قراءة جديدة لفلسفة هيجل في الدولة

أشرف حسن منصور
ashrafmansour1@yahoo.com

2007 / 1 / 8

مقدمة:
على العكس مما يقال عن فلسفة هيجل (1770-1831) بوجه عام، و فلسفته السياسية بوجه خاص أنها نظرية ميتافيزيقية و مثالية في الدولة، يهدف هذا المقال إلى إثبات خطأ هذا القول، و ذلك بتوضيح الدلالات الاجتماعية و الاقتصادية و التاريخية لفلسفة هيجل في الدولة، و بتوضيح أن وراء اللغة المثالية التي استخدمها هيجل في فلسفته السياسية تكمن نظرية في الدولة تضاهي و تتفوق على النظريات الليبرالية و الماركسية في نفس الوقت، كما أنها تتمتع بصحة و مصداقية إذا ما وضعناها في محكمة التاريخ، و بدلالات معاصرة إذا قارناها بالصورة التي اتخذتها الدولة بعد عصر هيجل.

و بما أن ماركس (1818-1883) هو المصدر الأول الذي يعتمد عليه كل من يقيم نظرية هيجل في الدولة على أنها مثالية و ميتافيزيقية و رفضها من أساسها بناء على ذلك، و ذلك لأن ماركس هو أول من قيمها هذا التقييم في كتابه "ملاحظات في نقد فلسفة الحق عند هيجل" الذي لم ينشر منه في حياته إلا المقدمة، فوجب علينا تناول هذا النقد الماركسي لنظرية هيجل في الدولة و توضيح سوء الفهم الذي يسود هذا النقد، و في المقابل توضيح أن فلسفة هيجل السياسية ليست مقطوعة الصلة بروح عصره و ظروف مجتمعه، بل تعد استجابة للقضايا التي أرقت هيجل و عصره الذي شهد الثورة الفرنسية و الحروب النابوليونية و عصر عودة الملكية Restoration. فهيجل نفسه هو الذي يعلن في تصديره لكتاب "أصول فلسفة الحق" أن "مهمة الفلسفة هي أن تفهم ما هو موجود، لأن ما هو موجود هو العقل..و أن كلا منا هو ابن عصره و ربيب زمانه. و بالمثل يمكن أيضا أن نقول عن الفلسفة أنها عصرها ملخصا في الفكر".

سبق لعدد من الماركسيين الغربيين تناول فلسفة هيجل السياسية مثل لوكاتش و ماركيوز و أدورنو، و ما كان يشغل هؤلاء محاولتهم توضيح مثاليتها و بالتالي رفضها جملة على أساس أن ماركس قد استطاع تقديم نظرية سياسية بديلة عنها أكثر واقعية و ارتباطا بالاقتصاد و المجتمع. و سبق أيضا لعدد من المفكرين ذوي الميول الليبرالية أن حكموا على فلسفة هيجل السياسية بأنها تنادي بالدولة الشمولية التسلطية و ذلك مثل كارل بوبر و فريدريك هايك و بارسونز. و بالطبع ففي النصف الأول من القرن العشرين تم الربط بين فلسفة هيجل في الدولة و صعود النازية. و قد استخدمت فلسفته بالفعل في تدعيم بعض الأفكار الشمولية عن الدولة على يد كروتشة و باريتو في إيطاليا و بوزانكيت و برادلي في بريطانيا. و لم تتخلص فلسفة هيجل السياسية من هذه التأويلات الخاطئة إلا ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين. و يهدف هذا المقال إلى توضيح أن فلسفة هيجل السياسية بعيدة تماما عن هذه التأويلات و متفقة مع روح العصر أكثر مما اعتقد الكثيرون.

والحقيقة أن هيجل نفسه يتحمل بعض المسئولية عن سوء فهم فلسفته السياسية، و نظريته في الدولة على وجه الخصوص. فقد استخدم عبارات أوحت للكثيرين بتفسيرات خاطئة، و بالتالي تم نقدها على أساس هذه التفسيرات. فيذهب هيجل مثلا إلى أن الدولة هي اكتمال مسيرة الإله على الأرض، و هي "الروح و قد وهبت نفسها التحقق الفعلي في مسار تاريخ العالم" ( ) ، و هي "قوة العقل المحقق لذاته" (فقرة 258) و أن "الدولة هي الروح و قد تموضعت Objectivized" و أن "واجب الفرد الأسمى هو أن يكون عضوا في الدولة" ( ) . الواقع أن اللغة المثالية المجردة التي استخدمها هيجل في فلسفته السياسية لا تعني أن نظرياته السياسية مثالية أو ميتافيزيقية، فوراء هذه اللغة تكمن أفكار اجتماعية و تاريخية و تحليلات أصيلة و نظرية واقعية في الدولة بها العديد من الدلالات المعاصرة التي تتفق مع روح الدولة الحديثة. لقد كان على هيجل نفسه أن يستخدم هذه اللغة المثالية المجردة و ذلك كأسلوب اختزالي للتعبير عن أفكار كثيرة و هامة في عبارات قليلة و قصيرة.

ألم يقل هيجل نفسه إن الفلسفة هي عصرها ملخصا في الفكر؟ و فلسفته هو على وجه الخصوص هي عصرها ملخصا في الفكر. فانظر كيف يكون هذا الفكر الذي يلخص عصرا بأكمله، و هو عصر التحولات الكبيرة في التاريخ و الفكر، عصر الثورة الفرنسية و التنوير. و بالطبع سوف يكون هذا الفكر غاية في التجريد للتعبير عن خبرات مثل هذا العصر المحوري من تاريخ العالم. كل ما هنالك أن لغة هيجل و فلسفته تحتاج إلى ترجمة لكي يتم فهم و تقدير معناها و مغزاها السياسي، و في نفس الوقت لإدراك دلالاتها المعاصرة. فإذا كانت فلسفة هيجل السياسية هي نظرية فلسفية في الدولة الحديثة، فسوف نحاول ترجمتها إلى نظرية سياسية في الدولة الحديثة.

نقد نظريات الحق الطبيعي و العقد الاجتماعي:

لا يمكن فهم فلسفة هيجل في الدولة إذا اقتصرنا على تناول كتابه "أصول فلسفة الحق"، فلهيجل كتابات في النظرية السياسية سبقت "فلسفة الحق" بعضها نشره في حياته مثل "نظريات الحق الطبيعي"، و بعضها الآخر كان ملاحظات كتبها هيجل لاستخدامها في محاضراته أثناء تدريسه في جامعة "يينا" Jena ، و لم تنشر إلا في القرن العشرين. تحتوي هذه الأعمال المبكرة على نقد لنظريات الحق الطبيعي Theories Natural Right و العقد الاجتماعي Social Contract Theories ، و هي جزء لا يتجزأ من فلسفته السياسية، و لا يمكن فهم فلسفته في الدولة بدونها.

يعارض هيجل اتجاه الفلسفة السياسية الحديثة منذ هوبز و مرورا بلوك و هيوم و روسو في تحليل الحياة السياسية إلى أدق تفاصيلها و أصغر مكوناتها و الرجوع إلى الأفراد باعتبارهم الذرات المكونة لأي نظام سياسي، و هو بذلك يقف ضد النـزعات الفردية Individualism و الذرية Atomism السائدة لدى الليبرالية. و يرفض هيجل بدء نظريات الحق الطبيعي و العقد الاجتماعي بالفرد بناء على أن وعي الفرد بذاته باعتباره فردا لا يمكن أن يكون معطا أوليا مبدئيا، بل هو نتيجة عملية تمايز و اختلاف عن البيئة الأصلية للفرد، عملية تتصف بأنها تاريخية و اجتماعية. إن بدء الفلسفة السياسية الحديثة بفرد عاقل و ناضج بالكامل دليل على عدم إدراكها لتاريخية الوجود البشري و عدم انتباهها لعمليات التطور التي مر بها الفرد حتى يكون فردا و يحصل على وعي بفرديته. و الحقيقة أن هيجل في "فينومينولوجيا الروح" يعطينا وصفا لعملية الرقي التدريجي للوعي من أولى مراحل اليقين الحسي و الارتباط اللامتمايز بالطبيعة و حتى الوصول لمرحلة العقل الواعي بذاته. و من هنا يمكن النظر إلى فينومينولوجيا هيجل على أنها تقدم بديلا لنظرة نظريات الحق الطبيعي و العقد الاجتماعي للفرد ( ).

و لا ينظر هيجل إلى الحق على أنه طبيعي، أي صادر عن طبيعة بشرية ثابتة و أزلية و واحدة لدى جميع الشعوب في كل زمان و مكان، بل على أنه تاريخي و نتيجة صراع تاريخي طويل. فقد صور فلاسفة العقد الاجتماعي حق الملكية على أنه مستمد من الحق في حفظ الحياة و الوجود المادي للإنسان، فالملكية من بين عناصر طبيعة إنسانية ثابتة. أما هيجل فيعالج حق الملكية بطريقة مختلفة. فحق الملكية عنده مرتبط بالإنسان كإنسان له إرادة و روح ووعي، بينما عالجه لوك على أنه مرتبط بالطبيعة البيولوجية الحيوانية للإنسان. و الذات عند لوك تقف في مواجهة الطبيعة و تأخذ منها ما يشبع احتياجاتها البيولوجية، أما في فلسفة هيجل فإن كلا من الذات و العالم الخارجي يشكلان بعضهما البعض في حركة جدلية. فالذات تحول العالم الطبيعي إلى جزء من عالمها الإنساني عن طريق العمل، و العالم الطبيعي يساعد الذات على أن تخرج عن ذاتها و يتجسد نشاطها في صورة مادية. و عندما يذهب هيجل إلى أن الإنسان يجعل من أشياء العالم الخارجي أجزاء من عالمه الإنساني عن طريق العمل فهو بذلك يرفع مكانة الشخصية الإنسانية فوق الطبيعة البيولوجية ( ).

تحمل فلسفة هيجل تصورا اجتماعيا عن حق الملكية يختلف عن التصور ذي النـزعة الفردية السائد لدى ليبرالية هوبز و لوك. فالملكية عند لوك هي علاقة بين الناس و الأشياء، و لذلك تظهر حرية الآخرين على أنها قيد على حريتي أنا، بما أن الآخرين يمنعونني من الامتلاك اللامحدود و يقيدون رغبتي في الاستحواذ اللانهائي. أما عند هيجل فإن حقوق الملكية تظهر في نظام من الاعتراف المتبادل Mutual Recognition لإرادات و حقوق الآخرين. فحقوق المجموع هي أساس تحقق حقوق أي فرد. و هنا يتضح المفهوم الهيجلي المميز عن العقد Contract ، فالعقد يظهر في مجال الاعتراف المتبادل: فأنا أحوز على ملكية شيء معين لا عن طريق إرادتي الذاتية بل عن طريق إرادة أشخاص آخرين، و بالتالي أحتفظ بهذه الملكية لكوني مشاركا في إرادة عامة مشتركة ( ). و الملاحظ هنا أن هيجل يؤسس حق الملكية في مجال اجتماعي قائم و يرجع هذا الحق إلى فعل الاجتماع البشري، و ذلك عكس ما ذهبت إليه نظريات الحق الطبيعي و العقد الاجتماعي من تأسيس هذا الحق في حالة الطبيعة الأولى السابقة على الاجتماع.

لا يوافق هيجل على الفكرة الليبرالية التي تذهب إلى أن أصل المجتمع هو إجماع أفراد أحرار و متساوين و عقلانيين و اتفاقهم على إيجاد نظام يكفل حقوقهم و يحميها. فالحقيقة أن الفردية و الحرية و الحقوق و تساويها ليست موجودة في حالة سابقة على الاجتماع البشري و يأتي النظام السياسي ليحميها، فهي أشياء من صنع الاجتماع السياسي نفسه، و بالتالي لا يمكن الذهاب إلى أن النظام السياسي ظهر إلى الوجود لحفظها و حمايتها،لأنها ليست أسبابا لظهور السياسة، بل هي أهداف يحققها التفاعل السياسي ( ). لقد صادرت الليبرالية على ما تريد إثباته، إذ افترضت وجود الحريات و الحقوق قبل الاجتماع السياسي في حين أن هذه الأشياء هي الغايات النهائية للاجتماع السياسي.

و تتضح مواجهة هيجل لنظريات الحق الطبيعي و العقد الاجتماعي من تناوله لمفهوم الحرية. فتفترض هذه النظريات وجود الحرية كاملة في الحالة السابقة على التنظيم السياسي، و هذه الحرية الكاملة تدفع الناس إلى الصراع و تكون حربا للكل ضد الكل. و لكي يتم التغلب على هذا الوضع يتفق الناس و يجمعوا على التنازل عن جزء من حرياتهم الأصلية في سبيل إنشاء نظام سياسي يعمل على تحقيق الأمن و الردع و تطبيق القانون. حالة الاجتماع السياسي إذن هي حالة تخل عن جزء من الحرية و من الحق الطبيعي للأفراد. و من هنا يذهب هيجل إلى أن الليبرالية تنظر إلى الدولة على أنها قيد خارجي على حرية المرء، و نظام فرضته ضرورة خارجية و ليس نتيجة للتطور الاجتماعي و السياسي للبشرية. و على الجانب الآخر يذهب هيجل إلى أن الأفراد لا يتخلون عن جزء من حرية أو حق للدخول في النظام السياسي، بل يتخلون عن الإرادة الهوجاء و العنف و الهمجية الناتجة عن اختفاء النظام السياسي. فليست هناك حريات أو حقوق قبل الاجتماع السياسي ( ).

و يرفض هيجل القول بأن اختفاء الدولة في حالة الطبيعة الأولى كان اختفاء لأي اجتماع سياسي أو تعاون اجتماعي من أي نوع. فقد بحث هيجل نفسه في التاريخ عن فترات اختفت فيها الدولة و جعلها معيارا للحكم على مفهوم حالة الطبيعة الأولى لدى نظريات الحق الطبيعي و العقد الاجتماعي. ففي محاضراته في فلسفة التاريخ تناول هيجل فترة الانتقال التاريخية من العصور الوسطى إلى العصر الحديث. ففي هذه الفترة لم تكن الدولة الحديثة قد ظهرت بعد، كما اضمحلت فيها سلطات الملكيات القديمة، و كانت فترة وسيطة بين فترتين تاريخيتين شهدتا دولا كبيرة قوية هي فترة العصر القديم الذي شهد دول مصر و الصين و الهند و اليونان و الرومان، و فترة العصر الحديث الذي شهد ظهور دول أوروبا الحديثة. ففي فترة اختفاء الدولة في العصور الوسطى شهد المجتمع الأوروبي صعود العديد من طوائف و اتحادات التجار و الحرفيين و الفرسان و النبلاء و ذلك لمواجهة حالة الفوضى و اللانظام و اختفاء الدولة. فعندما وجدت حالة طبيعة أولى حقيقية في التاريخ، أي حالة اختفاء للدولة، لم تكن هذه الحالة مكونة من أفراد متصارعين كما تذهب الليبرالية، بل من تنظيمات اجتماعية و طوائف و نقابات ذات طابع خاص ( ).

و في مقابل النـزعات الفردية و الذرية لهذه النظريات، يضع هيجل مقولة المجتمع الإنساني Community باعتباره كلا أخلاقيا لا يمكن أن يرد إلى أفراده المكونين له و سابق عليهم، بمعنى أنه هو الذي يعطيهم هويتهم و تفردهم ذاته. و يستعين هيجل هنا بالفكرة اليونانية القديمة عن دولة المدينة Polis ليعطي بها مثالا عما يقصده بالمجتمع الإنساني السياسي Political Community . فهيجل يريد إثبات أن أي نظرية فلسفية في المجتمع يجب عليها ألا تنطلق من أفعال الأفراد المنعزلين، بل من الروابط الأخلاقية - المعيارية و القيمية- التي يتحرك خلالها الأفراد ( ). (دوركايم)

رفض النظرية الليبرالية في الدولة:

النظرية الليبرالية في الدولة هي نظرية تعاقدية Contractual، فالدولة تنشأ طبقا لهذه النظرية بناء على عقد اجتماعي يتم باتفاق و إجماع الأفراد. يذهب هيجل إلى أن هذه النظرية تخلط بين مجالين متمايزين هما مجال الدولة و مجال المجتمع المدني، و تأخذ نموذج العقد من مجال المجتمع المدني لتطبقه على الدولة، و يعد هذا في نظره خطأ منطقيا و تاريخيا في نفس الوقت. يقول هيجل في "أصول فلسفة الحق" : "إذا خلطنا بين الدولة و المجتمع المدني، و جعلنا الغاية الخاصة من الدولة الأمن و حماية الملكية الخاصة و الحرية الشخصية- لكانت مصلحة الأفراد بما هم كذلك الغاية النهائية التي اجتمعوا من أجلها، و ينتج عن ذلك أن تكون عضوية الدولة مسألة اختيارية. غير أن علاقة الدولة بالفرد شيء مختلف عن ذلك أتم الاختلاف.. إن الفرد لن تكون له موضوعية و لا فردية أصيلة و لا حياة أخلاقية إلا بوصفه عضوا من أعضائها. إن الاتحاد الخالص و البسيط هو المضمون الحقيقي و الهدف الصحيح للفرد، و مصير الفرد هو أن يعيش حياة كلية جماعية" ( ). الحقيقة أن الفقرة السابقة ليست مجرد نقدا للنظرية الليبرالية في الدولة، بل هي نقد للمفهوم البورجوازي عن الدولة، و نقد للدولة البورجوازية القائمة بالفعل في عصر هيجل و طوال القرن التاسع عشر.

لا ينتج عن التصور الليبرالي للدولة إلا دولة خارجية، دولة البورجوازية. يقول هيجل: "في عملية السعي نحو تحقيق الغايات الأنانية.. يتشكل نظام كامل من الاعتماد المتبادل، حيث يتداخل نسيج حياة الفرد و سعادته ووضعه القانوني مع حياة جميع الأفراد الآخرين و سعادتهم و حقوقهم، و لا تكون هذه الحقوق مضمونة إلا داخل هذا النظام المترابط. و يمكن النظر إلى هذا النظام.. على أنه الدولة الخارجية، أي الدولة التي تقوم على أساس الحاجة " ، أي الدولة الليبرالية التي تعمل على حفظ حقوق الملكية الفردية الخاصة، أي الحقوق البورجوازية. إنها الحكومة المحدودة Limited Government أو دولة الحد الأدنى Minimal State في الأدبيات الليبرالية.

يرفض هيجل أن يؤسس الدولة على علاقات تعاقدية، أو أن يختزل طبيعتها و ماهيتها في العلاقات التعاقدية. و هناك ثلاثة أسباب تجعله يرفض العلاقات التعاقدية كأساس للدولة؛ فهذه العلاقات مجردة Abstract و عارضة Contingent و متمركزة حول الذات Self-Centered . أما عن كون العلاقات التعاقدية مجردة فيذهب هيجل إلى أن السبب في ذلك يرجع إلى التعاملات المادية في المجتمع المدني. ففي سياق المجتمع المدني لا يجمع شخصين إلا كونهما مالكين، و لا يوجدان بالنسبة لبعضهما إلا باعتبارهما كذلك. فأنت لا توجد بالنسبة لي إلا باعتبارك مالكا، و العكس صحيح، كما أنني لا أعترف بك إلا لأنك تحوز على شيء أحتاجه و أبغي مبادلته معك بشيء ملكي أنت تحتاجه. و في العقود لا تكون هناك علاقة بين شخصين إلا علاقة المصلحة المادية. و يحكم هيجل على العلاقة التعاقدية بأنها مجردة لأنها تجرد الإنسان من كل جوانب وجوده و إمكاناته إلا الجانب المادي، و لا تنظر إليه إلا باعتباره مالكا، و لا شأن لها بما يعطيه ماهية و هوية. و على العكس من العلاقات التعاقدية تتأسس الدولة على البشر بجميع هوياتهم، لا بتجريد أو اقتطاع جزء منها، و على الوجود الاجتماعي للإنسان لا مجرد وجوده الاقتصادي. و في حين تكون العلاقات التعاقدية عارضة و اعتباطية، تتأسس علاقات المجتمع الإنساني السياسي Political Community على العقل و الضرورة العقلانية ( ).

يصر هيجل على أن تكون الدولة غاية لا مجرد وسيلة و يرفض التفكير فيها باعتبارها وسيلة لتحقيق أي مصلحة شخصية. و الحقيقة أن ماركس قد فقد الأمل في الدولة القائمة في عصره لنفس السبب، أي لكونها تحولت إلى وسيلة و أداة لتحقيق المصالح الشخصية و الجزئية للبورجوازية. كما نقد ماركس مفهوم الدولة عند هيجل في نفس الوقت، فعندما يقول هيجل أن الدولة هي الغاية المطلقة و النهائية للوعي الذاتي الفردي، فإن هذا قد يعني بسهولة الخضوع للدولة و ذوبان الأفراد فيها، و هذا هو ما فهمه ماركس بالضبط. و لذلك لم يلجأ ماركس إلى أي مفهوم عن الدولة لحل أزمات الرأسمالية و تناقضاتها، بل تخلى عن خيار الدولة في سبيل خيار آخر هو الثورة الاشتراكية و تحطيم الدولة البورجوازية القائمة. لكننا سوف نوضح في الصفحات التالية أن ماركس كان مخطئا في التخلي عن خيار الدولة.

يذهب هيجل إلى أن التعامل مع الدولة باعتبارها آلية للحصول على غايات خارجية و مادية، و باعتبارها تنظيما يعمل على إشباع حاجات الناس يخرجها عن طابعها الأخلاقي و يؤدي في النهاية إلى الفساد السياسي و الانهيار الاجتماعي، و يؤدي كذلك إلى انهيار الدولة ذاتها. و هذا هو ما حدث للدولة الرومانية و أدى إلى انحلالها الداخلي قبل سقوطها على أيدي البرابرة بزمن طويل. و تتمثل القوة النقدية في فلسفة هيجل السياسية في أنه يعتقد أن بذور الانهيار هذه ليست شيئا من الماضي و حسب، بل إنها موجودة في عصره بتمامها و كمالها. و الجدير بالملاحظة أن بذور الانهيار التي يتحدث عنها هيجل هنا هي النـزعة الفردية و التعامل مع الدولة باعتبارها وسيلة لتحقيق غايات اقتصادية جزئية، و هي في حقيقتها سلبيات البورجوازية و تصورها عن الدولة، و سلبيات الاقتصاد الرأسمالي. و بذلك يكون هيجل قد سبق ماركس في تشخيص الأزمة الأساسية للمجتمع الرأسمالي. لكن ما الحل الذي يقدمه هيجل لهذه الأزمة، تلك التي يسميها تناقضات المجتمع المدني؟ يتمثل الحل في مفهومه عن الدولة، فهي في نظره القادرة على علاج هذه التناقضات.

لكن نقد هيجل للدولة الليبرالية لا يقف عند هذا الحد. فهو يذهب إلى أننا لو نظرنا إلى الدولة ببساطة على أنها امتداد للمجتمع المدني، و إلى المجتمع المدني على أنه مكون من شبكة من العلاقات التعاقدية الاقتصادية، فمن الطبيعي أن نفكر في الحياة السياسة باعتبارها مظهرا خارجيا للتعاملات المادية في المجتمع المدني، أو بناء فوقيا و انعكاسا للبناء التحتي الاقتصادي و الحياة الاقتصادية بتعبير ماركس. يقول هيجل: "و لو أن الدولة ظهرت كوحدة من الشخصيات المختلفة، أي كوحدة هي أشبه بالشركة فحسب، فإن المقصود عندئذ حقا هو المجتمع المدني. و لم يكن في استطاعة كثير من المشرعين الدستوريين المحدثين أن يقدموا نظرية عن الدولة سوى هذه" ( ). إن مفهوم هيجل عن الدولة إذن يختلف عن مفهومها لدى "كثير من المشرعين الدستوريين المحدثين". من هم هؤلاء ؟ هم منظروا الدولة في إنجلترا و فرنسا، منظروا الدولة الليبرالية البورجوازية. و قد درس ماركس نفس هؤلاء المنظرين في شبابه، لكنه لم يقدم نقدا لنظريتهم في الدولة لأنه رأى أن فلسفة هيجل السياسية متقدمة عنها و هي التي تستحق النقد، و لذلك قدم نقدا لفلسفة هيجل في الدولة. ومن هذا العمل المبكر لماركس اتضح أنه لن يلجأ إلى أي مفهوم عن الدولة، و المفهوم الهيجلي بوجه خاص، لحل أزمات عصره. الحقيقة أن ماركس قد استبدل الثورة الاشتراكية بالمفهوم الهيجلي عن الدولة. لكن هل كان محقا في ذلك؟ هذا ما ستكشف عنه الصفحات التالية.

إذا نظرنا إلى الدولة على أنها شركة أو جهاز يضمن الحقوق الفردية البورجوازية و حسب، فإننا لا نتكلم في الحقيقة إلا عن المجتمع المدني البورجوازي. لقد وصل هيجل إلى الحدود النهائية للدولة البورجوازية و المجتمع المدني البورجوازي، أي للرأسمالية و دولتها، و حاول وضع البديل بمفهومه عن الدولة. لكن لكي نفهم ما هو المفهوم الهيجلي للدولة يجب علينا تناول النقد الذي وجهه هيجل للمجتمع المدني البورجوازي، فدولة هيجل ليست مجرد بديلا عن النظرية الليبرالية في الدولة، بل علاجا لسلبيات و تناقضات المجتمع المدني البورجوازي.




هيجل و الثورة الفرنسية:

ماذا يحدث عندما توضع المبادئ السياسية الليبرالية موضع التطبيق؟ يجيب هيجل على هذا التساؤل بتناوله للثورة الفرنسية، فهي التي وضعت هذه المبادئ بالفعل موضع التطبيق. كان هيجل متحمسا للثورة و يقدرها تقديرا عاليا، لكنه في نفس الوقت أدرك تناقضاتها و تلازم إنجازاتها مع سلبياتها، أي مع عدم قدرتها على الإتيان بنظام سياسي ثابت و تدعيمه، كما كانت عينه دائما على عدم قدرة أي نظام سياسي أتى بعد الثورة بما فيه عصر عودة الملكية في تحقيق الاستقرار السياسي و الخروج من مصاعب الثورة و آثارها الجانبية ( ).

يوجه هيجل نقده للثورة الفرنسية من منطلق أنها استندت على فكرة الإرادة العامة General Will عند روسو. فقد ذهب روسو إلى أن الحكومة تقوم على رضاء المواطنين و على إرادتهم العامة، و إذا لم يحصل النظام السياسي على رضاء و موافقة هذه الإرادة العامة كان من حق المواطنين الثورة عليه. أدت فكرة الإرادة العامة هذه كما فهمتها الثورة الفرنسية إلى الفوضى و الإرهاب. فقد تم النظر إلي هذه الإرادة العامة على أنها إرادة المجموع Collective Will ، أي جماع إرادات الأفراد في المجتمع. و في التطبيق العملي تنقلب إرادة المجموع بسهولة إلى أن تكون مرادفة لرأي الجمهور من الغوغاء و الدهماء، و لذلك تحولت الثورة إلى الفوضى و انتهت بالإرهاب نتيجة لأنها أعطت مضمونا سياسيا لأهواء الجمهور المتقلبة ( ).

لم تكن فكرة الإرادة العامة إلا مفهوما صوريا فارغا بدون مضمون، و لم تكن تصلح إلا لهدم النظام القديم، إلا أنها لا تصلح لتأسيس نظام جديد. فليس هناك معيار للتوصل من هذه الإرادة العامة إلى الاتفاق العقلاني الكلي، فما هو هام ليس وحدة في العواطف و المشاعر لدى الجماهير، بل الوصول إلى إرادة كلية Universal Will مؤسسة على العقل. و طالما نظرت كل إرادة فردية لنفسها على أنها معبرة عن الإرادة العامة حدثت الفوضى. لم يستطع روسو أن يحدثنا عن مضمون هذه الإرادة العامة، أي ما تريده هذه الإرادة. الإرادة العامة عند روسو تحدد إجراء صوريا شكليا لتأسيس النظام، إلا أنها لا تقول لنا ما هو هذا النظام. فهذه الفكرة تدور إذن في عالم الوسائل لا في عالم الغايات التي يقابلها روسو بالحياد و لا يتكلم عن مضمونها. و الحقيقة أن الإرادة العامة عنصر يتحقق بعد تأسيس الاجتماع السياسي، أو هو أحد وظائف و أهداف هذا الاجتماع السياسي. فأي إرادة عامة أو شعبية تتطلب مجتمعا سابقا عليها و قائما بالفعل قبل أن تصبح فعالة و ذات تأثير، لكنها لا تؤسس هذا المجتمع من البداية كما يذهب روسو. و بذلك يكون روسو قد افترض مسبقا ما كان يجب أن يؤسسه.

كما فهمت الثورة الفرنسية مبدأ الحرية بطريقة صورية و مجردة، فالحرية في نظرها ذاتية و تتمثل في استقلال فردي خالص. و من هنا انعزلت إرادات الأفراد عن أي سياق عام، و هذا ما أدى إلى الفوضى و الإرهاب. أما المبدأ القائل أن العقل يجب أن يحكم العالم فقد أسئ فهمه على أنه يعني أن عقل كل فرد يجب أن يكون ذا أثر فعال على الأحداث، و هذا ما جعل الجماهير في حالة دائمة من الهياج معتقدة أنه مشاركة سياسية و ديمقراطية فعالة، في حين أنها كانت الفوضى. كما تحولت الفضيلة المدنية على يدي الثورة إلى ذاتية متطرفة و بذلك تعاقبت الحكومات الكثيرة أثناء الثورة و تعاقبت الدساتير دون تحقيق استقرار ( ).

و يوجه هيجل نقده لليبرالية الثورة الفرنسية قائلا: "لا ترضى الليبرالية… بوجود تنظيم سياسي تظهر فيه دوائر متعددة من الحياة المدنية ذات وظيفة محددة لكل منها، و لا بذلك التأثير على الشعب الذي يمارس من قبل الأعضاء المثقفين في المجتمع و الثقة التي يجب أن تكون تجاههم. و في مقابل كل ذلك ترفع الليبرالية المبدأ الذري Atomistic الذي يصر على الفاعلية السياسية للإرادات الفردية، ذاهبة إلى أن كل حكومة يجب أن تنبع من سلطة هؤلاء الأفراد و تحصل على موافقتهم العلنية. إن الجماعة التي تناصر هذا الجانب الشكلي من الحرية - و هذا التجريد - لا تسمح لأي تنظيم سياسي أن يؤسس على دعائم ثابتة" ( ). و الحقيقة أن هيجل في هذا النص و في نقده للثورة الفرنسية بوجه عام إنما ينقد مبدأ الديمقراطية المباشرة، إذ يتضح من هذا النقد أنها خرافة. إذ كان هيجل دائم الإصرار على أن الدولة الحديثة تتصف بدرجة عالية من التعقيد و تعدد الأجهزة و الوظائف بحيث لم تعد الديمقراطية المباشرة تصلح في ظلها. فالاعتقاد في إمكانية مشاركة الأفراد المنعزلين مشاركة مباشرة في تسيير شئون الدولة كما كان يحدث في دولة المدينة اليونانية يعد سذاجة سياسية ووهما ديماجوجيا.

تقوم فكرة الديمقراطية المباشرة ، و خاصة كما فهمتها الثورة الفرنسية، على مسلمة أساسية و هي النظر إلى الإرادة السياسية على أنها هي إرادات الأفراد. و يذهب هيجل إلى أن الفوضى و الإرهاب الناتجين عن الثورة الفرنسية هما نتيجة التوحيد بين الإرادة الفردية الطبيعية المباشرة و الإرادة السياسية، أي الاعتقاد في أن إرادات الأفراد المنعزلين و المشتتين يمكن أن ينتج عنها إرادة سياسية عامة و كلية. و يحكم هيجل على فكرة الديمقراطية المباشرة بأنها ساذجة و ديماجوجية لأنها تحل إشكالية العلاقة بين الفرد و الدولة بأن تجعل الأفراد مسيطرين مباشرة على الدولة و يستخدمونها كأداة لتنفيذ ما يشاءون. و هي ساذجة لأنها لا تدرك طبيعة الدولة الحديثة، إذ ينقصها تصور واضح عن دور المؤسسات الوسيطة بين الفرد أو المجتمع المدني و الدولة. فبينما تصر النظريات الليبرالية على الفصل الحاد بين الحياة الخاصة و الحياة العامة، فإن فلسفة هيجل لا تعترف بهذا الفصل، و يصر هيجل في فلسفته السياسية على ضرورة وجود مؤسسات أو تنظيمات تتوسط بينهما تعمل على رفع مستوى المصالح و الاهتمامات الفردية الخاصة إلى مرتبة الحياة العامة السياسية. و المؤسسات الوسيطة التي يقصدها هيجل هي النقابة و الطبقة، و سوف نتوسع في الحديث عنهما عندما نأتي لتناول نظريته في الدولة.

لكن لنا ملاحظة حول مفهوم المؤسسات الوسيطة. يتحدث هيجل عن النقابة و الطبقة باعتبارهما من المؤسسات الوسيطة في الجزء المتعلق بالدولة في كتابه "أصول فلسفة الحق"، و لهذا دلالة كبيرة، فهو يريد أن يقول أن هذه المؤسسات الوسيطة تنتمي للدولة أكثر من انتمائها للمجتمع المدني، فالحياة السياسية التي تعد الدولة تجسيدها العيني هي هدف المؤسسات الوسيطة، أي أن هدفها هو هدف الدولة نفسه. و الأهم من ذلك أن التوسط بين الفرد و الدولة ليس من وظيفة النقابة و الطبقة فقط، فهما يقومان بالتوسط بالمعنى السياسي الضيق. و إذا بحثنا في فلسفة هيجل كلها سوف نجد أشياء أخرى كثيرة تقوم بهذه الوظيفة، و ترفع الأفراد إلى مستوى الحياة السياسية العامة، و ذلك مثل الدور الذي تقوم به الفلسفة نفسها، و فلسفة هيجل على وجه الخصوص. إذ تهدف "فينومينولوجيا الروح" إلى الرقي بالوعي الفردي و الوصول به إلى إدراك العقل، أما فلسفته في التاريخ فتهدف إلى توضيح أن العقل يتحقق في التاريخ، و ذلك بالتدريج و عبر مراحل حتى يصل إلى أقصى مراحل التحقق في الدولة الحديثة.

وافق هيجل نظريات العقد الاجتماعي و الليبرالية على ذهابها إلى أن السياسية و المؤسسات السياسية الحديثة يجب أن تؤسس على وعي المواطنين، إذ ذهبت تلك النظريات إلى أن الشرعية السياسية يجب أن تؤسس على الإرادة، وهذا هو ما وافق فيه الثورة الفرنسية. إلا أن هذه النظريات، و معها الثورة الفرنسية، فهمت الإرادة بصورة خاطئة مغرقة في الفردية و بطريقة جزئية و خاصة. و بذلك تفشل في تلبية مطلب هام و هو أن تكون هذه الإرادة مساهمة بفاعلية في النظام السياسي و جزء منه، بأسلوب يختلف عن الأسلوب الديماجوجي للثورة الفرنسية. يؤدي هذا التصور الضيق عن الإرادة إلى نظام تكون فيه السياسة مقامة من أجل مصالح الأفراد. إن تكوين نظام سياسي و عقلاني و مرض عند هيجل يتطلب إرادة جماعية كلية لا إرادة فردية جزئية، أما الإرادة العامة عند روسو و كما فهمتها الثورة الفرنسية فما هي إلا مجموع الإرادات الفردية الجزئية.و يرى هيجل أن المفهوم الليبرالي عن الإجماع Consent كما يظهر في نظريات العقد الاجتماعي مغرق في التلقائية و الاختيارية و الجزئية بطريقة تعوقه عن أن يقوم بالدور التأسيسي الموكل إليه في هذه النظريات. و الحقيقة أن فلسفة هيجل السياسية هي محاولة للوصول إلى أسس بديلة أكثر عمومية و شمولية لتأسيس الشرعية السياسية. و بما أن الشرعية السياسية هي شرعية الدولة فإن فلسفة هيجل السياسية هي فلسفة في الدولة. و هذا هو السبب في مركزية مفهوم الدولة في أعماله السياسية التي فهمت خطأ على أنها تمجيد للدولة و رفعها فوق الأفراد و جعلها قوة مستقلة عنهم و دعاية للدولة الشمولية.


نقد هيجل للمجتمع المدني:

المجتمع المدني عند هيجل هو النظام الذي ينشأ من الاعتماد المتبادل بين الأفراد في نشاطاتهم المادية، فهو نتاج الفردية و النظام الذي تنشئه هذه الفردية. يقول هيجل: "الشخص العيني الذي هو نفسه موضوع غاياته الجزئية - و بوصفه مجموعة الحاجات، و مزيجا من الهوى و الضرورة المادية- هو المبدأ الأول في المجتمع المدني. لكن هذا الشخص الجزئي يرتبط بالضرورة بغيره من الشخصيات الجزئية الأخرى حتى أن كلا منهم يقيم ذاته و يشبعها عن طريق الآخرين، و هذا هو .. المبدأ الثاني في هذا المجتمع" ( )، أي مبدأ الاعتماد المتبادل الذي يجعل المجتمع يسير بتلقائية و آلية. و المجتمع المدني حسب هذا الوصف هو المجتمع البورجوازي كما وصفه منظروه: هوبز و لوك و هيوم و آدم سميث.

"المجتمع المدني" الذي يتحدث عنه هيجل هو في حقيقته الاقتصاد الرأسمالي، فإذا استبدلنا كلمة "الاقتصاد الرأسمالي" أو كلمة "الرأسمالية" بكلمة "المجتمع المدني" فلن يختل المعنى، بل سيزداد وضوحا. يقول هيجل: "المجتمع المدني هو القوة الهائلة التي تمتص الناس إليها و تتطلب منهم العمل لأجلها (و بالتالي فهم) يدينون بكل شئ لهذه القوة، و يقومون بكل شئ و بأي شئ بوسائلها" ( ).

أدخل هيجل الاقتصاد السياسي في صميم مذهبه، فقد تمكن من قراءته لمؤلفات ستيوارت و آدم سميث و ريكاردو من معرفة أن ما يحكم المجتمع المدني هو هذا الاقتصاد السياسي الذي أسماه "نسق الحاجات" System of Needs . و كان هيجل قد أظهر اهتماما مبكرا بالاقتصاد السياسي منذ إقامته في مدينة برن، و ظل هذا الاهتمام يلازمه و هو في فرانكفورت و يينا حتى استقر في برلين. ( ) أما ماركس فلم يكن مهتما بالاقتصاد السياسي في وقت مبكر مثل هيجل، بل كان مهتما في البداية بقضايا سياسية عامة و بفلسفة هيجل نفسه و بنقد الهيجليين الشباب. أما اهتمامه بالاقتصاد السياسي فلم يبدأ إلا سنة 1844 في المخطوطات الفلسفية الاقتصادية التي دونها في باريس و لم ينشرها. و بفضل دراسته للاقتصاد السياسي استطاع لقد هيجل الكشف عن تناقضات المجتمع المدني بدقة مستبقا ماركس، و من هنا فإن نظريته في الدولة كانت محاولة لتجاوز تناقضات هذا المجتمع، الاقتصادية في الأساس، أي تجاوز تناقضات المجتمع البورجوازي الرأسمالي.

لقد شخص هيجل بدقة سلبيات المجتمع المدني، و نستطيع أن نقول الاقتصاد الرأسمالي منذ سنة 1804 و ذلك في محاضراته في جامعة يينا التي لم تنشر إلا في القرن العشرين. فما كان يقلقه آنذاك هو الإضعاف المتزايد لقوى الإنسان و إمكاناته، أو اغترابه. في هذه الفترة المبكرة حلل هيجل قضية العمل المغترب و ذلك قبل ماركس بكثير، و الحقيقة أن المرء يذهل من مدى قرب و تطابق النقد الهيجلي و النقد الماركسي، خاصة إذا وضعنا في اعتبارنا أن تحليلات هيجل هذه لم تنشر إلا في القرن العشرين، أي لم يطلع عليها ماركس. يقول هيجل في تعليقه على آدم سميث و مثاله عن مصنع المسامير: "إن تجزيء العمل يضاعف عملية الإنتاج؛ ففي مصنع إنجليزي يعمل 18 عامل في إنتاج مسمار واحد (أي يتخصص كل واحد منهم في صنع جزء صغير من المسمار) و لكل واحد منهم جانب معين من العمل يقوم به؛ فالفرد الواحد لا يمكنه إنتاج 120 مسمار، و لا حتى مسمار واحد… لكن قيمة العمل تتناقص بنفس القدر الذي تتزايد به الإنتاجية. و العمل بالتالي يصبح ميتا أكثر و أكثر، إنه يصبح عملا آليا، و تصبح مواهب و قدرات الفرد محدودة، و ينحدر وعي عامل المصنع إلى أقصى مستويات التبلد. و يصبح الرابط بين العمل الجزئي و الكم الهائل من الحاجات غير مدرك على الإطلاق، و يتحول إلى اعتماد أعمى.. و يتحول العنصر الروحي، أي الحياة الممتلئة الواعية بذاتها، إلى نشاط فارغ" ( ).

و في "أصول فلسفة الحق" يذهب هيجل إلى أنه عندما يملك شخص آخر إنتاج المرء فإن هذا يكون له عواقب سلبية على شعور المرء بقيمته و إنسانيته، و ذلك للدور الهام الذي يقوم به العمل في شخصية الإنسان و ماهيته. يقول هيجل: "… هذه الخصائص الجوهرية ("هذه المنتجات" حسب ترجمة نوكس عن الأصل الألماني) التي تكون شخصيتي الخاصة و الماهية الكلية لوعيي لا يمكن أن تغترب عني أو تتحول إلى ملكية شخص آخر، و لا حتى أن يسقط حقي فيها بمرور الزمن، فمثل هذه الخصائص هي شخصيتي بما هي كذلك، هي الحرية الكلية لإرادتي، هي حياتي الأخلاقية الموضوعية…(و على الرغم من ذلك) ففي استطاعتي أن أتنازل لغيري عن منتجات فردية أنتجتها مهارتي العقلية أو الجسمية، و في استطاعتي أن أمنحه استعمال قدراتي لفترة.. لكن بتنازلي عن كل وقتي على نحو ما يتبلور في عملي و مجموع إنتاجي، فإني بذلك أجعل من جوهر وجودي و نشاطي الكلي و واقعيتي و شخصيتي ملك لشخص آخر" ( ).

توصل هيجل إلى أن الإفقار هو نتيجة لآليات الاقتصاد الرأسمالي نفسه، أو المجتمع المدني بتعبيره. و يقول هيجل أن هذا الفقر يمنع الفقراء من "امتيازات المجتمع المدني، فقد حرمهم هذا المجتمع من الوسائل الطبيعية للكسب.. كما أن فقرهم حرمهم .. من كل حسنات المجتمع مثل فرصة اكتساب المهارة أو فرص التربية و التعليم من أي نوع، مثلما حرمهم من الاستفادة من القضاء و خدمات الصحة العامة". لكن ما الحل؟ الدولة هي الحل. فالسلطة العامة للدولة "تحل محل الأسرة إزاء الفقراء" . هذه هي دولة الرفاهية المنظمة للاقتصاد و المسيطرة على السوق. ذلك لأن "كل حسنات المجتمع" التي أفقدها المجتمع البورجوازي الفقراء سوف توفرها الدولة ( ).

كان هيجل على وعي تام بأن هذا التدخل و هذه السيطرة من قبل الدولة سوف تظهر على أنها تسلطا و إلزاما فوقيا خارجيا، لكن هيجل يريد أن يقول لنا عبر كل كتابه "أصول فلسفة الحق" أن هذا الخوف من الدولة هو خوف الوعي الفردي العادي و الساذج، و ما "أصول فلسفة الحق" إلا فينومينولوجيا هدفها الارتقاء بهذا الوعي الفردي الخائف إلى مستوى الاقتناع بضرورة الدولة و كليتها و عقلانيتها. و هذا هو نفسه السبب في أن فلسفة هيجل السياسية هي نظرية فلسفية في الدولة. و كما يقول هيجل فإن الحرية المجردة و الاعتباطية هي التي تنظر إلى مثل هذا التدخل من الدولة على أنه تسلطا من الخارج و تحكما غريبا على المجتمع ( ).

و يوافق هيجل ساي و سميث و ريكاردو على ما ذهبوا إليه من أن المجتمع المدني يكشف عن درجة عالية من الاعتماد المتبادل و التسيير الآلي و التلقائي الذي يضمنه يد خفية، أو حكمة و مكر العقل، إلا أنه في نفس الوقت يذهب إلى أن الاعتماد المتبادل و النظام التلقائي ليس آمنا و لا مضمونا و لا يمكن توقع عواقبه. فالمجتمع بهذه الطريقة يصبح جسدا ميتا لكن في حركة خادعة، فهو يتحرك في هذا الطريق أو ذاك بطريقة عشوائية عمياء مثله مثل الحيوان البري، و لذلك فهو يتطلب السيطرة المستمرة و التوجيه الدائم. و لذلك لا يشارك هيجل الاقتصاديين السياسيين و فلاسفة الحق الطبيعي و العقد الاجتماعي في ميلهم نحو الدولة المحدودة Limited State ، فمفهومه عن الدولة مناقض تماما للمفهوم الليبرالي البورجوازي عن الدولة المحدودة.

كان هيجل أيضا مدركا لضرورة التوسع العالمي للمجتمع المدني أو للرأسمالية عن طريق الاستعمار، فهو يقول: "فما دام الميل الطاغي إلى الكسب يتضمن المغامرة، فإن الصناعة.. بدلا من أن تظل ضاربة بجذورها في التربة و الأرض، فإنها تعتنق مبدأ التدفق و الخطر و التدمير، و فضلا عن ذلك فإن البحر هو أعظم وسائل الاتصال، و التجارة عن طريق البحر تخلق الروابط التجارية بين البلاد البعيدة، كما تخلق أيضا العلاقات المتضمنة في الحقوق التعاقدية". أي تخلق توسعا للبورجوازية على نطاق عالمي ( ).

و يجعل هيجل الدولة، و خاصة سلطاتها التنفيذية، معالجة لتناقضات المجتمع المدني البورجوازي، أي الاقتصاد الرأسمالي، و هو يتحدث عن دور تنظيمي للدولة يذكرنا بدولة الرفاهية و نظام رأسمالية الدولة. يقول هيجل: "يمكن لمصالح المنتجين و المستهلكين المختلفة أن تصل إلى حد الصدام بعضها مع بعض، و على الرغم من أنه يمكن الوصول إلى تسوية عادلة بين الكل تلقائيا، فسوف يظل التوافق بينهم بحاجة إلى سيطرة تعلو على الجميع و تقوم به عن وعي، و حق ممارسة مثل هذه السيطرة.. و حق الجمهور ألا يغش.. يمكن أن يكونا مهمة عامة تقوم بها السلطة العامة للدولة" . أي أن المجتمع المدني ليس بقادر وحده على علاج تناقضاته، و يجب تدخل الدولة. أما ماركس فسيرفض هذا الخيار، و لن يضع أمله في الدولة، بل في الثورة الاشتراكية، و الحقيقة أنه لم يكن على صواب في ذلك.

و يكشف هيجل عن جدل تناقضات المجتمع المدني، و يشير إلى أن التوسع المتزايد لهذا المجتمع يخلق الفقر و الطبقات الفقيرة التي لا تستطيع علاج فقرها لا عن طريق المؤسسات الخيرية أو الهبات المقدمة من الطبقات الغنية. أما البديل لهذه الحلول فهو "إتاحة فرص العمل أمامها" ، و هو الحل الذي قدمه كينـز. لكن دخول أعداد كبيرة من العمال سوق العمل سوف يؤدي إلى فرط في الإنتاج مع نقص في التوزيع و كساد، فما الحل؟ يقول هيجل: "الجدل الداخلي للمجتمع المدني .. يدفعه إلى أن يتجاوز حدوده الخاصة و يبحث عن أسواق جديدة- و على ذلك فإن وسائله الضرورية للبقاء توجد في البلاد الأخرى"( )، و هذا هو الاستعمار، الذي اكتشف هيجل أنه أعلى مراحل تطور المجتمع المدني، البورجوازي الرأسمالي. لاحظ هنا أن هيجل لا يدعو للاستعمار باعتباره حلا لتناقضات المجتمع المدني الرأسمالي، بل يحلل اتجاه التطور الطبيعي و المنطقي لهذا المجتمع، أما حله لتلك التناقضات فيتمثل في نظريته في الدولة.
الدولة:

يصر هيجل دائما على ضرورة أن تعتمد المبادئ السياسية الحديثة على العقل وحده، و أن تكون نابعة منه فقط. و الحقيقة أنه بذلك يقف ضد ما تدعو إليه الليبرالية و نظريات العقد الاجتماعي من تأسيس السياسة على الرأي العام و الحس المشترك و الطبيعة البشرية، فالعقل عنده يعلو كثيرا على هذه العناصر التي تعد مراحل متدرجة في تطور الوعي نحو العقل. و لأن هيجل يصر على أولوية العقل و العقلانية فقد وصف الدولة بأنها أعلى مراحل تطور العقل و الاكتمال التام و النهائي لمسيرة العقل في التاريخ. قد يبدو هذا الكلام مغرقا في المثالية و الميتافيزيقية، إلا أنه تعبير صادق بالفعل عن الطبيعة العقلانية للدولة الحديثة، التي أكد عليها ماكس فيبر بعد ذلك، و تعبير صادق أيضا عن اختلاف هيجل عن التراث السياسي الليبرالي.

ليست الحالة السابقة على التنظيم السياسي عند هيجل هي حالة الطبيعة الأولى أو حالة حرب الكل ضد الكل. الحالة السابقة على الدولة عنده لها أسبقية منطقية لا غير، أسبقية في الفكر لا في الواقع. التنظيمات السابقة على الدولة في وعي الأفراد هي ميدان الحقوق الفردية (حقوق الملكية و القانون الجنائي) و الأسرة و المجتمع المدني. و الحالة السابقة على الدولة ليست حالة لا اجتماعية بل توجد بها تنظيمات اجتماعية قائمة و هي الأسرة و المجتمع المدني. تنتقل نظريات العقد الاجتماعي من حالة طبيعية لااجتماعية إلى حالة اجتماعية من التنظيم السياسي الكامل و الدولة القائمة و ذلك مباشرة و دفعة واحدة، أما هيجل فليس في حاجة إلى افتراض كل ذلك، لأنه سلم بالفعل بوجود الحياة الاجتماعية قبل الدولة، بل في حاجة فقط إلى توضيح كيفية تحول الحياة الاجتماعية الصغيرة و الممكنة إلى حياة اجتماعية قائمة بالفعل و متحققة، أو انطلاقها من النسبي إلى المطلق، أي من الأسرة و المجتمع المدني إلى الدولة. لم يعد من الممكن لفلسفة هيجل أن تصف ظهور مجتمع الدولة باعتباره انتقالا من حالة طبيعية أولى إلى حالة سياسية، بل باعتباره تطورا للروح ( ).

يقف الفكر السياسي عند هيجل ضد النـزعة الفردية التفتيتية لليبرالية، و من هنا فإن فكره شمولي، لا بمعنى أنه يعلي الدولة على الأفراد و يجعل منها قوة متسلطة، بل بمعنى أن نظرته شاملة و كلية، و بمعنى بيان دور الفرد في الكل الاجتماعي، و رفع الوعي الفردي إلى مستوى هذا الكل. يمكن أن يتهم هيجل بالشمولية Totalitarianism إذا كان الكل عنده هو مجموع من الأفراد الذين ينسحقون فيه و تختفي فيه هوياتهم، لكن الكل عند هيجل يتم التوصل إليه بعملية تجاوز و إعلاء Aufhebung لما هو خاص و جزئي، و للتناقضات بين الفرد و الجماعة.

الدولة عند هيجل هي التجسيد الحي لروح الشعب و أخلاقه الاجتماعية و عاداته و تقاليده، و هي التعبير السياسي عن مجتمع إنساني معين Community . و لذلك فهي ليست مجرد حكومة أو نظاما في الحكم كما تذهب الليبرالية، بل هي المجتمع كله و التجسيد السياسي لحياته الأخلاقية. الدولة أيضا هي المشاركة في النحن، أي في مجتمع إنساني شامل يحرر الفرد من تمركزه حول ذاته و حول مصلحته الشخصية. و الدولة عند هيجل أيضا هي مجتمع إنساني أخلاقي Ethical Community، بمعنى أن ما يشكلها ليس نظامها السياسي و حسب، بل هو ثقافتها و أخلاقها الاجتماعية و دستورها المستقى من هذه الأخلاق و من علاقاتها بالدول الأخرى في السلم و الحرب. و الأفراد في هذه الدولة تجمعهم مشاركتهم في مثل أخلاقية معينة و التزامهم بتراث معين و يوحدهم نسق واحد من الأخلاق الاجتماعية. يتحدث هيجل هنا عما يقصده علماء الاجتماع من النظام المعياري Normative Order الذي يحدد هوية مجتمع معين و نظامه السياسي، و الذي يعمل على إدماج الأفراد في مجتمعاتهم، فالاندماج الاجتماعي Social Integration و التساند Solidarity عند علماء الاجتماع، كما عند هيجل، يتحققان عن طريق المعايير و القيم و الثقافة.

عندما يقول هيجل أن الدولة تتجاوز و تضم في نفس الوقت مجال الحق المجرد، أو الحقوق الفردية، فهو يعني أن الدولة هي التي تضمن حقوق الأفراد و حريتهم. فتلك الحقوق و هذه الحرية ليس لهما معنى و لا يستطيعان أن يتحققا إلا في ظل اعتراف جماعي و كلي من الجماعة كلها باعتبارها كيانا سياسيا.

لكل مجال اجتماعي رابطة إنسانية معينة تحدد العلاقات الاجتماعية بين الأفراد المشاركين فيه. فمجال الأسرة هو مجال الغيرية الخاصة Private Altruism ، فأنا أسعى في أسرتي إلى إيثار أبنائي أو آبائي على نفسي، و على الرغم من أنني أوثر غيري، إلا أن ذلك يتم في نطاق خاص و محدد و هو الأسرة. أما المجتمع المدني فهو مجال الأنوية الكلية Universal Egoism ، فكل علاقاتي بغيري في المجتمع المدني تستهدف مصلحتي الشخصية، و أستخدم الآخر دائما باعتباره وسيلة لتحقيق أهدافي الخاصة. و أما الدولة فهي مجال الغيرية الكلية Universal Altruism ، أو يجب أن تكون كذلك، فأنا أوثر على نفسي أشياء أخرى كثيرة غير مجرد أسرتي الخاصة، إذ أضحي بحياتي في الحرب لا للدفاع عن مصالحي الشخصية و لا حتى عن ممتلكاتي أو أسرتي، فمن الممكن أن أنتقل بأسرتي و ممتلكاتي إلى مكان آخر لأحميها من الحرب إذا لم أكن أريد أن أحارب، لكني أضحي بحياتي في الحرب للحفاظ على مجتمعي و قيمه و هويته. وأتخلى عن جزء من ثروتي و ممتلكاتي في صورة ضرائب لا من أجل شخص معين بل من أجل المجتمع كله و صالحه العام الذي تمثله الدولة ( ). و الملاحظ هنا أن انتقال هيجل في وصفه للحياة السياسية من الأسرة إلى المجتمع المدني ثم إلى الدولة يكشف عن حركة جدلية من القضية Thesis إلى نقيضها Anti-Thesis و منهما إلى المركب Synthesis . فالأسرة أو الغيرية الخاصة هي القضية، و المجتمع المدني أو الأنوية الكلية هي نقيض القضية، و الدولة أو الغيرية الكلية هي المركب منهما.

الدولة عند هيجل متجاوزة للمصالح الجزئية و ممثلة للمصلحة الكلية، و ما تقع عليه مسئولية رعاية هذه المصلحة الكلية للدولة هي السلطة التنفيذية. قد يبدو هذا الكلام دعاية للدولة التسلطية، إلا أن هيجل يذهب إلى أن الإرادة الجزئية و العشوائية هي التي تنظر إلى الدولة على أنها قيد على حرية المرء. و نستطيع أن ندرك ذلك مما يقوله هيجل عن رابطة الواجب Bond of Duty التي ينظر إليها على أنها السائدة في مجال الدولة. يقول هيجل: "إن رابطة الواجب لا يمكن أن تظهر كقيد إلا على الذاتية اللامتعينة أو على الحرية المجردة، أو على الدوافع سواء أكانت دوافع الإرادة الطبيعية أو الإرادة الأخلاقية التي تحدد خيرها اللامتعين بطريقة تعسفية. غير أن الحقيقة هي أن الفرد يجد في الواجب تحرره" ( ).

على الرغم من أن الدولة تظهر في آخر "أصول فلسفة الحق"، إلا أنها الأولى منطقيا و تاريخيا. فالانتقال من مجال الحقوق الفردية إلى مجال المجتمع المدني ثم إلى الدولة لا يمكن أن يتم إلا في ظل دولة. ففي ظل دولة قائمة تظهر الليبرالية و يستطيع الاقتصاد الرأسمالي أن يتطور، و يستطيع أعضاء المجتمع الرأسمالي الوليد أن يسعوا وراء أهدافهم الخاصة، و في ظلها أيضا يكون للقانون سيادة و مصداقية. و لكن إذا كان للدولة أسبقية منطقية و تاريخية فلماذا لا يبدأ بها هيجل، و لماذا لا تظهر الدولة إلا في النهاية؟ لأن هيجل لا يضع أمامنا نظرية استنباطية تستنتج حقوق الأفراد و المؤسسات السياسية و الأسرة و المجتمع المدني من الدولة، بل يضع فينومينولوجيا للوعي السياسي بالدولة و بالحرية، أي إعادة بناء فلسفية للطريقة التي يمكن للفرد أن يصبح بها واعيا بحريته كما هي متحققة في الدولة الحديثة. ففلسفته السياسية تهدف إلى رفع مستوى الوعي الفردي و التعالي به فوق مستوى الحقوق الفردية و الأسرة و المجتمع المدني حتى تصل به إلى مستوى الدولة، أي مستوى الحرية المتحققة بالفعل. فإذا كانت الدولة كما يذهب هيجل هي الحقيقة الكبرى و الأساسية في عصره، فإن ما يجب عليه أن يفعله هو إزالة كل ما يعوق إدراكها و رؤيتها بإثبات أن كل ما يسبقها يؤدي بالضرورة إليها. و هذا هو بالضبط ما يجعل الإمكانات النقدية في فلسفته السياسية كبيرة. فمهمة التعالي بالوعي و قيادته فينومينولوجياً حتى يدرك أهمية و أولوية الدولة و يدرك تحقق حريته فيها هي ذاتها مهمة نقدية، ذلك لأنها تطلبت منه نقد نظريات الحق الطبيعي و العقد الاجتماعي و الليبرالية ( ).

كان هيجل على وعي تام بتعقد الجهاز السياسي و الإداري للدولة الحديثة، و بأن الفرد لا يمكنه أن يشارك مشاركة مباشرة و فعالة في ظل هذا الجهاز المعقد و المتخصص. و لذلك ذهب إلى ضرورة وجود تنظيمات وسيطة بين الفرد أو المجتمع المدني و الدولة. و من هنا رأى أن النقابة و الطبقة هما من بين هذه التنظيمات الوسيطة، فالنقابة هي المجال الذي يستطيع الفرد من خلاله ممارسة مهام عامة و السعي نحو مصالح عامة يتجاوز بها فرديته و أنانيته و يعمل للخير العام و يشارك في الحياة العامة. يقول هيجل: "المواطنون لا يشتركون في ظروف دولنا الحديثة السياسية بأقل القليل من الأعمال العامة. و من المهم على أية حال أن نزود الإنسان الأخلاقي بنشاط كلي يرتفع به فوق غايته الخاصة، و هذا العنصر لا تزوده به الدولة الحديثة (أي الدولة بالمعنى السياسي الضيق) و إنما تعطيه له النقابة.. (لكن و من جهة أخرى فإن) الدولة لابد و أن تتولى الإشراف على النقابات، و إلا فإنها سوف تتجمد، تبني نفسها و هي تنهار في نسق بائس من الطبقات المغلقة. غير أن الطبقة ليست في ذاتها و بذاتها طبقة مغلقة، بل إن هدفها هو على العكس وضع الحرف المنعزلة في نظام اجتماعي و رفع هذا النظام إلى دائرة يظفر فيها بالقوة و الاحترام" ( ). و عندما يقول هيجل أن الدولة يجب أن تشرف على النقابات، و أنها بدون هذا الإشراف تتجمد و تنهار إنما يسير مع روح الحياة السياسية الحديثة، و المعاصرة أيضا. فالفترات التي شهدت علو أهمية النقابات و دورها الفعال، أي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى و حتى السبعينات، إنما هي مرحلة قوة الدولة متمثلة في نظم دولة الرفاهية و دولة الاشتراكية الديمقراطية. أما الفترات التي شهدت ضعفا للدولة و اضمحلالا لها فهي أيضا الفترات التي شهدت ضعفا للنقابات و تهميشا لدورها. إن الدولة كما تنبأ هيجل هي الداعمة للنقابة و الضامنة لحقوقها.

كما يذهب هيجل إلى أن الطبقة هي التي تتوسط بين المجتمع المدني و الدولة، و بالتالي تعالج تناقضاته و سلبياته و ترفع المصالح الخاصة إلى مستوى الكلي، أي مستوى الدولة حيث تحصل على تعبيرها السياسي و الاعتراف بها.

وهناك طبقة يسميها هيجل الطبقة الكلية وهي طبقة الموظفين المدنيين Civil Servants و مهمتها "رعاية الصالح العام للمجتمع" . و على الرغم من أنهم يأتون من الطبقة الوسطى إلا أن اختيارهم و تدريبهم و تنظيمهم و روح الفريق لديهم توجه أنظارهم بعيدا عن منظور المجتمع المدني و نحو منظور الدولة ( ). هذه هي البيروقراطية التي سيركز عليها فيبر كثيرا و يذهب إلى أنها عماد الدولة الحديثة. و الملاحظ هنا أن البيروقراطية هي التي ستعمل كوسيط بين الجزئي و الكلي، بين المجتمع المدني و الدولة، و هي التي ستمثل السلطة العامة للدولة. فإذا كان هيجل يريد من الدولة أن تعالج تناقضات و سلبيات المجتمع المدني البورجوازي، فإن هذه المهمة من جانب الدولة تقع على عاتق البيروقراطية. لقد ذهب ماركس إلى أن تناقضات الرأسمالية سوف تعالجها ثورة اشتراكية تأتي بالبروليتاريا إلى السيطرة على الدولة، لكن الحقيقة أن ما حدث بالفعل في الثورات الاشتراكية و على رأسها الثورة الروسية أن البروليتاريا لم تصل إلى السيطرة على الدولة، بل إن ما سيطر عليها هي هذه البيروقراطية الممثلة في الحزب الشيوعي. و مرة أخرى يكون هيجل على حق.

مفهوم الدولة بين هيجل و ماركس:

على الرغم من أن ماركس قد وجه انتقادات لاذعة لفلسفة هيجل في الدولة و رفضها باعتبارها حلا لعلاج تناقضات المجتمع المدني البورجوازي، إلا أنه كان يستخدم معيارا هيجليا في حكمه على الدولة القائمة في عصره. فقد ذهب هيجل إلى أن الدولة تضم في نطاقها الحياة الاقتصادية، لكن باعتبارها المظهر و التجسيد الخارجي لروح الشعب و حياته الأخلاقية. أي أن الحياة الاقتصادية ليست هي الأساس أو البناء التحتي للحياة السياسية، بل العكس. و كل فلسفة هيجل في الدولة تهدف إلى جعل الدولة و تمثيلها لروح الشعب هي الأساس، و الحياة الاقتصادية هي العنصر الثانوي، و إلى حماية الدولة من أن تكون مجرد أداة اقتصادية أو مظهر من مظاهر الحياة الاقتصادية. و طالما كانت الدولة هي التي تضم في نطاقها الحياة الاقتصادية و ليس العكس، فهي عقلانية عند هيجل. أما ماركس فقد حكم على الدولة في عصره بأنها لاعقلانية، و ذلك لأنها تحولت إلى مجرد وسيلة لتحقيق منافع اقتصادية خاصة و أداة في يد البورجوازية تستخدمها لخدمة مصالح جزئية. فالدولة التي عاصرها ماركس هي الصورة المعكوسة للدولة الهيجلية، إذ أصبحت الحياة الاقتصادية هي الأساس أو البناء التحتي و الحياة السياسية مجرد مظهرا خارجيا أو بناء فوقيا. الدولة عند هيجل تكون عقلانية عندما تتحول الحياة السياسية إلى أن تكون تعبيرا عن قيم غير اقتصادية، أي عن روح الشعب و قيمه و حياته الأخلاقية، أما الدولة عند ماركس فهي غير عقلانية لأن الحياة السياسية و معها القيم الإنسانية أصبحت تعبيرا عن قيم اقتصادية.

و اعتقد ماركس أن الحل يتمثل في سيطرة البروليتاريا على الدولة. لكن ماذا ستفعل البروليتاريا بالدولة عندما تسيطر عليها؟ سوف تعمل على تحطيم الدولة البورجوازية القائمة و تلغي الطبقات و الملكية الخاصة، أي سوف تقضي على سيطرة الاقتصاد على الدولة، سوف تحقق الدولة الهيجلية. و هذا هو المعنى الحقيقي لمقولة ماركس الشهيرة القائلة أن الفلسفة قد اكتفت حتى الآن بتفسير العالم، و المهم الآن هو تغييره. الحقيقة أن الماركسية تريد تغيير العالم حسب التفسير الهيجلي له. فدكتاتورية البروليتاريا هي تحقيق للدولة الهيجلية.

لكن التاريخ أثبت أن البروليتاريا لم تكن هي التي حققت مشروع الدولة الاشتراكية، فمن حققها هم مجموعة من السياسيين الثوريين الطموحين الذين تحولوا إلى هيئة بيروقراطية، و هم البلاشفة الروس، و الذين أنشأوا حزبا لم يكن إلا جهازا بيروقراطيا لإدارة الدولة الجديدة. أي أن من حقق الاشتراكية بيروقراطية من نوع خاص، لا البروليتاريا. و مرة أخرى يكون هيجل على حق، فالموظفين المدنيين عنده هم الطبقة الكلية الممثلة لمصلحة الدولة و المنفذة لإرادتها العليا، و هؤلاء هم الذين حققوا جميع المشاريع الاشتراكية التي ظهرت في القرن العشرين.

فلسفة هيجل في الدولة في ضوء التاريخ :

لماذا قدم هيجل كل هذا النقد غير المسبوق لنظريات الحق الطبيعي و العقد الاجتماعي و الليبرالية، و ذلك في أوج العصر الليبرالي؟ و ما السبب وراء الأهمية الكبيرة للدولة في فلسفته السياسية؟ و لماذا جعل الدولة هي المعالجة و المتجاوزة لتناقضات و سلبيات المجتمع المدني البورجوازي؟ ما السبب في هذا الاختلاف الحاد عن تراث النظرية السياسية الليبرالية في صورتيها الإنجليزية و الفرنسية؟ الحقيقة أن هناك ظروفا تاريخية و اجتماعية عديدة وراء ذلك. و نستطيع القول أن هذه الظروف تشكل في مجموعها ما يسمى بوضع التـأخر التاريخي لألمانيا.

لم تمر ألمانيا بمراحل التطور الاجتماعي و السياسي التي عرفتها إنجلترا و فرنسا، فقد ظل الإقطاع سائدا حتى القرن التاسع عشر، و ظلت الأرستقراطية مسيطرة حتى أوائل القرن العشرين. و لم تعرف ألمانيا ثورات سياسية مثل التي عرفتها إنجلترا سنة 1648 و فرنسا سنة 1789، و ظلت مفتتة على عدد كبير من الإمارات و الدويلات و المدن المستقلة، و لم تعرف الوحدة السياسية إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. كما كانت البورجوازية الألمانية ضعيفة و مشتتة ولاءاتها عبر السلطات الملكية و الأرستقراطية، أما الصناعة فكانت كذلك متأخرة و لم تعرف ألمانيا الثورة الصناعية إلا في منتصف القرن التاسع عشر. ووسط هذه الظروف التاريخية والاجتماعية الخاصة لم يكن من الممكن لهيجل أن يعتمد على الفكر السياسي الليبرالي لتأسيس نظرية سياسية، فالليبرالية، المرتبطة بالخبرات الاجتماعية و السياسية للبورجوازية، لم تكن لتناسب الوضع الألماني، و الحقيقة أن الاعتماد على الليبرالية بدون توافر الأسس الاجتماعية لها كان سيظهر على أنه وعي زائف. و من المعروف أن ماركس و إنجلز قد نقدا عددا من الليبراليين الألمان لنفس هذا السبب، و حكما على أفكارهم الليبرالية بأنها أيديولوجيا، و هذه هي الأيديولوجيا الألمانية التي وجها لها نقدا لاذعا. أما هيجل فلم يكن ليقع في مثل هذا الخطأ، و لذلك لم يعتمد على أي أفكار ليبرالية في تأسيس فلسفته السياسية.

كما لم يكن هيجل ليقع في خطأ إلحاق دور كبير للبورجوازية في نظريته السياسية، و كان على وعي بسلبياتها قبل ماركس بكثير، و لذلك فإن فلسفته في الدولة باعتبارها متجاوزة للمجتمع المدني و معالجة لسلبياته تستند على وعي سياسي عميق بالوضع الاجتماعي الألماني من جهة، و بالخبرات السياسية للبورجوازية الإنجليزية و الفرنسية من جهة أخرى. و من هنا وجه نقدا حادا لمجتمع مدني بورجوازي من جهة، و لثورة بورجوازية هي الثورة الفرنسية من جهة أخرى. فهو يريد أن يقول أن ألمانيا لا يناسبها ليبرالية إنجليزية و لا ليبرالية فرنسية، و من هنا يضع حلا مختلفا بفلسفته في الدولة، التي يريد منها في نفس الوقت أن تحل محل الفلسفات السياسية الإنجليزية و الفرنسية المستندة على الخبرة التاريخية للبورجوازية.

يذهب ماركس و إنجلز في البيان الشيوعي إلى أنه عندما تُفتقد البورجوازية العصرية في مجتمع ما، أو تحجم عن العمل المنتظر منها، يصبح العمل من مسئولية الطبقة التي ستحل محلها. و المقصود أن البورجوازية هي التي تطور أساليب الإنتاج و تنشئ صناعة و أسواقا و تعمل على تحقيق بعض الحريات الفردية و الحقوق السياسية. و يريد ماركس و إنجلز من البروليتاريا أن تحل محل البورجوازية في تحقيق هذه الأشياء في المجتمعات التي لم تعرف بورجوازية قوية. و الحقيقة أن ألمانيا في عصر هيجل، كما كانت أيضا في عصر ماركس و إنجلز، لم تعرف بورجوازية قوية، إلا أن هيجل لا يلحق المهام التي كان يجب أن تقوم بها بالبروليتاريا أو بأي طبقة أخرى، بل يجعلها مهام الدولة.

و الحقيقة أن الدولة أثبتت أنها هي الفاعل الرئيسي في المجتمعات التي افتقدت بورجوازية قوية، مثل المجتمع الألماني نفسه في القرن التاسع عشر و المجتمعات النامية في القرن العشرين. أليس الدور الذي لعبته الدولة في هذه المجتمعات دليلا على صدق حدس هيجل حول الدولة و دورها الجديد؟ لقد كان نقل هذه المجتمعات إلى الحداثة و التصنيع و الخروج عن تخلفها السابق مهام خارجة عن قدرات و إمكانيات بورجوازياتها و مجتمعاتها المدنية، و لذلك قامت الدولة بهذه المهام.
و يتمثل جانب آخر من الجوانب التي يتفوق فيها فكر هيجل السياسي على فكر ماركس في موقفهما من البورجوازية. فعلى الرغم من أنهما يوجهان انتقادات عديدة لها، و يضع كل منهما بديلا عنها، مثل الدولة في حالة هيجل و الثورة الاشتراكية في حالة ماركس، إلا أن هيجل لم يذهب إلى التخلي عن البورجوازية نهائيا، فالحل عنده يتمثل في الدولة التي تتجاوز البورجوازية ومصالحها الاقتصادية الجزئية الخاصة، و التي تضمها في وحدة أعلى، أما ماركس فقد ذهب إلى ضرورة القضاء على البورجوازية نهائيا و على الطبقات كلها للخروج من دائرة المصالح الجزئية كلها. البورجوازية تظل موجودة في ظل الدولة الهيجلية، لكن في إطار من المصلحة الكلية، و هذا هو ما حدث في الغرب خلال القرن العشرين، فقد استطاعت الدولة هناك التوفيق بين الرأسمالية و الطبقة العاملة في ظل نظام دولة الرفاهية و الديمقراطية الاجتماعية.

إن ميدان المجتمع المدني كما يذهب هيجل هو ميدان الفردية و الجزئية، و هي أشياء سلبية، لكن ما هو إيجابي فيه هو أنه ميدان الحقوق الفردية و الحقوق السياسية، فالفرد في المجتمع المدني يلقى اعترافا بفرديته و خصوصيته و بمصلحته الشخصية في الحياة و الملكية و حفظ الذات، بالإضافة إلى حقوق سياسية في اختيار الحكومات. و الحقيقة أن البورجوازية هي التي عملت على تحقيق هذه الإنجازات في صراعها مع الإقطاع و الأرستقراطية، و ذلك باعتراف ماركس نفسه. لكن ماركس لم يدرك خطورة التضحية بالبورجوازية، فالقضاء عليها قبل تحقيق مبادئ مجتمعها المدني يعني القضاء على هذه المبادئ نفسها و على إمكانية تحققها. و هذا هو ما حدث في المجتمعات التي طبقت الاشتراكية، فقد طبقتها في مقابل التضحية بالحقوق الليبرالية البورجوازية. لقد كان ماركس يصر على ضرورة تحقيق المبادئ الليبرالية البورجوازية قبل الثورة الاشتراكية، إلا أنه مال في مؤلفاته اللاحقة إلى الاعتقاد في أن الثورة الاشتراكية سوف تحقق تلقائيا هذه المبادئ، لكن هذا لم يحدث.

و الحقيقة أن الدولة في البلدان الغربية في القرن العشرين قد حملت الطابع الهيجلي بوضوح. فعلى العكس من توقعات ماركس و إنجلز، أيدت الطبقات العاملة دولها في الحربين العالميتين بدلا من أن تجد في الحرب فرصة للاتحاد مع بعضها ضد هذه الدول. فقد كان ماركس و إنجلز يتوقعان حدوث تحالفات طبقية عابرة للقوميات في حالة دخول النظام الرأسمالي في حرب شاملة مع بعضه البعض، لكن ما حدث كان عكس ذلك تماما. كما أن نظرة هيجل للحياة السياسية أثبتت أنها هي الأصدق. فعلى الرغم من أن الشعوب قد حصلت على السيادة إسميا، إلا أنها لا تمارس هذه السيادة بطريقة مباشرة، و هي الطريقة التي انتقدها هيجل، بل عبر مؤسسات وسيطة مثل الأحزاب و النقابات و اتحادات العمال و جماعات الضغط. كما أصبحت الدولة تركيبا مندمجا من الأحزاب و الجماعات المنظمة و الموظفين المدنيين و البيروقراطية السياسية و السياسيين المحترفين. فالممارسة السياسية هي ممارسة جماعات سياسية منظمة لا أفراد منعزلين، و المشاركة السياسية هي مشاركة فئات و تنظيمات سياسية، و هي صورة للدولة و للحياة السياسية تتفق إلى حد كبير مع الصورة الهيجلية.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن