرفين.

وإذا عجزت المجتمعات العربية والإسلامية، ومن خلال قرون من هذا النمط من الضخ والحشو الإيديولوجي الرهيب، من تهذيب سلوك أفرادها إناثاً، وذكوراً، وجعلهم يتحكمون بغرائزهم بشكل طبيعي، ولم تتبلور فيها حتى الآن صيغ للتعامل الإنساني والحضاري الراقي، أو تأسيس تقاليد سلوكية اجتماعية مثلى تعيد الأمور إلى نصابها الطبيعي، وتمنع حالة الاستعداء المستحكمة بين الطريفين، وتنهي تلك القطيعة المؤبدة بين "الذئب والشاة"، فالأولى والأجدى إعادة النظر بمجمل هذا السلوك والخطاب المريض لأنه وببساطة، أثبت فشله، ولا جدواه في خلق حالة من السلم، والأمن "الجنسي" في المجتمع. ومع كل تلك الحرب الشرسة الهوجاء لمنع الاختلاط، والذي يعتبر الحجاب إحدى أدواتها، فإن الأمور تسوء يوماً بعد آخر، ويتجلى ذلك في نسبة جرائم الشرف المرتفعة في هذه المجتمعات حيث لم يفلح الحجاب في منع الانحدار والانجرار نحو الرذيلة. كما أن تزايد أعداد العانسين والعانسات، وانتشار المثلية، والكبت، والعقد والأمراض النفسية الأخرى ذات المنشأ الجنسي كان لها أثراً سلبياً بالغاً تركته ثقافة التحجيب، ومنع الاختلاط في المجتمعات التي تسكنها فوبيا الجنس، وهوس الجماع، وحمى الإيلاج.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن