هيكل أو الملف السري للذاكرة العربية 5

رياض الصيداوي

2007 / 2 / 19

الفصل الثالث
هيكل و"تنظيم الصحافة" في عهد عبد الناصر
بعد انفصال سوريا عن (الجمهوية العربية المتحدة) سنة 1961 وانتهاء دولة الوحدة إلى التلاشي، دخلت (الجمهورية العربية المتحدة) بقيادة جمال عبد الناصر مرحلة (التحول الاشتراكي) والتأميمات الكبرى التى حدثت في نفس السنة وأعقبها إطار نظري فكري يشرح و"ينظّر" لطبيعة المجتمع الجديد، فظهر (ميثاق العمل الوطني)(1) سنة 1962.
1 ـ وجهة نظر عبد الناصر
وبدأت عملية "تصفية" القطاع الرأسمالي لصالح القطاع العام، تشتد يوماً بعد يوم، وكان رأي عبد الناصر: "أن العمل من أجل زيادة قاعدة الثروة الوطنية لايمكن أن يترك لعفوية رأس المال الخاص المستغل ونزعاته الجامحة".(2)
وكان يعتقد "إن اتساع مسافة التخلف في العالم بين السابقين وبين الذين يحاولون اللحاق بهم لم تعد تسمح بأن يترك منهاج التقدم للجهود الفردية العفوية التى لا يحركها غير دافع الربح الأناني.
إن هذه الجهود بالتأكيد لم تعد قادرة على مواجهة التحدي.(3)
وأضاف عبد الناصر "إن مواجهة التحدي لا يمكن أن تتم إلا بثلاثة شروط:
1 ـ تجميع المدخرات الوطنية،
2 ـ وضع كل خبرات العلم الحديث في خدمة استثمار هذه المدخرات،
3 ـ وضع تخطيط شامل لعملية الإنتاج. (4)
ومن ثمة، كان ضرورياً أن يكون "الحل الاشتراكي هو الطريق الوحيد الذي يمكن أن تتلاقى عليه جميع العناصر في عملية الإنتاج على قواعد علمية وإنسانية تقدر على مد المجتمع بجميع الطاقات التي تمكنه من أن يصنع حياته من جديد وفق خطة مرسومة مدروسة وشاملة".(5)
ويصل إلى "إن الاشتراكية العلمية هي الصيغة الملائمة لإيجاد المنهج الصحيح للتقدم".(6)
وحتى ينجز التحول الاشتراكي، لابد من القيام بعمليات واسعة للتأميم وهو "ليس إلا انتقال أداة من أدوات الانتاج من مجال الملكية الخاصة إلى مجال الملكية العامة للشعب.
وليس ذلك ضربة للمبادرة الفردية كما ينادي أعداء الاشتراكية، وإنما هو توسيع لإطار المنفعة وضمان لها في الحالات التي تقتضيها مصلحة التحول الاشتراكي الذي يتم لصالح الشعب".(7)
كذلك "ليس التأميم كما تنادي بعض العناصر الانتهازية، عقوبة تحل برأس المال الخاص حين ينحرف ولا ينبغي بالتالي ممارسته في غير أحوال العقوبة.
إن نقل أداة من أدوات الانتاج من مال الملكية الفردية إلى مجال الملكية العامة أكبر من معنى العقوبة وأهم".(8)
وأضاف عبد الناصر في (الميثاق) "إن الاشتراكية مع الديمقراطية هما جناحا الحرية وبهما معاً تستطيع أن تحلق إلى الأفاق العالية التي تتطلع إليها جماهير الشعب".(9)
كما تعتبر "الكلمة الحرة ضوء كشاف أمام الديمقراطية السليمة... إن حرية الكلمة هي المقدمة الأولى للديمقراطية... وسيادة القانون هي الضمان الأخير لها.
وحرية الكلمة هي التعبير عن حرية الفكر في أي صورة من صوره.
كذلك فإن حرية الصحافة وهي أبرز مظاهر حرية الكلمة يجب أن تتوافر لها كل الضمانات".(10)
"وإنه لمن ألزم الأمور هنا تشجيع الكلمة المكتوبة لتكون صلة بين الجميع يسهل حفظها للمستقبل، كما أنها تستكمل حلقة هامة في الصلة بين الفكر والتجربة".(11)
إن مجموع هذه الأفكار هي التي دفعت بالرئيس جمال عبد الناصر إلى ضرورة (تأميم) الصحافة في (الجمهورية العربية المتحدة) ونقلها من الملكية الخاصة إلى ملكية القطاع العام كغيرها من القطاعات الأخرى، وحدث صدام بينه وبين محمد حسنين هيكل في هذا الموضوع حينما اختلفت وجهتا نظرهما.
كانت المناقشات حول ملكية الصحافة في مصر، طويلة بين جمال عبد الناصر ومحمد حسنين هيكل، حيث امتدت من سنة 1952 إلى سنة 1960 ولم يكن عبد الناصر راضياً فيها عن الملكية الفردية أو العائلية للصحف.(12)
وفي احدى المرات دعا هيكل إلى بيته وجلس معه لواحدة من أصعب مقابلاتهما.
قال عبد الناصر فيها إنه مهما كانت آراؤه في موضوع الصحافة فهو الآن واصل إلى اقتناع كامل بأنه لا يستطيع أن يترك الأمور كما هي.
واستدرك يقول لهيكل: "لا تتصور أنني أريد أن أتخلص من أحد، لو أردت أن أتخلص من أحد فأنت تعرف أن لدي من الشجاعة ومن السلطة ما يسمح لي بأن أقول له اذهب إلى بيتك، ثم أنك ترى أن الكل يتسابق إلى التأييد أحياناً بأكثر مما أريد لكن القضية أكبر من ذلك".(13)
ثم قال: "أنت تعلم أن لدي تحفظاتي ولدي شكوكي حتى في الذين يتسابقون إلى التأييد ومع ذلك فهذه التحفظات والشكوك لا أثر لها فيما اعتزمه الآن كما قلت لك هناك قضية أهم".(14)
ثم استطرد: "إننا مقبلون على تحولات اجتماعية كبيرة، وقد بدأت هذه التحولات بتأميم البنك الأهلي وبنك مصر، إذا كنا نريد إجراء تحولات اجتماعية عميقة في مصر فلا بديل عن سيطرة المجتمع على وسائل المال والإنتاج، ولا استطيع عقلاً ولا عدلاً أن أفرض سيطرة المجتمع على الاقتصاد ثم أترك لمجموعة من الأفراد أن يسيطروا على الإعلام.
إنهم لا يسيطرون الآن عملياً لأن الثورة قوية وذلك مجرد خوف، وأنا لا أثق في خائف خصوصاً إذا تغيرت الظروف، ثم إن المرحلة الجديدة من التحول الاجتماعي تحتاج إلى تعبئة اجتماعية شاملة، وأعرف أن الموجودين الآن سوف يصفقون لأي قرار، لكن المطلوب شيء آخر غير التصفيق".(15)
وفي مقابلة أخرى مع هيكل، قال عبد الناصر: "إنني معك أن أوضاع الصحافة تحتاج إلى بحث جديد"، ثم أضاف يذكره بأنه أثناء قانون سنة 1960 أتاح له الفرصة، أن يقترح ما يمكن إدخاله عليه من تعديلات لضمان دور الصحافة في المجتمع وحريتها في خدمة أهدافه.
ثم قال له الرئيس، أنه لا يمانع في صيغة تعاونية لملكية الصحف على أن تبدأ بتجربة محدودة في "الأهرام" مثلاً ثم تعمم بالنسبة لباقي الدور الصحفية.
ثم طلب منه أن يقلب الأمر على كل جوانبه ثم يتقدم إليه باقتراحات محددة وتحول اللقاء إلى ما كان يمكن أن يصبح نقطة تحول في تاريخ الصحافة.(16)
إن نزعة التأميم واضحة، في وجهة نظر عبد الناصر ومرجعيتها أكثر وضوحاً في (الميثاق) ومن حيث المبدأ فإن اختياره في ضرورة أن تكون ملكية الصحف ملكية عامة، كان اختياراً نهائياً، لكنه آثر أن يستمع إلى وجهة نظر المختصين في الميدان الإعلامي، وأقربهم إليه كان محمد حسنين هيكل.
2 – وجهة نظر هيكل
يعتقد هيكل أنه وقف في الفترة ما بين سنة 1956 إلى سنة 1960 وحده تقريباً في محاولة الدفاع عن "الواقع الراهن في الصحافة" حتى لو أدى الأمر إلى ملكية الأفراد والعائلات. فقد بدا له ذلك أهون الضررين وأخف الشرين. وكان للثورة وقائدها وللتنظيم السياسي ورجاله رأي آخر.(17)
وكان يرى غير ما يراه عبد الناصر, ويناقشه مطولاً ومفصلاً، وفي بعض الأحيان كان يستطيع أن يفهمه ولكنه لم يكن يتصور في نفس الوقت أن تتحول الصحف من ملكية الأفراد أو العائلات إلى ملكية الدولة، فقد بدت له تلك كارثة، ولم يكن هناك حل وسط.(18)
وفي أحد حواراته مع الرئيس، يذكر هيكل: "ورحت أناقشه وأحاوره، وإن بدأ لحظة بعد أخرى أنني على وشك أن أخسر المناقشة والحوار. وكانت القضية بالنسبة له قضية مبدأ، وهو مبدأ يتصل بغيره من المبادئ التي تحكم رؤيته لمدى التحولات الاجتماعية.
ثم قال لي جمال عبد الناصر: "إن ما يدهشني أنك تنظر إلى الموضوع بحساسية شديدة، ثم إنك تنظر إليه من وجهة نظر أشخاص".
وقلت: "إن خشيتي في الواقع على المهنة".
وكان رده: "فكر في أية ضمانات تريدها للمهنة. ولنلتق هنا غداً في الحادية عشر صباحاً، سوف يكون معنا محمد فهمي السيد (المستشار القانوني للرئاسة وقتها)".(19)
وفي اليوم التالي حاول بكل ما يستطيع، وربح بعض النقط وخسر بعضها الآخر.
ربح ـ فيما يظن ـ عندما استطاع أن يستعبد منطق التأميم بحدوده القاطعة ووصلا إلى صيغة أخرى تسمح بمرونة، وهكذا كان (تنظيم الصحافة) وليس (تأميمها).
وحاول أن يجعل الملكية مشتركة بين التنظيم السياسي وبين جمعية العاملين في كل دار صحفية 50% لكل فريق، ولم يقبل جمال عبد الناصر وخرج باقتراح وسط، انتقال الملكية إلى التنظيم السياسي وليس إلى الدولة واحتفاظ كل صحيفة بأرباحها داخلها، ثم توزيع هذه الأرباح مناصفة، نصف للتجديد والإحلال في دور الصحف والنصف لجمعية العاملين في كل دار صحيفة.(20)
وعندما صدرت المذكرة التفصيلة لنصوص القانون في يوم 24 مايو 1960 اعترض هيكل عليها فقد أحس أن المنطق والمبررات والأسانيد الواردة فيها يمكن أن تحتمل ما يمكن اعتباره نقداً لما كانت عليه الأحوال في المهنة، الأمر الذي استوجب إعادة ترتيب هذه الأحوال بالقانون.(21)
ويشهد أن جمال عبد الناصر كان صبوراً، فقد قال له: "دعك من مذكرة فهمي واكتب أنت واحدة غيرها".
وكتب مذكرة كانت في الواقع إعلاناً بتأكيد حرية الصحافة أكثر منها مذكرة تفسيرية لنصوص القانون.
ويعترف هيكل، عن سبب تخوفه من القانون الجديد قائلاً: "ولا بد أن أقول أن بعض أسباب تخوفي من القانون الجديد كانت ذاتية، ففي ذلك الوقت كان قد مضى علي في رئاسة الأهرام ثلاث سنوات وكان التيار فيها قد تحول. فالأهرام بدأ يربح بدلاً من الخسارة، ثم إن توزيعه بدأ يصعد بدلاً من الهبوط وكنت قد اتفقت مع مجلس إدارته – وأنا أعرض أمام أعضائه تقريري الأول عن خطة العمل التي اقترحها- أنه إذا حقق الأهرام أرباحاً فإنه يكون مسموحاً لي أن أبدأ بتطوير منشآت الأهرام (المبنى والمطابع).
وكنا في الميزانية التقديرية المقترحة لعام 1960 قد رصدنا فعلاً أول اعتماد لمشروع تطوير الأهرام الجديد بعد أن تأكد أصحابه أن التيار تحول".(22)
ويضيف هيكل: "والآن كان تخوفي أن مشروع تطوير الأهرام قد يتوقف بعد أن بدأ خطواته الأولى، فالقانون الجديد يضعنا أمام احتمالات مجهولة لا أعرف هل أستطيع في ظلها أن أواصل، أو أنه سيفرض علي أن أطوي ملفات الخطط والبرامج والرسوم مودعاً حلمي إلى الأبد".(23)
وصباح اليوم الذي أذيعت فيه نصوص القانون دعا كل أسرة تحرير الأهرام إلى اجتماع عام لكي يتشاور معهم في الأوضاع الجديدة.
وشرح لهم في البداية موقفه. قال أنه لم "يكن متحمساً للقانون من ناحية المبدإ وفوجئ بزميلته الراحلة السيدة جاكلين خوري تقاطعه قائلة: هل نستطيع ان نسألك: "لماذا؟ أو ليس الوضع في ظل القانون الجديد أحسن مائة مرة للمهنة وللصحفيين من الملكية الخاصة للصحف.؟"
وبدا له أن تياراً قوياً يؤيدها، ودهش، واستطرد يشرح مجمل الأسباب التي كانت تدعوه ـ من ناحية المبدإ ـ للتخوف، وكان أولها قلقه من احتمالات تدخل التنظيم السياسي ـ الذي انتقلت الملكية إليه ـ في سياسات الصحف وتوجيه تحريرها بدعوى القانون.
ثم كان هناك أيضاً خوفه من احتمال تأثير الظرف الجديد على مشروعه لتطوير الأهرام، وقد قال للجميع، إنهم أمام معركة جديدة ويجب أن يقاتلوا فيها.(24)
ووصل حديثه إلى جمال عبد الناصر، فاتصل به هاتفيا، معاتباً وقال له أن تقريرا وصل إليه عما قاله في اجتماع الأهرام ومع تقديره لكل الظروف فهو يرى أنه يضعف موقفه بهذه المسافة التي أراد أن يضعها بينه وبين القانون الجديد، وأنه سمع تحفظاته من ناحية المبدإ وحأول بكل جهده أن يريحه في التفاصيل، وبذلك فإنه لم يعد هناك داع لأن يعود فيتخذ موقفاً سلبياً من القانون، خصوصاً وأن هناك من قد ينتهز هذه الفرصة.
ثم قال له الرئيس "إنهم حاولوا أن يصوروا لي قولك: "بإننا يجب أن نقاتل"، على أساس أنها معركة ضد القانون ولقد قلت لهم، إن هذا التعبير يجري على لسانك كثيراً في صدد مواجهة أي عقبة وأن ذلك لا يعني أنكم في معركة ضد القانون وإنما أنكم في معركة لإثبات أنفسكم في الأهرام في ظل هذا القانون". ورد عليه هيكل أن ما فهمه عنه صحيح وذلك كما قصده.(25)
ونقل البعض رأي هيكل إلى وكالات الانباء وإلى الصحف في الخارج.(26)
واهتم هيكل بتجربة الملكية التعاونية لجريدة "لوموند" الفرنسية وحاول دراسة تفاصيلها ولأجل ذلك دعا "بيف ميري" رئيس مجلس إدارة "لوموند" ورئيس تحريرها ليكون ضيفا عليه في القاهرة.(27)
وحاول أن يبلغ فكرته هذه لعبد الناصر فقال له: "إن فكرة الملكية التعاونية تتحدد في ذهني أكثر فأكثر كل يوم كبديل للملكية الفردية للصحف أو للملكية العامة لها أو حتى للوضع المعلق في الهواء الذي انتهى إليه قانون تنظيم الصحافة".(28)
وتفرغ في شهر سبتمبر 1965 لدراسات مطولة، ومناقشات واجتماعات، حول ما عرضه من أفكار على جمال عبد الناصر بشأن الملكية التعاونية للصحف بدءا بالأهرام ثم تعمم على بقية الدور إذا نجحت التجربة.
وانتهيا إلى صيغة إنشاء (هيئة الصحافة العربية المتحدة) وقد تولى الدكتور جمال العطيفي وضعها في القالب القانوني وقدمها للرئيس جمال عبد الناصر ليبدي فيها رأيه، فإذا أقرها قام بتوقيعها بوصفه رئيسا للاتحاد الاشتراكي العربي الذي آلت إليه ملكية الصحف بنص قانون التنظيم.(29)
ومساء يوم 15 أكتوبر، رن الهاتف في بيت هيكل، وكان جمال عبد الناصر على الخط يقول له، إنه قرأ مشروع إنشاء "هيئة الصحافة العربية المتحدة"، وقد أعجبه وهو يرى الآن ـ لأسباب عديدة ـ أن تنظم دار "أخبار اليوم" تحت أحكامه كالأهرام وأن يكون هو رئيسا لمجلس إدارة الهيئة الجديدة. وقال له أيضا:
"سوف أترك "الجمهورية" للتنظيم السياسي في الاتحاد الاشتراكي وأعهد بالإشراف عليها إلى علي صبري، ولتكن هي جريدة التنظيم أما الصحافة المحترفة ـ وبالدرجة الأولى دار الأهرام ودار أخبار اليوم ـ فلتدخل جميعا في إطار ما اقترحته وما وافقت عليه".
وحاول هيكل أن يناقش قراره، ولم تكن هناك جدوى، فقد قطع في الأمر برأي نهائي حين قال "سوف أخطر الآن خالد محي الدين وغدا ترتب أن تلتقي معه لكي تتسلم (أخبار اليوم) وتنظيم أوضاعها استعدادا لإنشاء الهيئة الجديدة.
ولم يكن هيكل مستريحاً.(30) معللاً ذلك بقوله: "إن إشرافي على صحف دار "أخبار اليوم" إلى جانب صحف دار الأهرام، تركيز للقوة الصحفية في يد واحدة بأكثر مما هو ضروري وصحي... فقد رأيت أن يكون لأخبار اليوم وضع مستقل حتى عن الشخص المفوض بسلطات مجلس إدارتها.(31)
ويضيف: "وفي كل الأحوال (فلقد) رجوت الرئيس جمال عبد الناصر أن يعتبر قيامي باختصاصات رئيس مجلس إدارة "أخبار اليوم" - في إطار هيئة الصحافة العربية المتحدة- إجراءاً مؤقتاً إلى حين يتسنى لي اختيار بديل".(32)
ونشر قرار تخويله سلطة مجلس إدارة أخبار اليوم إلى حين إتمام إجراءات مناقشة وصدور قانون إنشاء هيئة الصحافة العربية المتحدة يوم 17 أكتوبر 1965.(33) ويوضح هيكل هذه المسألة أكثر في مكان آخر حينما يقول: " لقد حدث بالفعل في ذلك الوقت خلاف على الصحافة... السيد علي صبري كان في تفكيره إنشاء المجلس الأعلى للصحافة، ولكننا في الأهرام كنا نقاوم هذه الفكرة ووضعنا بدلا منها فكرة الصحافة العربية المتحدة التي تتضمن الصيغة التعاونية للملكية مع الإدارة... لأننا في هذه التجربة كنا نريد أن نحقق فصل الإدارة عن الملكية وقلنا في ذلك الوقت أنه إذا كان الاتحاد الاشتراكي هو المالك فعلا فإننا بهذا المالك، نستأجر منه رخصته التي يملكها ونعطيه قيمة هذا الإيجار، وما تبقى لا تكون له علاقة به".(34)
في مجال (الإذاعة والتلفزيون) حاول هيكل أيضا أن يبعد هذا الجهاز عن السلطة المباشر للحكومة، ويشرح ذلك: " بعد أن قبلت وزارة الإعلام اتصلت بمصطفى خليل وعرضت عليه أن يكون رئيسا لاتحاد الاذاعة والتلفزيون"، وعلى أساس ألا يكون خاضعاً لسلطة وزير الإعلام الذي يكون عضوا تحت رئاسته في المجلس... وبدأنا معا نضع تنظيماً (للإذاعة والتلفزيون) قريبا من نظام (B.B.C.) في صورتها المستقلة على الدولة وعلى أساس أن يكون متوازياً في الوقت نفسه مع فكرة (الصحافة العربية المتحدة).
وعاد الدكتور مصطفى خليل من لندن وبدأ مناقشات موسعة لصياغة القانون وتولى كتابة مشروعه في النهاية الدكتور جمال العطيفي ... وعندما تم وضع مشروع القانون وأحيل إلى مجلس الدولة اعترض عليه مجلس الدولة، وقال أن الوزير في نطاق اختصاصه لا يمكن له التنازل عن اختصاصه لشخص آخر ولابد للوزير أن يرأس "اتحاد الإذاعة والتلفزيون"، من أجل المساءلة الدستورية، ورغم هذا رفضت واقترحت ـ إن استدعى الأمر ـ تعديل القوانين، وصدر قانون "اتحاد الإذاعة والتلفزيون"، كما أردته فعلاً ووقعه جمال عبد الناصر كما وضعناه، وكنت اعتبره جزءاً من تنظيم شامل لوسائل الإعلام لأنني عندما كنت أتحدث عن الصحف في ذلك الوقت كنت أتصور أن يكون لكل صحيفة مجلس أمناء يمثل المجتمع... وهذا النظام على سبيل المثال قامت به جريدة "التايمز" التي كانت مملوكة ملكية فردية لعائلة "آستور"، وأحس ملاكها أن هناك حملة في إنجلترا ضد الملكية الفردية ففكروا في شيء جديد وأعلنوا أنهم وأن كانت ملكيتهم للصحيفة فإنهم سيقومون حاجزاً Barrier بينهم وبين رئيس التحرير...".(35)
لكن بعد خروجه من الوزارة تم الغاء المشروع وعاد الجهاز إلى تبعية وزير الإعلام.(36)
وفي سنة 1976 ألغي أنور السادات قانون الصحافة العربية المتحدة، وخرجت الصحف في ذلك الوقت تقول بإسقاط قبضة هيكل عن الجرائد، رغم أنه في وقت الإلغاء كان له أكثر من سنتين بعيدا عن الصحف والصحافة.(37)
حاول هيكل، طيلة فترة التأميمات الكبرى التي شهدتها بلاده أن يخفف من حدة وقعها على الصحافة، رافضا فكرة تأميم الصحف، باحثا عن حل أكثر مرونة، لا يعطي ملكيتها للأفراد، وفي نفس الوقت يحميها من (شبح) الحكومة والدولة، ووجد تفهما نسبيا من الرئيس جمال عبد الناصر، الذي أتاح له فرصة تكوين (هيئة الصحافة العربية المتحدة) و(اتحاد الاذاعة والتلفزيون) لكن بمجرد رحيل عبد الناصر، وبعد خلافه مع السادات، تم إلغاء المشروعين.
كما كان هيكل متأثرا بصيغة (الملكية التعاونية) التي تنتجها صحفية "لوموند" الفرنسية، وتجربة إذاعة (B.B.C.) في استقلالية الإذاعة عن الحكومة، وحأول أن ينقل بعضاً من ملامحه إلى بلده.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن