هيكل أو الملف السري للذاكرة العربية 4

رياض الصيداوي

2007 / 2 / 17

الفصل الثاني
تجربة "الأهرام" (1957- 1974)
كان "سليم تقلا" صاحب "الأهرام" واحد من الصحفيين الذين جاءوا إلى مصر من سوريا تزلفاً للخديو إسماعيل الذي كان يميل بطبعه إلى الدعاية ويسيطر عليه حب الظهور، وكان في حاجة إلى صحافة تؤيده... وقد جاء صاحب "الأهرام" لهذا السبب وأيضاً هربا من جور السلطان العثماني عبد الحميد وبطشه. وفي 27 ديسمبر 1875 قدم ملتمساً لإنشاء مطبعة الأهرام ووافقت عليه الحكومة.
وصدر العدد الأول من "الأهرام" في 5 أغسطس سنة 1876 متكوناً من 4 صفحات ثم أصبح صحيفة يومية ابتداءا من يوم الإثنين 3 يناير 1881(1)
وفي سنة 1957 يصبح محمد حسنين هيكل رئيسا لتحريره.
1- دخول "الأهرام"
ثاني محاولة لدخول هيكل "الأهرام" تمت في ربيع سنة 1956عندما عاد الشمسي (باشا) يلح عليه ويبدي لإلحاحه أسباباً كثيرة بينها أن "الأهرام" سوف يكون امتحاناً حقيقياً لما يستطيع عمله كصحفي...(2)
ولأسباب متعددة وقتها وجد نفسه يسمع باهتمام إلى علي الشمسي (باشا) ثم وجد نفسه يذهب إلى صديق يثق به وهو شيخ المحامين الأستاذ مصطفى مرعي وتحمس الأستاذ مرعي وقال أنه سيكون محاميه في التعاقد مع أصحاب "الأهرام". وبالفعل ذهب معه لعدة لقاءات مع عضو مجلس الإدارة المنتدب وقتها الأستاذ ريمون شميل، وتقدمت محادثاتهم إلى درجة كتابة عقد وقعوا عليه بالأحرف الأولى تسجيلا للنوايا وتمهيدا لاتفاق نهائي.
ثم رجا منهم هيكل ترك الموضوع حيث هو حتى يتحدث فيه مع أصحاب "أخبار اليوم".(3)
لكن أصحاب "أخبار اليوم" تمكنا من إقناعه بضرورة إلغاء العقد واستمراره معهما... وتواصل هذا الوضع إلى يوم 6 أبريل 1957، ففي هذا اليوم، التقى هيكل في (نادي الجزيرة) مع علي الشمسي (باشا) ودون أية حسابات. ولعله كان العقل الباطن يدفع الكامن فيه على السطح، وجد نفسه يقول للشمسي (باشا): "إنني سوف أريحك إلى أبعد حد، في العام الماضي عرضوا علي "الأهرام" واعتذرت، وفي هذا العام أنا الذي أعرض نفسي على "الأهرام"..."(4)
وجرت اتصالات وحضر آخرون وانتهى المساء بتوقيع العقد الملزم للطرفين، وأخذ نسخته منه وذهب إلى بيت الأستاذ مصطفى مرعي يسأله رأيه، وكان تعليقه "خير ما فعلت".(5)
وحتى لا يصطدم مع أصحاب "أخبار اليوم" ولا يخضع مرة أخرى لتأثيرهما، استقر رأيه على تأدية استقالته كتابياً وعن طريق خطاب يشرح فيه المسألة للأستاذين مصطفى وعلي أمين، فلم يكن يريد لهما ولا لنفسه تكرار ذلك المشهد المشحون في مكتب علي أمين قبل عام واحد.
وهكذا ترك لهما خطاباً وسافر إلى الاسكندرية دون أن يترك عنوانه لأحد.
وحين عاد إلى القاهرة بعد عشرة أيام كان النبأ قد تسرب وأصبح حديث المحافل الصحفية، وأصبحوا جميعاً أمام أمر واقع يفرض نفسه على الكل.(6)
ورغم دخوله "الأهرام" فقد التقى هيكل مع الأخرين في مكتب علي أمين... واتفقوا على شيئين:
أولهما: أنه تحت أي ظرف لا ينبغي أن يبدو انتقاله إلى "الأهرام" انفصالاً في نفس الوقت عن "أخبار اليوم" وهكذا فإنه سيحتفظ برئاسة تحرير "آخر ساعة" إلى جانب "الأهرام" لمدة سنة.
والثاني: أن يكون هناك لقاء منظم بينهم كل أسبوع، لا يحتاج إلى دعوة أو توكيد وهكذا أصبح موعدهم الغداء يوم الثلاثاء من كل أسبوع في بيت الأستاذ مصطفى أمين يلتقون فيه ويتحدثون ويتبادلون الرأي فيما يعن لهم من أمور. واستمر غداء الثلاثاء بغير انقطاع ثماني سنوات لم يخلفوا موعداً لسفر أحدهم أو لعذر قاهر على غير انتظار.(7)
وفي نفس الفترة التي وقع فيها عقد "الأهرام" كانت علاقته بجمال عبد الناصر متطورة، سمحت لهيكل أن يقول لعبد الناصر في غرفة مكتبه في بيته، بمنشية البكري، وبدون مقدمات "إنه وقع عقداً مع الأهرام".(8)
وكان الأمر مفاجئاً لعبد الناصر وكان تعليقه الأول: "أليس غريباً أن تقبل العمل في "الأهرام" وأصحابه أسرة تقلا بينما اعتذرت عن العمل في "الجمهورية" وأنا صاحبها؟".
فقال له هيكل "إن "الأهرام" له صاحب استطيع أن أتعامل معه مهنياً، وأما "الجمهورية" فلا يمكن أن يكون لديك الوقت لممارسة مسؤوليات صاحبها وبالتالي فهي بلا صاحب، وهذا يجعلها مهنياً معضلة شبه مستحيلة".
وقال له عبد الناصر أيضاً "سوف تتعب مع هؤلاء الناس، ما أسمعه غير مشجع ولا أظنهم يتركون لك الفرصة لتفعل ما تريد..."
وأجاب هيكل: "الحكم بيني وبينهم هو العمل نفسه... هم يريدون نجاحاً لجريدتهم وهو ما أريده أيضاً، الموقف كله يختلف إن لاحت علامات نجاح."
وراح عبد الناصر يفكر قليلاً ثم سأله: "هل هناك مشاكل في "أخبار اليوم"". فرد هيكل على الفور: "مطلقاً، كل شيء هنا في مجراه العادي، لكني أشعر أنني وصلت – مهنياً – إلى آخر السلم فيما يمكن تحقيقه في "أخبار اليوم". في "الأهرام" شيء مختلف، سلم جديد من بدايته والطريق طويل، وهو في كل الأحوال امتحان أشعر إني متحمس لدخوله".
وكان عبد الناصر كريماً مشجعاً وقال: "الأمر لك كما تراه، فهو عملك ومستقبلك وإن كنت لا أخفي إنني مشفق عليك من عناء تجربة جديدة مع اعتقادي أنك قادر على النجاح".(9)
وبعد ثلاث سنوات من عمل هيكل في "الأهرام" أبلغه عبد الناصر بقرار أصدره بضم "دار الهلال" إلى "الأهرام" في التشكيلات الجديدة لمجالس الإدارات... وكان من قبل قد أبعد نفسه تماماً عن قضية تشكيلات مجالس الإدارات دفعاً لأية حساسية وعاد الآن يرجوه أن يعفي "الأهرام" من "دار الهلال" لأن كل من الدارين لها طبيعة مختلفة. وتجاوب معه عبد الناصر وقال له: "لقد وقعت التشكيلات وصدرت فعلا وسوف تصلكم في الصحف بعد قليل، ولا يصح إدخال تعديل عليها الآن وإلا بدا وكأن شيئا أضيف اليك قد نزع منك. غدًا، نصدر تعديلاً يتعلق بدار الهلال، وينشر. إن ذلك تم بناءاً على طلبك حتى لا يسئ أحد تفسير القرار".(10)
ويمكن أن نستنتج من الحوارين السابقين بين عبد الناصر وهيكل، أن الصحفي الشاب، بدأ يدعم مركزه الصحفي، ويحمي موقعه الجديد، من خلال علاقته بالمسئوول الأول عن الثورة، باستشارته في كل خطوة حاسمة يتخذها في حياته المهنية. فقد اتبع أسلوب إعلام عبد الناصر بكل القرارات الهامة التي يتخذها، ربما حتى إذا ما كانت نتائجها عكسية يكون لعبد الناصر دور تخفيفها باعتباره شارك هيكل في القرار ولو بالعلم به فقط.
أما عن طبيعة وضع "الأهرام" عندما استلمه هيكل، فقد تميز بالانحدار والخسارة، حيث كانت "الأهرام" تخسر مادياً طوال السنوات العشر السابقة. وكانت خسائره تزيد في تلك الفترة على مليون ونصف جنيه سنوياً. وكان توزيع الأهرام في ذلك الوقت في حدود 68 ألف نسخة بما فيها الاشتراك. وكان هذا التوزيع يتناقص – كما كانوا يقولون – بعدد إعلانات الوفايات في الأهرام. وكانت معظم تجهيزاتها الفنية من آلات ومعدات مصنوعة في فرنسا في الفترة ما بين 1904 و1928، وكان رأسمال الشركة التي تصدر الأهرام هو أربعمائة ألف جنيه مصري، زادت خسائر الأهرام عنها عدة مرات في السنوات السابقة إلى الحد الذي دعا أسرة (تقلا) إلى التفكير في بيع الأهرام، وكان بين الذين حاولوا شراءها في ذلك الوقت، دار التحرير للطبع والنشر، وكانت تملكها الحكومة وكان رئيس مجلس إدارتها هو الرئيس أنور السادات نفسه الذي تفاوض في عملية الشراء. وكان المبلغ الذي جرى التفاوض عليه هو أربعمائة ألف جنيه – رأسمال الشركة – وأربعمائة ألف أخرى في مقابل اسم الشهرة. هكذا كانت الأهرام كلها مقدرة بثمانمائة ألف جنيه مصري"(11) حينما تسلم هيكل أمورها سنة 1957.
وتمكن الصحفي الشاب بفضل حماسه وخبرته وعلاقاته من الصعود بالأهرام إلى قمة النجاح.
2- إنجازات في "الأهرام"
يتميز النجاح الذي حققه هيكل في الأهرام بشموله للبعدين المادي والمعنوي معا.
فمن الناحية المادية، نجد أن الأمور اختلفت كلها اختلافاً شاسعاً عن سنة 1957، تاريخ تسلمه لمسؤولياتها، فبعد سبعة عشر عاماً، عندما ترك هيكل الأهرام سنة 1974، أصبحت موجودات الأهرام "تزيد عن أربعين مليون جنيه، وحجم عملياتها السنوية يدور حول مائة مليون جنيه.
ووصل متوسط توزيعها إلى ثلاثة أرباع مليون نسخة كل يوم، بما في ذلك عدد الجمعة الخاص.
وكانت أرباحها السنوية تصل إلى ما بين ثلاثة وأربعة ملايين جنيه.
وكانت سمعتها العربية والدولية التي تأسست وتأكدت في تلك الفترة تجعلها واحدة من الصحف العشر الكبرى في العالم طبقاً لتقرير نشرته جريدة "التايمز".
وأصبحت دار الصحيفة، بما فيها من تجهيزات حديثة ومعدات، واحدة من الدور الصحفية الثلاثة الأكثر تقدماً في العالم، وذلك بشهادة مؤتمر الصحافة العالمي في لوس أنجلوس سنة 1971.
إن كل ذلك تم بدون أية معونات خارجية وبدون أية مساعدات وإنما تم بالعمل الإنساني وحده لكل الذين شاركوا معه في إعادة بناء "الأهرام"".(12)
ويتحدث هيكل عن تجربته في الأهرام باعتزاز وفخر كبيرين فيقول عنها: "... كنت أتمنى لو استطعت أن أتحدث عن مدرسة جديدة في إدارة الصحف ظهرت وازدهرت تلك الأيام في الأهرام وكنت أتمنى لو استطعت أن أتحدث عن آلاف من عمال الأهرام يمثلون شيئاً مختلفاً في طاقة العمل المصرية، كانوا أقل من ثلاثمائة حين دخلت الأهرام وتركتهم هناك قرابة ستة آلاف، كثيرون منهم أتيحت له فرصة التدريب خارج مصر، بل أن بعضهم أضاف في أنجلترا نفسها تحسينات تكاد تصل إلى درجة الاختراع على بعض الآلات التي ذهبوا يتدربون عليها، وكنت أتمنى لو استطعت أن أتحدث كيف استطاع الأهرام في ذلك الوقت أن يسبق إلى عصر الكمبيوتر ...".(13)
كما أشرف هيكل على تأسيس مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، وكان الهدف من ذلك المركز إثراء الحوار في قضايا الإستراتيجيا العامة دون أن يتعرض لأية أسرار، ولقد كان حريصاً على استقلال المركز عن كل الأجهزة الرسمية للدولة، ولم يكن في حاجة إلى شيء من هذه الأجهزة ولا حتى في مجال المعلومات، فقد كان المركز يتبادل الدراسات مع غيره من مراكز الدراسات الإستراتيجية في العالم، ويقصر اجتهاداته على ما هو متاح من المصادر العلنية المنشورة للمعلومات، وهو فيض لا ينقطع. ويعتقد هيكل أن ما كان لديه من المعلومات أكثر بكثير مما لدى أجهزة الدولة، وذلك بالطبع في المجالات التي يهتم بها وكانت مهمة المركز أن يشترك في الحوار العالمي الدائر حول القضايا الإستراتيجية، ولم يكن في مهمته كما تصورها أن يجيب على أسئلة توجه لهم من مسؤولين.(14)
وفيما يتعلق بالناحية المعنوية، فقد نجح "الأهرام" في أن يصبح "منبراً يكاد يكون وحيداً للدفاع عن حرية الرأي والنقد"(15). ويعتقد هيكل أن ذلك لم "يكن لامتياز خاص ادعيته لنفسي أو أعطاه لي غيري، إنما كان عن إيمان بدور الصحافة الحرة"(16).
ويشرح ذلك قائلاً: "إن الأهرام يستمد قيمته من حريته، وهي حرية حرصنا دائماً أن تكون حرية مسؤولة. وفي ممارستها، فإننا نشرنا كثيراً من الآراء المفتوحة لأكبر كتاب مصر مما جعل "الأهرام" وقتها حصناً منيعاً لمثقفي مصر"(17).
وعمل هيكل على حماية كل من يكتب في "الأهرام" مستغلاً اتفاقه مع الرئيس عبد الناصر بشأن حرية "الأهرام". ويقول عن هذه الحرية أنها "جزء من حرية الصحافة، اعتبر نفسي مسؤولاً عنه مباشرة لأنه في صميم اختصاصي وعملي".(18)
كما تجرأ هيكل على نقد التجاوزات التي تقع في التجربة المصرية، كما حدث في الصدام الذي وقع بين "الأهرام" وبين جهاز المخابرات، وهو الصدام الذي انعكس فيما كتبه تحت شعار "زوار الفجر" هذا إلى جانب ما كتبه زملاء له في "الأهرام" أبرزهم الدكتور عبد المنعم الشرقاوي الذي تعرض أثناء اعتقاله إلى ما لم يكن ينبغي أن يتعرض إليه، والأستاذ توفيق الحكيم الذي نشر له مسرحية (بنك القلق) والأستاذ نجيب محفوظ الذي نشر له العديد من أعماله التي تعرضت بالنقد الشديد لبعض تجاوزات التجربة(19)، مثل روايتيه (ثرثرة فوق النيل) و( اللص والكلاب) وغير ذلك... وكان هناك غير هؤلاء ممن تعرضوا بالنقد الشديد لبعض جوانب التجربة. ويعتقد هيكل أن الأهرام في ذلك الوقت ورغم قرب رئيس تحريرها بصداقة حميمة مع الرئيس جمال عبد الناصر، كانت أكثر الصحف التي تعرضت لضربات بعض الأجهزة، وعلى سبيل المثال فقد جرى اعتقال الدكتور جمال العطيفي، واعتقال الأستاذ لطفي الخولي واعتقال الأستاذ حمدي فؤاد والأستاذ أحمد نافع والأستاذ صباغ من هيئة تحرير "الأهرام" ووصل الأمر إلى اعتقال سكرتيرته الخاصة بعد ثلاثة أيام من تعيينه وزيرا للإرشاد.(20)
ويضيف هيكل عن هذا الصراع بقوله " وكنا جميعا في ذلك كله نصد، لا نهرب ولانستسلم... ولا نحول موقفنا إلى حالة غضب شخصي وإنما ندافع عن مبدإ لنا ولغيرنا، وإذن فاننا كنا ننقد التجاوزات ونتعرض لبعضها".(21)
وحاول هيكل من خلال "الأهرام" الدفاع عن حرية الرأي، والتسامح مع الإبداع. وكان متضامناً مع كل من يضطهد في رأيه، ويروي أحمد حمروش(22) الواقعة التالية تأكيداً لهذا المعنى: "ذهب إليه هيكل في مكتبه بـ"الأهرام" القديم وكنت مديراً للمسرح، يتهم فيه مسرحية لسارتر بأنها دعوة للإلحاد... والإباحية... ولم تكن كذلك أبداً... وما كانت الرقابة لتسمح بعرضها لو كانت كذلك.
وعندما قلت له إني فزع مما نشر، رد قائلاً إنه أشد فزعاً لأن أفكارا مثل هذه تسربت إلى صفحات الأهرام".
لقد تميز هيكل بـ"الأهرام" عندما أحاط بها ألمع كتاب ومفكري مصر بصرف النظر عن توجهاتهم الفكرية والسياسية، ليكتبوا فيها ما لا يستطيعون كتابته في صحف أخرى غير "الأهرام". ويلخص هيكل رأيه في هذه المسألة في حوار مع عبد الناصر قال له فيه "ما الذي أريده بكل هذا الحشد من قادة الفكر والمثقفين الذين حشدتهم في "الأهرام"؟ إنهم ليسوا مجرد حلي ذهبية أزين بها صدر "الأهرام" ولكنهم وظيفة ودور لا غنى لمصر عنه ولاغنى له عنها.
آراؤهم كلها، اجتهاداتهم بما فيها من خطأ أو صواب، أفكارهم النافذة إلى كل ركن وناحية من حياتنا الوطنية والقومية- إثراء لهذه الحياة لا حدود له...".(23)
إن سبعة عشر عاماً من العمل على رأس مؤسسة "الأهرام" جعلت هيكل يتربع على عرش الصحافة المصرية والعربية وأوصلته إلى حد أن وكالات الأنباء الخمس الكبرى في العالم كانت تنقل أسبوعيا ما يكتبه في ركن (بصراحة) كل يوم جمعة. وكانت إذاعة (صوت العرب) بدورها تذيع هذا المقال، وكثيرا ما كانت السفارات الأجنبية في مصر تعتمد على تحليل مقال هيكل حتى تكتشف نوايا الحكومة المصرية...
لقد قدم هيكل لـ"الأهرام" أخصب سنوات عمره، وحماس شبابه، طيلة المدة التي عمل فيها على رأسها، حتى أصبحت مسألة مغادرته لها إن اختياراً أو اضطراراً مسألة صعبة تحمل في طياتها شحنات عاطفية قوية.
3 ـ مغادرة الأهرام
(31 يناير 1974)
أصبح موقع هيكل في "الأهرام" مركزاً قوياً في المجتمع المصري كان صاحبه يفضله على منصب الوزارة بل كانت الوزارة تعني له تحديداً من صلاحياته وضرباً لمكانته، فعندما "قال عبد الناصر لهيكل : أنت تفلسف هذه المسائل وأنت صحافي خارج عن الدائرة، أمسك الوزارة وفلسفها من الداخل وأنت وزير"، ومن ثمه أمر عبد الناصر مدير مكتبه للمعلومات ووزير شؤون الرئاسة سامي شرف بأن يذيع قرار تعيين هيكل في الوزارة على الساعة الثانية عشر ظهراً بالإذاعة، وفوجئ هيكل بالقرار".(24)
"فإن هيكل الآن قد اهتز وضعه بنقله من مركز قوته وحلم حياته "الأهرام" وواضح للجميع أن هيكل يرى الدنيا من خلال مركزه".(25)
لقد روى هيكل بنفسه كيف ذهب إلى عبد الناصر حزينا، قائلا : "إن "الأهرام" هي عمره وحياته... وحاول عبد الناصر أن يشرح له أنه في ظروف الحرب يمكن للقائد أن يطلب من أية فاعلية في البلد أن تنتقل من موقع إلى موقع... ولما وجد عبد الناصر تشبث هيكل بـ"الأهرام" رضي أن يبقيه في "الأهرام" شريطة أن يتولى منصبه في وزارة الإعلام".(26)
ولئن استطاع هيكل أن يحافظ على موقعه في "الأهرام" بفضل العلاقة الشخصية التي ربطها مع جمال عبد الناصر، فإن فترة السادات شهدت في البداية تحالفاً قوياً بين الرئيس الجديد وهيكل امتدت من يوم وفاة عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 حتى أواخر شهر أكتوبر 1973 ثم سرعان ما برز خلاف واضح بينهما بسبب ما رآه هيكل من التوظيف السيئ للنتائج العسكرية...
وبلغ الخلاف أوجه في 31 يناير 1974، عندما أبلغ هيكل أن "الرئيس السادات أصدر قرارا بتعيينه مستشارا له، وتعيين الدكتور عبد القادر حاتم رئيساً لمجلس "الأهرام"".(27)
وصباح أول فبراير دعا الدكتور عبد القادر حاتم إلى "الأهرام" لكي يتسلم كل شيئ فيه، وكان رأيه أن من اللائق بــ "الأهرام" وبه أن يتم انتقال متحضر.
وهكذا جمع مجلس الإدارة ومجلس النقابة ومجلس التحرير وقدم لهم الدكتور حاتم باعتباره المسئول الجديد، ثم سلمه تقريراً من العقل الإلكتروني عن اقتصاديات "الأهرام" وتوزيعه وأرباحه.
ثم غادر المبنى لآخر مرة في الساعة الثانية والنصف بعد الظهر عارفاً بأنه لن يعود إليه مرة أخرى مهما حدث أو يحدث...
وسألته وكالات الأنباء العالمية فأصدر تصريحاً مقتضباً يقول فيه: "إنني استعملت حقي في إبداء رأيي على صفحات "الأهرام" ثم استعمل الرئيس السادات سلطته في إبعادي عنه، وهكذا فإن كلا منا مارس ما لديه".(28)
وكانت صحف العالم تعتبر خروجه من "الأهرام" موضوعاً رئيسياً وفي يوم واحد كانت افتتاحيات أربعة من الصحف الكبرى تركز عليه: "لوموند" و"التيمس" و"الواشنطن بوست" و"الداي فليت" وكان ذلك يثير غضب السادات وحفيظته وهو ما كان يتجنبه.(29)
ولم يكن السادات يريد حرمان هيكل من "الأهرام" فقط وإنما كانت غايته حرمانه من الصحافة ومن الكتابة فيها أيضاً. ويقول هيكل في هذه المسألة "استطيع بعد ذلك أن أضيف وقائع محددة أبلغت فيها بأنه لم يعد هناك داع لأواصل الكتابة الصحفية، لأني كما قيل لي أصبحت سياسياً ولم أعد مجرد صحفي. ومع ذلك فلست أرى داعياً إلى سرد هذه الوقائع، فالحقائق واضحة تتحدث عن نفسها بنفسها، ومع ذلك فإني قبلت راضياً نتائج إبعادي عن "الأهرام" فقد كان المهم بالنسبة إلي أن أظل صحفياً ولا شئ غير ذلك".(30)
ويخلص هيكل "مأساته" عندما كتب "وقيل لي مرات أن خطيئتي الكبرى أن الأهرام نجح عالمياً- وكذلك كتاباتي في الدنيا الواسعة بعد خروجي من الأهرام، وأن هذا النجاح في حد ذاته جريمة لا تغتفر".(31)



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن