الضفة الجنوبية لحوض المتوسط مطالبة بانقاذ المنتدى الاجتماعي المتوسطي من الغرق

حسان خالد شاتيلا
chatila.hassankhaled@gmail.com

2006 / 12 / 27

كانت مشاركة الحوض الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط ضعيفة إلى حدِّ عظيم في المنتدى الاجتماعي المتوسطي الأول (م.إ.م.) الذي كان التأم في مدينة برشلونة عاصمة الكاتالونيين (أسبانيا) في شهر حزيران/يونيو من العام 2005. ضعيفةٌ، من حيث المساهمة في إقرار محاوره الرئيسة، وتمثيل حركات ومجتمعات الجنوب في جهازه المركزي، وتمويل ميزانيته. ولم تكن مشاركة الضفة الشمالية أفضل من الضفة الجنوبية بكثير، وإن كان عدد قليل من الحركات والجمعيات في أوروبا الشمالية، ومنها الكاتالونيَّة بوجه خاص، ملأت هذا الفراغ ووجَّهت المنتدى في مسار مناهض للعولمة كما يراه مناهضو النيوليبرالية في الضفة الشمالية للمتوسط، والذين يولون أحيانا الأولوية لقضايا تحظى من الضفة الجنوبية باهتمام أقل، كالهجرة، والمرأة، والصحة، مقابل مقاومة المشاريع الأمريكية والصهيونية، والديمقراطية، والدين والسياسة. فراغ ملأه إلى حد ما عدد قليل من النقابيين الكاتالونيين وجمعيات المجتمع المدني في هذا الإقليم الأسباني. حتى أن جمعيات المجتمع المدني، والكاتالونية منها خاصةً، تفوَّقت على قلّّتها من حيث العدد على الحركات الاجتماعية، عمالية وفلاحية من الضفَّتين على حد سواء.

وكان المنتدى عَقدَ، قبل التئامه في حزيران يونيو من العام 2005، ستة مجالس تحضيرية دولية A.P.I. لتعبئة الحركات الاجتماعية وجمعيات المجتمع المدني في الجنوب في مسعى منه لضمِّها إلى أعمال التخطيط والبرمجة لبناء أول م.إ.م. فقد تَنَقَّل تحدوه هذه المهمة ما بين الدار البيضاء (بعد تذليل صعوبات جمة مع سلطات المملكة)، نابولي، قبرص، ملقا، مارسيليا، واسطنبول. ثم عُقدت جلسة سابعة ما بعد اختتام المنتدى في شهر نوفمبر من العام 2005 في برشلونة لتقويم أعمال المنتدى الأول. وكان الهدف من هذه السلسلة من الجلسات اجتذاب الضفة الجنوبية من الحوض، لكن المحاولات هذه لم تَنجح في اختراق جدارين تاريخيين من الأسمنت يفصلان مابين الضفتين. الأول جدار تاريخي من الاستبداد يَرتَفع حاجزا ما بين الشمال والجنوب لأسباب ذات صلة بثقافات الاستبداد ما قبل الكولونيالية وما بعدها. والثاني وثيق الصلة بالصراع ضد "أوروبا الاستعمارية"، وما خلَّفه الاستعمار من ذكريات في اللاشعور الجمعي وثقافة القمع. فضلا عن أن الحركات الاجتماعية، وحركات مناهضة العولمة والمجتمع المدني، لم تكن مهيأة لتقبِّل هذه الظاهرة لأنها عندما تكون متحررة من عقبات هذين الجدارين، فإنها منكفئة على ذاتها، ولا ترَ نفعا من العمل الدولي في إطار المنتديات الاجتماعية. بل، والأسوأ من ذلك كله أن بعض مناهضي العولمة من العرب، قاطعوا المشاركة في المنتدى اعتقادا منهم أن مشاركتهم هذه إلى جانب مناهضي العولمة الإسرائيليين هو بمثابة تطبيع للعلاقات مع الإسرائيليين. ما حال دون أن تتمكن هذه المجالس التي كانت تحت إشراف كثرة من الأوروبيين يسيِّرون المنتدى بصورة مؤقتة، من اختراق هذه الجدران للنفوذ إلى العالم العربي الذي يشكِّل النصف الآخر من حوض المتوسط، والمهدَّد، قبل وأكثر من مجتمعات الشمال في بلدان حوض المتوسط، بمشاريع العولمة والنيوليبرالية، من مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، إلى الشراكة الأوروبية المتوسطية، مرورا بمنطقة السوق الحرة الكبري للعام 2010، انتهاءً بتمزيق الأمة العربية بفضل استفزاز النزعات العدوانية لدى القوميات التي عاصرت العرب عبر التاريخ، وكانوا شركاء لهم في السلطان، على حد قول ابن خلدون، أمازيغا وأكرادا؛ ناهيكم والحروب المزمنة في العراق وفلسطين ولبنان التي لم تتوقف منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي، والتي أخذت مضمونا جديدا منذ التسعينات من القرن الماضي مع بدء عهد العولمة النيوليبرالية. ما أدى هذا الغياب للجنوب إلى ظهور فراغ في المجالس التحضيرية الدولية، وهي بمثابة جمعيات عامة، ولجنة التنسيق الدولية (G.C.I.)، وهي بمثابة اللجنة التنفيذية. وهذا قاد بالتالي بدوره إلى غياب الجنوب عن مراكز القرار، واتساع نفوذ الشمال الذي ملأ هذا الفراغ رغما عنه، وليس حبا منه في السيطرة على آلية العمل. لا سيما وأن للحركات الاجتماعية في الضفة الشمالية، ومنها النقابات، خبرة ودراية وتقاليد في تنظيم العمل الجماعي ما يفوق الخبرة المكتسبة قريبة العهد نسبيا للحركة الاجتماعية في الجنوب.

إن وقائع وحيثيات المنتدى من حيث مكوناته المجتمعية والثقافية، وأداء هيئاته القيادية المُنتخبة، أي لجنة التنسيق الدولية، واللجنة التقنية، لوظائفها التنظيمية، ولكل ما كان له صلة بالبرامج والأجندة، ومنها بوجه خاص ما كان يتعلق بالتحضير لانعقاد أول م.إ.م.، تُسَجِّل أن التقصير التعبوي والإعلامي كان واضحا للغاية، بل هو كان بمثابة كارثة. حيث لم يتعدَّ -على سبيل المثال- عدد المشاركين في المنتدى الأول خمسة ألوف من مناهضي العولمة، في ما يبلغ عدد هؤلاء في غيره من المنتديات عشرات الألوف. والأدهى من ذلك أن الإعلام الدولي، ككبريات الصحف الأوروبية والقنوات التلفزيونية العالمية كانت غائبة بصورة كاملة. هذا التقصير يعود لأسباب ليست كلها مرتبطة بمشكلات الضفة الجنوبية، وضعف مشاركتها، وإنما أيضا إلى أسباب ذات صلة بالتاريخ السياسي والاجتماعي لإقليم كاتالونيا بوجه خاص، وأسبانيا عامةَ. فالحزب الديمقراطي الاجتماعي لم يَعرِف كيف يتخلَّص من المنتدى الذي كان من المتحمسين إليه قبل تسلمه للسلطة في نوفمبر من العام 2003. فما كان منه بعد تسلمه للسلطتين التنفيذية والبلدية في إقليم كاتالونيا إلا أن ميَّعه أو عَوَّمَه لاضطراره انتهاج السياسة الرسمية للاتحاد الأوروبي، ومنها بوجه خاص الشراكة الأوروبية المتوسطية التي تلبي مصالح الرأسمالية. ناهيكم أيضا وأن عاصمة الإقليم برشلونة هي مقر القمة الأوروبية المتوسطية، ومركز للاجتماعيات الدورية للشراكة بين دول الضفتين. هذا، بالإضافة إلى أن العزلة ما بين الأقاليم الأسبانية بعضها عن البعض الآخر سياسيا ومجتمعيا، وبوجه خاص كاتالونيا عن غيرها، قاد كل ذلك إلى عزلة كاملة للمنتدى عن باقي الأقاليم الأسبانية، وساهم بالتالي في عزلته إلى حد ما عن حوض المتوسط (انظر "الحوار المتمدن"، حسان خالد، العدد 1332-2005، والعدد1337-2005).

وكانت "اللجنة التقنية" للمنتدى، وهي لجنة مُنتخَبة من مجموعات العمل في المنتدى (أو البرامج)، من ثقافية واقتصادية وبيئية وصحية، إلخ...، قد اقتصرت في تكوين أعضائها على أعضاء هذه المجموعات من الكاتالانيين فقط، وكانت تمارس سلطات أوسع من لجنة التنسيق، لأن الميزانية المالية كانت بين أيديها، طالما كان تمويل المنتدى من مصادر محلية في كاتالونيا (بلغت قيمة المصروفات أقل بقليل من مليون يورو). وهي وحدها التي كانت على صلة بالسلطات المحلية في ما يتعلق بتنظيم المنتدى. وكانت اللجنتين المذكورتين فشلتا في العثور على مصادر تمويل من الضفة الجنوبية من أية جهة كانت، وفي مقدمتها النقابات العمالية المغاربية؛ وإن كان عدد قليل للغاية من نقابات الضفة الشمالية تبرَّع بالنذر اليسير. هذا، وإن "اللجنة التقنية" لا تمتلك من حيث الأساس أية صلاحية في اعتماد القرارات، وهي من حيث الأصل مجرد سكرتارية، إلا أنها كانت تمارس على لجنة التنسيق الدولية سلطة أعلى منها، بالنظر إلى الخلل في تركيب المنتدى من حيث اتساع حصة الكاتالانيين ضمن حصة الضفة الشمالية، ولانعدام إي حضور فعال للضفة الجنوبية، بالإضافة إلى اقتصار التمويل على المصادر الكاتالونية. ما جعل الهيأة المركزية ذا رأسين، "لجنة التنسيق الدولية من جهة"، و"اللجنة التقنية" من جهة ثانية. وهما كالخطَّين المتوازيين لم يلتقيا أبدا. وكانت موافقة الثانية على النفقات، وتوزيعها، تُنْقَل إلى لجنة التنسيق الدولية عبر أعضاء كاتالانيين هم نفسهم أعضاء في اللجنتين. هذا، وإن اللجنة التقنية لم توافق على جدول توزيع ميزانية التضامن مع الجنوب، أي تغطية نفقات السفر والإقامة للمشاركين من الجنوب، إلا قبل أسابيع قليلة من انعقاد المنتدى. بل، والأدهى من ذلك، أنها لم تتسلَّم هي جزءً فقط من الأموال التي كانت وُعِدَت بها إلا ساعات قليلة قبل انعقاد المنتدى لأن المصادر التي كانت وَعَدَت بالتمويل تخلَّفت عن الوفاء بوعدها في الوقت المحدَّد! ما اضطرها إلى الاستدانة من بعض الأفراد متوسطي الحال لتغطية النفقات (على سبيل المثال: حظي الفلسطينيون على حوالي 150 مساعدة، والسوريون 20، والمصريون 10، والجزائريون والمغارية ما يزيد عن حوالي المائتين لكل منهما، ونال الأمازيغ نحو الخمسين، والتونسيون نحو الثلاثين إلخ. وكان حضور الإسرائيليين "العبريين" في وفد إسرائيل ضعيفا مقارنة بعرب 48 من مناهضي العولمة). ولا بتسع المجال هنا للتعمِّق في هذه الأسباب التي كانت وراء التقصير والشلل النصفي الذي لحق بالمنتدى الأول ( راجع المرجع السابق)، طالما كان الشاغل الرئيس هنا هو مخاطبة الضفة الجنوبية لحوض المتوسط، عربا، ومن عاصرهم في التاريخ، أمازيغا وأكراداً.

لكن هذا التقصير أو الشلل النصفي الذي لحق بالمنتدى الأول- وهذا هو ما يجب أن تُدركه الضفة الجنوبية قبل الشمالية- ليس هو بالأمر الهيِّن أو العارض، والذي كان يمكن تجاوزه ما أن انْفَََضَّ المنتدى في برشلونة. إنما هو حسب ما يتبيَّن من وقائع المساعي الحثيثة والجدِّية لانعقاد المنتدى الثاني، والتي ما تزال مستمرة منذ انعقاد المجلس التمهيدي الدولي السابع في برشلونة في شهر نوفمبر من العام 2005، والذي كان اقتَرَح على وجه افتراضي، ليس غير، انعقاد المنتدى الثاني في غزة، وحتى اليوم، أي ما بعد "اجتماع ميدليك" (باسم جمعية المجتمع المدني الإيطالية الداعية إلى الاجتماع) في روما في نهاية الشهر الماضي نوفمبر، وهذه المساعي ما تزال حتى الآن تدور وتلف حول الجزائر في محاولة لإيجاد منفذ إليها لانعقاد المجلس التمهيدي الدولي فيها.. يَتبيَّن من كل ذلك أن الجهاز المركزي للمنتدى، أي لجنة التنسيق الدولية، التي تتلاكم مع العقبات، أو تتخبط في بحثها عن مخرج من الاستعصاء، لم تعثر حتى اليوم على حركة اجتماعية في الجنوب تسمح لها ظروفها السياسية باستقبال المجلس التمهيدي الدولي بأسرع وقت ممكن، أو مجتمع غيره يستقبل المنتدى الثاني في ما بعد في العام 2008. علما أن كل المنتديات الاجتماعية، الدولية والإقليمية، تسير بصورة انسيابية، إلا ال/م.إ.م الذي تتقطَّع مياهه. فإذا ما هو تخلَّص من مياه راكدة سقط فيها ثم خرج منها بشق الأنفس، فليسقط في غيرها. وكان المنتدى الأول أقرَّ في مجلس تمهيدي دولي مبدأ التناوب بين الشمال والجنوب في ما يتعلق بانعقاد ال/ م.إ.م من دورة إلى دورة غيرها.

هذه المعطيات والوقائع تُبيِّن أن المشكلات، ومنها بوجه خاص التعبوية، وهي تتعلق بالجنوب بصورة خطيرة، التي كانت رافقت منتدى برشلونة من البداية وحتى النهاية، لم تنته ويُغلق ملفها بعدما أٌُغلق باب قصر المعارض في برشلونة لدى إنهاء المنتدى لأعماله. إذ ها هي تَمثُل من جديد أمامنا، وها نحن نرثها عن المنتدى الأول. إنها في المقام الأول صعوبة توفير أسباب الاستمرار للمؤتمر، وما يرافقها من صعوبات تعبوية في الجنوب بوجه خاص تفوق من حيث خطورتها وأهميتها تعبئة الحركات الفلاحية والعمالية في الشمال، فضلا عن صعوبات أخرى تمويلية، بالإضافة إلى تشييد جهاز مركزي جديد، واعتبار الجهاز السابق منحلا منذ نهاية المؤتمر السابق.

لكن المنتدى ما بعد برشلونه لم يُكتَب له النجاح في مسعاه للتعبئة، منذ انتهاء برشلونة في حزيران/يونيو 2005 وحتى الأمس القريب في اجتماع عُقِد للجنة التنسيق الدولية في مارسيليا (مطلع أكتوبر 2005)، لم يُكتب له النجاح في العثور على مجتمع من الجنوب لاستقبال المنتدى. كما هو فشل في حشد عدد كافٍ من المشاركين في مجلسين تمهيديين دوليين، عُقد الأول منهما في برشلونة (نوفمبر 2005)،والثاني على هامش المنتدى الاجتماعي الأوربي المنعقد في أثينا (مايو 2006)، بحيث يَنتَخب لجنة تنسيق دولية جديدة، ويعيد تشييد أجهزته حسب ما تُطالب به مجموعة آتاك المتوسط. علما أن هذه الأخيرة تلح على ضرورة إعادة تشييد أجهزة المنتدى ورسم وظائف جديدة لها كإجراء ضروري لتوفير أفضل الشروط لأداء أجهزة المنتدى عملها، أسوة بغيره من المنتديات.

على هذا النحو، فإن مشكلات برشلونة ما تزال حاضرة في كيان المنتدى الثاني. فهي تلاحق ال/م.إ.م في المساعي الرامية إلى إبقائه على قيد الحياة. إنها مشكلة عويصة، وهي لا تزال مستعصية على الحل. ليس لأن المشكلة ذات أصول كاتالونية المنشأ، فقد بَذل الرفاق الكاتالونيون مناهضو العولمة كل جهودهم كي يتكلل المنتدى الأول بالنجاح. بل، وإن المنتدى الأول حقَّق نجاحا عظيما عندما نجح لأول مرة في جمع مناهضي العولمة من كل بلدان الحوض في منتدى واحد. وهم جمعوا من السلطات المحلية وغيرها من جمعيات ومؤسسات في إقليم كاتالونيا نحو مليون يورو لتغطية النفقات. إنما لأن المشكلات إياها التي انتهى أو تَوَقَّف عندها المنتدى الأول، وهي في المقام الأول ذات صلة بتغَيُّب الحركة العمالية والفلاحية في الضفة الشمالية عن المشاركة والتعبئة بصورة كافية، من جهة، ولأن الحركات النظيرة في الضفة الجنوبية، وهي المعنية أكثر من غيرها بمناهضة العولمة وحروبها وأسواقها الحرة وخصخصة قطاعها العام، قد تغيَّبت بدورها ومعها المجتمع المدني بصورة خطيرة، من جهة ثانية، بالإضافة إلى المشكلات السياسية لإقليم كاتالونيا والتي وَقَفَت، كما جاء سابقا، بتوجيه من الاشتراكيين الديمقراطيين، أمام التعبئة الواسعة في كاتالونيا، وأسبانيا والحوض المتوسطي على حد سواء، من جهة ثالثة.. وذلك حتى إذا ما تضافرت كل هذه المسبِّبات وغيرها، فإنها لم تَترُك أساسا صلبا وفسيحا للبدء بصورة فورية بالتمهيد لتشييد المنتدى الثاني، أسوة بغيره من المنديات الاجتماعية، الذي يُقِر مع انتهاء أعماله الأجندة الاجتماعية المقبلة. أو بالأحرى، فإن تاريخ المنتدى الأول من حيث تكوينه المجتمعي والسياسي، ولانقطاع الجنوب عنه بوجه خاص، لم يُوفِّر جراء التقصير في التعبئة من جهة، وبسبب الخلل الذي كان ولا يزال يرافق جهازه المركزي، أي التوفيق الوظيفي بين عمل كل من لجنة التنسيق الدولية، من جهة، واللجنة التقنية من جهة ثانية، الشروط الصحِّية اللازمة كي تَنطلق من داخله وعبر جهازه المركزي مجموعة من المنظمات الاجتماعية العمالية والفلاحية وغيرها، بما يضمن لل/م.إ.م، ما أن انتهت أعمال منتداه الأول في برشلونة، أسباب الاستمرار في المستقبل للمنتدى في صيغته الثانية بصورة متصلة. فكأن المنتدى الاجتماعي الأول وُلد بصورة عسيرة وهو ذو مستقبل مجهول، حسب ما يلاحِظ بعض المراقبين الأوروبيين اليساريين (انظر المصدر السابق).

أما ما كان من هذه الأسباب ذات صلة بالضفة الجنوبية، فإن المجلس التحضيري الدولي في قبرص - وكانت مشاركة العرب ومعاصريهم الأمازيغ والأكراد فيه ضعيفة- كان انتَخَب إلى لجنة التنسيق الدولية خمسة أعضاء عرب وأمازيغي واحد (مصري، وفلسطينية من إسرائيل، وفلسطينية ثانية من الضفة الغربية، ومغربي، وجزائري، وأمازيغي، وخَلَت اللجنة من أي "صهيوني" ) من مجموع 12 عضوا. إلا أن لجنة التنسيق هذه كانت تعاني من حيث أداء وظائفها خللا. إذ هي لم تُغلق أبوابها ومنافذها أمام أعضاء المجالس التحضيرية ممن كانوا يرغبون بالمشاركة في اجتماعات اللجنة، والإدلاء بآرائهم، وأحيانا تعطيل أعمالها جراء احتدام النقاش في لجنة يقتصر أعضاؤها المنتَخبون على اثني عشر عضوا، في ما يصل عدد المشاركين في أعمالها إلى نحو الخمسين أو يزيد. وهي كانت تغصًّ بالكتالانيين، من نقابين وممثلي الجمعيات، عندما كانت تُعقد أعمالها في برشلونة (خمسة اجتماعات أو أكثر). ومن أوجه هذا الخلل أن مثابرة عدد من أعضاء لجنة التنسيق في اجتماعات اللجنة كانت متقطِّعة، غالبا لأسباب مقبولة بالنظر إلى المسافات الشاسعة التي تفصل ما بين برشلونة، مقر اجتماعات لجنة التنسيق، وفلسطين أو مراكش على سبيل المثال. علما أن عددا من المُنتَخَبين في مجلس قبرص، ومنهم من كان ُمَمثِّلا لقبرص نفسها، تبَخَّر مع مياه المتوسط، ولم تَنْتَخَب المجالس التحضيرية الدولية التي كان يُعد المشاركين في أعمالها بالمئات من جميع بلدان الحوض، من يحل مكانهم.

صحيح أن التمثيل الجنوبي في المجلس كانت قليلة من حيث الحصة النسبية للضفة الجنوبية الممتدة من المغرب إلى العراق، مقارنة بالضفة الشمالية التي اتسعت لتضم بلدان البلقان، إلا أن مشاركة ممثلي الجنوب من مغاربيِّين ومشرقيِّين كانت، بالمقابل، من حيث الفعل والحضور والمتابعة أقل من المستوى المطلوب، سواء من حيث الأداء، أم من حيث العمل التعبوي والحضور ومتابعة أعمال لجنة التنسيق الدولية. وهذا لا يعود لأسباب شخصية ما ثلة في ممثلي الضفة الجنوبية- إذ ليس بالإمكان أبدع مما كان كما كان يقول لايبنتز- وهم مناضلون متمرِّسون في العمل الاجتماعي والسياسي والثقافي؛ وإنما لأسباب موضوعية وثيقة الصلة بأحوال وأوضاع الحركة الاجتماعية وتكوين المجتمع المدني في الجنوب.

إلى ذلك، فإن المنتدى يقف اليوم، وهو يواجه صعوبات عسيرة في استنفار مناهضي العولمة في الجنوب وتعبئتهم للمشاركة في تشييد المنتدى الثاني، بالإضافة إلى العثور على حركة اجتماعية في إحدى بلدانهم لاستضافة المجالس التحضيرية الدولية، ومن ثم المنتدى الاجتماعي الثاني في ما بعد (يونيو2008)، يقف على قدم واحدة في الضفة الشمالية. وهو لم يجد بعد وجودا حقيقيا للضفة الجنوبية على كبرها واتساعها ليضع قدمه الثانية فيها. أو هو بالأحرى يراها، وقد وجد لنفسه موطئا يضع قدمه الثانية فوقه، إلا أنه مجرد فرضيات من شأنها أن تغوص به في الفراغ. ذلك أن المنتدى لا يزال يبحث عن بلد عربي "افتراضي" تتسع فيه الحرية لمكان يُعقد فيه المنتدى الثاني. لقد خُيِِّل إليه أنه عَثر أخيرا على بغيته عندما وجد في الجزائر، بلد "المليون شهيد"، وحيث الحركة الاجتماعية تتمتع باستقلال ذاتي ولو نسبي عن السلطة، وحيث المنتدى الاجتماعي الجزائري ناهض ويقف على قدميه، وجد لنفسه موطىء قدم في عالم الجنوب المُغلق وراء جدران قديمة وحديثة من القمع. لكنه سرعان ما اكتشف أن هذا المنتدى منقسم على نفسه، بين مؤيد للسلطة ومناهض لها، وأن السلطة الجزائرية ستضع يدها على المنتدى إذا ما انعقد فوق أراضيها. اللهم ما لم تقع معجزة، ويتكفَّل "المنتدى الاجتماعي الجزائري الحر" بتوفير كل شروط الاستقلال والحرية لل/م.إ.م، وجلساته، إن من أجل المجلس التحضيري الدولي، أم من أجل استقبال ال/م.إ.م الثاني. فرضيات ليس غير. وليس حال المملكة المغربية أحسن حالا من غيرها، حيث المنتدى الاجتماعي المغربي أقل ما يقال فيه أنه في أزمة، وإذا ما انعقد المنتدى في بلاد المرابطين والموحدين، فإن السلالة العلوية المالكة ستًجيِّر المنتدى لنفسها؛ إعلاميا بأقل تقدير. فإذا كان المجتمع والجمعيات والنقابات والحركات الاجتماعية في العالم العربي، بأمازيغييه وأكراده، يرزح تحت سلطات الأنظمة الشمولية والاستبداد، أو بالأحرى نظام التسخير الكلي (وهي ترجمة أفضل للتوتاليتارية من الأنظمة الشمولية)، وكان من المتعذر عقد منتدى دون أن يكون للسلطات فيه أيدِ وعيونِ وآذان، وإذا عملنا بالفرضية القائلة أن المجتمع المصري يَشهد بصورة استثنائية في الآونة الأخيرة تَشَكُّل جمعيات ونقابات عمالية وفلاحية تكافح وتناضل للدفاع عن حقوقها الطبقية ومقاومة النيوليبرالية التي تعتدي اقتصاديا على المجتمع المصري وبناه البشرية وتحطِّمها، إلا أن هذه الجمعيات على ما لها من أهمية مجتمعية ومعنوية، فإنها لا تزال تفتقد للبنى المُوَحَدَة، والمنشآت اللازمة لاستقبال الجلسات الدولية أو المنتدى الثاني. ما يجعل من انعقاد المجلس الدولي أو المنتدى الثاني متعذرا في مصر لافتقار هذه الجمعيات للشروط اللوجستيقية.

إذن، ثمة فراغ يلازم المنتدى من حيث أن هذه المنظمة الاجتماعية المُحدَثة ذو تاريخ ضارب في تكوين وصراع مجتمعات الحوض المتوسطي شبه المشلول في ضفته الجنوبية. تاريخٌ مجبولٌ من المكونات المجتمعية لحوض المتوسط غير المتكافئة من حيث تطورها المجتمعي إلى حد الاختلال أحيانا بصورة تفتقر للتوازن بين الحركات الاجتماعية للضفتين. فراغٌ يتسع – وهذا هو ما وصلت إليه مشكلات المنتدى في الوقت الراهن، وهاهنا مكمن الخطر - لكل أشكال جمعيات المجتمع المدني، لا سيما وأن كثرٌ منها غير معادٍ في مواثيقه التأسيسية للنيولبيرالية والأمبريالية.. فراغ يتسع لملء المنتدى الاجتماعي المتوسطي الثاني بشتى أنواع جمعيات المجتمع المدني غير المناهضة للعولمة من حيث تعريفها، ومن ثم الانحراف به بعيدا عن مساره الأصلي، ألا وهو مناهضة النيوليبرالية، والأمبريالية. فإذا لم تَملأ، من الضفة الجنوبية، الحركات الاجتماعية، عمالية وفلاحية، وجمعيات المجتمع المدني المناهضة للعولمة هذا الفراغ، فإن المنتدى سيكون مهدَّدا بخطر قاتل. ليس بمعنى أن المنتدى سينتهي إلى الموت، فهو قادر على الحياة بقدمه الشمالية وحدها، شأنه حتى اليوم. إنه يستعين، للوقوف في وسط حوض المتوسط وللتنقل ما بين ضفتيه، بقدم خشبية مصنوعة، كما كان الأمر في المنتدى الأول، بقلة من الشخصيات المناهضة للاستعمار والأمبريالية من الجنوب، وعشرات جمعيات المجتمع المدني من المغرب والجزائر ومصر وفلسطين، وقلة قليلة من النقابات. إنما هو خطر قاتل، بمعنى أن جمعيات المجتمع المدني في الشمال والجنوب على حد سواء، وبعض ٌممن يأتي منها من الجنوب كما الشمال، وليس كلها مناهضاً بصورة كاملة للعولمة، هي التي ستملأ هذا الفراغ لانعدام المشاركة الفعالة لحركات مناهضة العولمة والحركات الاجتماعية في الجنوب المعادية بصلابة وشدة للنيوليبرالية والأمبرايالية، حتى ينتهي الأمر بالمنتدى المتوسطي إلى أن يُوجَّه، بتأثيرٍ من هذا النوع من جمعيات المجتمع المدني، في منحى بعيد عن مناهضة النيوليبرالية والأمبريالية.

ها هنا تكمن المشكلة الحقيقية للمنتدى الاجتماعي المتوسطي في دورتيه. الأول، المنعقد في برشلونة. وهو بلا شك أنجز "معجزة"، لأنه نجح في حشد نحو خمسة ألاف من أعضاء جمعيات المجتمع المدني والحركات الاجتماعية من حوض المتوسط، وكان بمحصلته المتواضعة مصدرا للتشجيع على الاستمرار في المسيرة المتوسطية، لاسيما وأن حكَّام الحوض من الضفَّتين تعاهدوا على الشراكة لتحرير الاقتصاد من القيود وفتحها في سوق حرة واسعة تسرح وتمرح فيها الشركات متعددة الجنسيات. والثاني، الافتراضي حتى إشعار آخر، الذي لم يجد لنفسه حتى اليوم مكانا. هاهنا، ما بين انعقاد دورتي المنتدى، قبل ذلك وما بعده، تتورم المشكلة بشكل مَرَضي. ذلك أن المَعنيين في المقام الأول بهذا المنتدى طالما تنال العولمة منهم قبل وأشد من غيرهم، أي الضفة الجنوبية بكل ما فيها من جمعيات مجتمع مدني وحركات اجتماعية، عمالية وفلاحية، معدمو الوجود - إلى حد ما - في المنتدى الذي يستمد مبررات وجوده من واقعة تاريخية حديثة وراهنة مؤدَّاها أن حوض المتوسط، وبوجه خاص الضفة الجنوبية منه، قد أصبح في عهد العولمة النيوليبرالية، حيزا مركزيا في المعركة المناهضة للأمبراطورية الأمريكية، وخندقا أماميا في مقاومة الأمبريالية والنيوليبرالية. إن المنتدى المتوسطي بهذا المعني يُمَثِّل الحداثة والمعاصرة بالمعنى التاريخي للحدث الراهن، أي من حيث هو وعي لشعوب المتوسط وحركاته الاجتماعية بما تحمله العولمة من تطورات مدمِّرة لمجتمعاتهم وقوميتهم وهويتهم السياسية والثقافية. بيد أن المنتدى في واقعه الراهن، رغم وعي الحركات الاجتماعية للحداثة والمعاصرة، لا يزال دون هذه وتلك لافتقاره إلى الحركات الاجتماعية في الضفة الجنوبية، عمالية وفلاحية، التي تدرك دورها في إنجاز الحداثة والمعاصرة عبر المنتدى الاجتماعي المتوسطي. حتى أن المنتدى يبدو حيزا لا بديل عنه لممارسة هذه الحداثة والمعاصرة. فكأن المنتدى تراه يُطلق اليوم إشارات الاستغاثة والاستنجاد إلى حركات مناهضة العولمة والحركات الاجتماعية في الضفة الجنوبية، بعدما نزل من سفينة برشلونة قبل غرقها، ليركب سفينة أخرى آيلة بدورها إلى الغرق، لأن قائدها، ذاك المناضل الجنوبي الذي يَعرف الإبحار بين أمواج لم يُعْرَف لها بعد قانون، قد رفض الإمساك بالمقود، وتركه لآخر غيره من مناضلي الشمال يُجيد الإبحار بين الأمواج الهادئة والبحيرات الشاسعة للديمقراطية وحركة المد والجزر الدستورية لأنظمة الحريات العامة.

الواقع أن البحَّار البديل، وهو معتاد على حل النزاعات مع الأمواج العاتية بطرق الملاحة في الأنهار والبحيرات بين ضفتي السين ولوزان، وغيرها، تَوَجَّه بالسفينة نحو الجزائر، بدل أن يٌوجِّه الهدف باتجاه تركيا، حيث الحركات الاجتماعية، عمالية وفلاحية، وحركات مناهضة العولمة، والمنتدى الاجتماعي التركي الذي ينهض اليوم لمقاومة العولمة النيوليبرالية بقوة وثبات، هي وحدها، من بين كل موانىء الجنوب، التي يتسع ميناؤها لاستقبال منتدى اجتماعي متوسطي يركب سفينة هي، بالقوة اليوم وبالفعل غدا، أكبر بكثير وأضخم بكثير، من أن يتسع إليها في الوقت الراهن ميناء الجزائر، أو أي ميناء آخر في الضفة الجنوبية، باستثناء ميناء الحركة المناهضة للعولمة والنيوليبرالية والأمبريالية في تركيا. فإذا ما بقيت السفينة بأيدي بحار البحيرات الهادئة، ولم تنتقل إلى أيدي بحار الأمواج مجهولة القانون، وإذا ما لم تُغيِّر السفينة خطها، فتتوجه نحو الأتراك، وتتخلى عن مسارها نحو الجزائر، فإن السفينة الكبرى والعظيمة للمنتدى الاجتماعي المتوسطي ستغرق لا محالة، بعدما تكون اصطدمت بموانىء الرباط والجزائر وتل أبيب، وانقلبت بين الأمواج المتلاطمة والعاتية للحروب الشرسة في الجنوب، والتي تريد بالقوة العسكرية الاستيلاء على أسواقه، وذلك بعدما يكون ركاب سفينتنا، بدل أن يشاركوا في المعارك المناهضة للأمبرالية والنيوليبرالية في الخط الأمامي الممتد عبر حوض المتوسط كحيِّز مركزي في الصراع رافعين رايات مناهضة العولمة، تراهم هبطوا في بحيرات المجتمع المدني الموزّعة ما بين ساحلٍ للدفاع عن حقوق الإنسان، وشاطىءٍ آخر للدفاع عن البيئة، وثالثٍ عن المساجين السياسيين، ورابع لأسر المفقودين، وخامس لحرية المرأة وتساويها مع الرجل، وآخر عن الثقافة والدين والصداقة بين الغرب والشرق أو التعايش بين الثقافات، وذلك بالإضافة إلى سواحل غيرها وشواطىء لاصطياف جمعيات مدنية للدفاع عن الشجرة، والماء، والجنسية المثلية، وحرية العراء في الشواطى الخاصة، والدفاع عن نظافة الشوارع، وحقوق الدراجات الهوائية والنارية، وهكذا دواليك، وهلم جراَ من جمعيات المجتمع المدني التي لا يمت كثرٌ منها، وليس كلها، بصلة إلى ما يمثله المنتدى، كمنظمة مناهضة للعولمة وامتداداتها، من حداثة ومعاصرة.

كلا. إن المجتمع المدني ليس كلا واحدا متجانسا. وهو ليس خلواَ من التنافر والنزاعات والتناقض، بل والصراع ما بين مستويين اثنين، أو كتلتين اثنيتن. إذ ثمة مستويين للمجتمع المدني في المفهوم الراهن لتاريخنا القومي والعالمي في حوض المتوسط، وبوجه خاص في ضفته الجنوبية. وفي حالتنا الراهنة، فإن المجتمع المدني الذي كان ولا يزال يتسع منذ ثلاثة قرون من تاريخ الفلسفة لشتى أنواع التعريفات، فإنه في راهن حداثتنا أصبح يعني أن الفريقين، رغم تنافر كل من الاثنين مع الأخر لأسباب سياسية، طبقية وأيديولوجية، وأخرى وثيقة الصلة بالعمل المجتمعي المحلي والعالمي، يُجمعان من حيث المبدأ على احترام حقوق الإنسان، وحرية الفرد والجماعة، والدفاع عن استقلال المجتمع المدني عن المجتمع السياسي من جهة (أحزاب ونواب وغير ذلك من المُنتَخَبين إلى المؤسسات الدستورية) وعن الدولة من جهة ثانية _السلطات الثلاث وما يتبعها من قوات قمع من جيش وشرطة إلخ). وكانت حاجة المجتمع إلى الدفاع عن نفسه واستقلاله الذاتي في مواجهته للدور القمعي للسلطة، ولاسيما لسلطة بدون دولة وقانون، عاملا رئيسا في نمو المجتمع المدني منذ السبعينات. إلا أن كتلتي المجتمع المدني أو مستوييه يتباينان من حيث أهداف كل من الطرفين، وطبيعة ما يخوضه كلٌ منها من صراع مجتمعي ودولي. فأحد هذين المستويين كان يُطلََق عليه، في معجم الماركسية الكلاسيكي، "المجتمع المدني البورجوازي". لأن جمعياته تدافع عن حقوق فردية بعيدا عن الصراع الحديث والشامل للمجتمع في ما هو راهن ومعاصر، أي دون أن تزج هذه الجمعيات بنفسها في حداثة الصراع المعاصر ضد الأمبريالية والصهيونية والنيوليبرالية والمطالب المعيشية والطبقية لأصحاب الأجور، في مجتمع تستبيح السلطة ومعها الشركات الكبرى اقتصاد البلاد. وعلى هذا الصعيد من التنافر وافتقاد المجتمع المدني للتجانس، يلتقي، على سبيل المثال، في المستوى البورجوازي من المجتمع المدني، رب العمل والعامل في جمعية واحدة تدافع عن تحسين المواصلات العامة في بلدة ما، أو حتى في جمعية لحقوق الإنسان أو مياه الشرب إذا لم يكن رب العمل شريكاً في مشروع لاستيلاء شركة خاصة على مياه الشرب، في ما لا يلتقي – على سبيل المثال - رب العمل والعامل في جمعية مناهضة للعولمة، أو في النقابات. وبتعيبر آخر، فإن المستوى البورجوازي من المجتمع المدني يضع نفسه في عمله المجتمعي خارج ميدان الصراع الطبقي. وذلك على نقيض المستوى الثاني من جمعيات المجتمع المدني والذي يناهض العولمة النيوليبرالية بكل امتداداتها العسكرية، والاقتصادية، والثقافية، إلخ .

كان هذان المستويان للمجتمع المدني نسيجاً مجتمعيا للمنتدي الاجتماعي المتوسطي الأول . فهو اتسع لشتى أنواع جمعيات المجتمع المدني، وكان كثرٌ منها يتعارض مع ميثاق بورتو أليغريه الذي يُعَرِّف العولمة ويضع الأسس لحركة مناهضة العولمة ومناضليها. فإذا ما تفحصنا عن كثب بعضا من تلك التي شاركت في منتدى برشلونة، لوجدنا أن منها كالليبية التي كانت تَعرُض لكتب العقيد قذافي، وتدافع عن الديمقراطية في "الجماهيرية"، تتعارض مع الديمقراطية وفق تعريف بورتو أليغريه لها. وكان أيضا لجمعيات شيعية من جنوب لبنان، وأخرى سنية سلفية مُحدثة من المغرب حضورا نشطا في الحلقات الدراسية للمنتدى، وهذه تتعارض مع ميثاق مناهضة العولمة، من حيث هي، وإن كانت تقاوم الأمبراطورية الأمريكية وتدافع عن "الفقراء والمحتاجين" أو "المظلومين" في برامجها السياسية والانتخابية، إلا أنها ليست مناهضة لليبرالية، وبالأحرى النيوليبرالية المتوحشة، وهي علاوة على ذلك ترفض العلمانية. فإذا كان المحوران وثيقا الصلة بخصوصية المنتدى، من حيث هو تنظيم مجتمعي معادٍ للنيوليبرالية والعولمة والأمبريالية ، واللذين كانا يشغلان حيزا مركزيا في برنامجه، وهما الحرب ومقاومة المشاريع الأمبريالية، من جهة، ومناهضة الأسواق الحرة، من جهة ثانية، فإن محصلة هذين المحورين في نشاط المنتدى بوجه عام كانت أقل بكثير مما كان هو مأمول في ما يتعلق بمنتدى مجتمعي يضم مجتمعات تجتاحها النيوليبرالية وتحطِّم بناها بجميع الأشكال العسكرية والثقافية والاقتصادية. هذا، وتجدر الإشارة هنا إلى أن المنتدى - خلافا للمتشككين من العرب - لم يتسع لأي "صهيوني"، إن في لجان عمله، أم من حيث مشاركة مناهضي العولمة في المجالس التحضيرية الدولية كما تبيَّن سابقا. بل، وإن المنتدى كان حيزا لدحض الصهيونية، على نحو ما فَعَلَ إيلان باب Ilan Pape الذي بيُّن في مداخلة له ضمن محور النزاعات والحروب في الشرق الأوسط أن دولة إسرائيل تشكِّل خطراَ على السلام العالمي، إن من حيث هي مُنتج ومصدِّر دولي كبير للسلاح، أم إن من حيث هي دولة ذات بنى عسكرية.

وبانتظار ما يأتي حتى تنتقل قيادة السفينة إلى بحَّار جنوبي يعرف كيف يصارع البِحار الثائرة، فتُحَوِّل السفينة مسارها من الجزائر إلى تركيا، بحيث تَرْجُح الكفة بفضل الحركة النقابية العمالية التركية، وحركة مناهضة العولمة فيها، إلى جانب مناهضي العولمة الأشداء من حركات مجتمعية مناهضة للعولمة، وحركات اجتماعية، عمالية وفلاحية.. بانتظار ذلك أو ما يأتي في المستقبل القريب، فإن المجتمع المدني غير المعني في حوض المتوسط عامة، وفي إيطاليا خاصة، بمناهضة العولمة والنيوليبرالية والأمبريالية بصورة خاصة، قد دعا في روما في نهاية شهر نوفمبر الماضي 2006، بمبادرة من منظمة "ميدليك" المجتمعية إلى منتدى ضم حوالي 200 عضواَ من جمعيات المجتمع المدني من كافة أنحاء المتوسط، وجَمَع من الجمعيات ما هب ودب، خلط ملط، المعادي للأمبريالية وإلى جانبه آخر غير معني حتى اليوم بالمنتديات الاجتماعية على صعيد وطني أو عالمي. صحيح أن ميدليك هذه تُعرِّف نفسها بأنها تنظيم مجتمعي معادٍ للحرب، وتدعو للسلام، وحقوق الإنسان،إلخ.. شأنها في ذلك شأن أي رئيس دولة أو دبلوماسي في المحافل الدولية، بيد أن تعريفها بهويتها خلوٌ من أية إشارة إلى النيوليبرالية والأمبريالية والعولمة. وهي، وإن كانت تَعترف بأنها لا تعتزم أن تكون بديلا للمنتدى الاجتماعي المتوسطي، وقد وجَّهت الدعوة إلى لجنة التنسيق الدولية التابعة للمنتدى المتوسطي من أجل المشاركة في أعمالها، وأنها على النقيض من ذلك تريد من وراء منتداها السنوي المساهمة على هذا النحو في مد المنتدى الاجتماعي المتوسطي بالحيوية والديناميكية، والحيلولة دون ذبوله. إلا أن نشاطها هذا، في غياب مماثل لتنظيم نقيض ل/"مدليك"، من حيث مناهضته الصريحة للعولمة النيوليبرالية المتوحشة، تنظيم نقيض للأولى ويَجمَع بين الأشداء المتشدِّدين في مناهضتهم للعولمة، إنما يسلط الأضواء منذ الآن على ما يقوم به أحد المستويين في المجتمع المدني للاستيلاء على المنتدى أو التسلل إلى جهازه المركزي للتأثير على توجُّهاته. الأمر الذي يُبيِّن أيضا منذ الآن ما ستكون عليه حصة المجتمع المدني البورجوازي، بالمفهوم الماركسي الكلاسيكي، في المنتدى الاجتماعي المتوسطي الثاني. الأمر الذي حدا بأحد المشاركين في اجتماعات ميدليك، وهو من جمعية آتاك/فرع المتوسط، إلى القول بعد عودته من روما إلى مارسيليا:"إن المنتدى الثاني سيكون محاولة للتوفيق والتعايش بين الطرفين". (ماركس تخلى عن مصطلح المجتمع المدني البورجوازي، واكتفى بمصطلح المجتمع، لأن مصطلح المجتمع المدني يُخفي التنافر والصراع الطبقي في المجتمع).

يقودنا في نهاية المطاف كل ما تَقَدَّم إلى الرهان غير المرئي وراء المنتدى الاجتماعي المتوسطي. رهان على التكوين المجتمعي والأيديولوجي للمشاركين في المنتدى، لأن "مجلس الحركات الاجتماعية" الذي يلي المنتدى بعد اختتام أعماله بيوم واحد، تتوقف درجة مناهضته للعولمة النيوليبرالية، على طبيعة تكوين المنتدى المنتهي، وذلك من حيث مدى غلبة أحد مستويات المجتمع المدني على الآخر، وغلبة المستوى المتشدد في مناهضته للعولمة وامتداداها، من جهة، على الآخر المتمسك بمطالب ضيقة لجماعة حقوقية، دينية، بيئية، من جهة ثانية. ومن أوجه الرهان هنا، أن مجلس الحركات الاجتماعية يأخذ بتوصيات واقتراحات مجموعات العمل في المنتدى، من مناهضة للحرب، ومناهضة للمناطق التجارية الحرة، والبيئية، والمرأة، والثقافة إلخ. وإن هذا المجلس، وهو وحده الذي يتخذ القرارات، يَصدر عنه بيان ختامي لأعماله يتبنَّى فيه نضال شعوب حوض المتوسط، مرفق به أجندة سنوية لنضال الحركات الاجتماعية في حوض المتوسط عامة مع تَحديد مواعيد للتضامن ما بين هذه الحركات في أيام معينة من السنة لنصرة القضايا ذات الصلة بمناهضة العولمة.

وكان مجلس الحركات الاجتماعية المتوسطي المنعقد في اليوم التالي على اختتام المنتدى المتوسطي لأعماله في برشلونة في شهر حزيران/يوينو من العام 2005، قد حاول أن يمضي قُدما في تنظيم التضامن بين الحركات الاجتماعية المتوسطية، وذلك استجابة لمطالب المتشدِّدين في مقاومتهم للعولمة، ومنهم مناضل مصري طالب بأن تبقى صلة الترابط والاتصال مستمرة ما بين هذه الحركات، بحيث تستطيع هي أن ترفع من درجة نضالها ضد العولمة في جميع امتداداتها ومظاهرها، وبما يساعد، علاوة على ذلك، في استنهاض الحركات الاجتماعية المتوسطية. إلا أن هذا المطلب، وإن هو حظي بتأييد نحو ثلاثة ألاف مشارك في الاجتماع، تقلَّص تحت تأثير التكوين العام للمنتدى، أو لنقل عقليته، والذي يرفض الانتقال إلى التنظيم المركزي، وهو الذي تفوَّق في نهاية الأمر، فلم يبق من الاقتراح المصري سوى الاتفاق على تشييد لائحة للترابط بين الحركات الاجتماعية المتوسطية عبر موقع للأنترنيت. إلا أن الموقع لم ير النور لأسباب مجهولة! أو هي لا تزال عبثا في قيد التقصي عن أسبابها المجهولة هذه! هذا، وسرعان ما تبعثرت الحركات الاجتماعية كلٌ في طريق ما أن أَََغلق المجلس أبوابه في قصر المعارض في برشلونة.

تقودنا هذه النهاية لمجلس الحركات الاجتماعية في اجتماعه الأخير هذا إلى نتيجة مؤداها أن حوض المتوسط الذي أصبح الخط الأمامي في جبهة المقاومة ضد العولمة النيوليبرالية، ومنه بوجه خاص الضفة الجنوبية التي تعاني من العولمة أكثر مما تعاني مجتمعات الضفة الشمالية التي تجد منظمات مجتمعية قوية تدافع عنها، كالمنتدى الاجتماعي الأوروبي، في ما تقود مقاومتها للعولمة أحزاب ونقابات وجمعيات، من أمثال آتاك وغيرها، وهي تقاوم في نهاية الأمر تدمير النيوليبرالية لبناها أفضل مما تقاوم مجتمعات الضفة الجنوبية النيوليبرالية، لا سيما وأن هذه الأخيرة تبدو في الجنوب دموية ووحشية بصورة لا تضاهيها ما تقوم به وحشيتها في الشمال من تدمير.. تقودنا هذه النهاية ذات النتائج شبه المعدومة لمجلس الحركات الاجتماعية، إلى نتيجة مؤداها أن الحركات الاجتماعية في الجنوب، ترافقها حركات مناهضة العولمة، والمستوى المعادي للعولمة في المجتمع المدني، ما لم هي تزج نفسها بقوة في المنتدى الاجتماعي المتوسطي الذي يشكل حيزا مجتمعيا للقاء والتفاعل ما بين كل هذه الحركات، لتأخذ دورها القيادي إلى جانب الشمال الذي لا يزال هو الذي يوجِّه إلى حد بعيد المنتدى، لأن كل الإمكانيات المالية واللوجستيقية متوفرة لديه، فإن المنتدى المتوسطي ومجلس الحركات الاجتماعية، إن هو بقي على قيد الحياة، فإن المستوى الثاني من المجتمع المدني في الضفة الشمالية، صحبة مثيله في الجنوب، والذي يتفتَّح وينتشر بتشجيع من السياسة الأمريكية، هما اللذين سيسيطران عليه، وذلك في أجواء تَشهد تكاثرا ملموسا لجمعيات المجتمع المدني وليدة المجتمع المدني البورجوازي في الضفة الجنوبية، والتي لا علاقة لها بمناهضة العولمة، إن لم تكن هي امتداد عضوي لها.

وفي نهاية الأمر، فإن المنتدى الاجتماعي هو جسر يمتد نحو مجلس الحركات الاجتماعية. وقد غاب حتى الآن عن الحركات الاجتماعية للجنوب أن مشاركة أفضل منهم وأكثر التزاما في المنتدى الاجتماعي المتوسطي، يمهد لهم الطريق نحو تشييد شبكات تضامن في حوض المتوسط ما بين كل التنظيمات المعادية للعولمة بفضل مجلس الحركات الاجتماعية هذا، من جهة، وإنجاز عدد من المهام التنظيمية في المنتدى المقبل ما عجز مجلس الحركات الاجتماعية الأول إنجازه في برشلونة، ألا وهو صلة وصل مستمرة للربط بين نضال هذه الحركات، وتوثيق التضامن في ما بينها على مدار السنة، وفي جميع الأصعدة، وحياكة نسيج من علاقات التنسيق لبناء جبهة موحدة مناهضة للأمبراطورية الأمريكية والنيوليبرالية في حوض المتوسط؛ هذا الحيز المركزي والجبهة الأمامية للصدام بين شعوب وحركات ضفتي المتوسط وبين العولمة./.

كانون الأول/ديسمبر 2006



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن