أدب السيرة السياسية في العراق – أدب الصورة المصطنعة

ميثم الجنابي
m-aljanabi@mail.ru

2006 / 12 / 12

إذا كان العالم الحديث والمعاصر هو صانع هذا الكم الهائل من نماذج "السيرة الذاتية"، فلأنه قلب لحد ما العلاقة الضرورية بين الظاهر والباطن، والخاص والعام، بالشكل الذي جعل من الأبعاد الشخصية للأفراد قيمة مستقلة. وهي حالة قد تعكس في أعماقها الرغبة الخفية بالتعويض عن هذا الانتهاك الفض الذي تعرض له الأفراد المبدعين فيما مضى عندما امتص الخلفاء والملوك والسلاطين رحيق الحياة الفردية للناس من خلال إعلاء شأن العبودية السياسية أو "المقدسة". وليس مصادفة فيما يبدو أن يعم الانتشار الهائل والمتلذذ بأسماء العبودية لله في مراحل الاستبداد السياسي في تاريخنا، من خلال ربط كلمة العبد بأسماء الله الحسنى (التسعة والتسعين)! وليس مصادفة فيما يبدو أيضا ألا نعثر عند اغلب من كتب "سيرته الذاتية" في العالم العربي المعاصر، ومن بين السياسيين بالأخص، من كان اسمه عبد الرحمن أو عبد الرحيم أو عبد الغفار أو عبد الجليل أو عبد آخر من عبيد الله، وذلك لان السيرة تفترض قدرا من الحرية في التعبير عن خلجات النفس والضمير وحقيقة ما جرى بحيث لا يكون الله طرفا فيها على الأقل في الاسم. وهي معضلة فلسفية أكثر مما هي سياسية، ومصادفة أكثر مما هي ضرورة. وهو الأمر الذي أعطى ويعطي للسياسيين حرية الحركة المتمردة على الواقع والتاريخ والنفس والحقيقة! من هنا تناقضاتها الشنيعة وقيمتها العملية أيضا. لكنها قيمة محكومة في نهاية المطاف بقدر ما فيها من علم وعمل يتناسبان مع المستوى الفعلي لها في شخصية الكاتب. وهي أيضا مشكلة معقدة ومثيرة للبؤس في اغلب ما هو موجود منها بالنسبة لهذا الفن الكتابي في العراق. والقضية هنا ليست في فن الكتابة ونوعيتها فحسب، بل في واقع ومستوى الرقي الفعلي للدولة والمجتمع والنظام السياسي والثقافة.
إن تاريخ العراق الحديث والمعاصر هو تاريخ البؤس الروحي والعقلي والأخلاقي والمعرفي للسياسيين. ولعل حيرة الاستغراب هي الصفة الوحيدة التي تطفو دون إرادة إلى السطح حالما ينظر المرء إلى التفاخر المبتذل بأهمية "سيرتهم الذاتية" بالنسبة للتاريخ السياسي، ومن ثم إمكانية الاستفادة المفترضة من جيل لم يصنع غير الخراب والهزيمة!! لكننا مع ذلك نقف أمام تبجح هو عين الغرابة في هذا الكم المتزايد من الادعاء والتضليل الذي يضفي على انعدام الذوق ورمادية الحياة الكالحة معنى الجمال وحلاوة اللسان! وليس مصادفة أن يقول السياب بأنه حتى الظلام في العراق جميل. لقد اقترب من الواقع، لأنه كان يرى بعينه وقلبه قيمة الجمال المغري في نجومه وهلاله وقمره وبدره بوصفها العملية المحتملة للقدرة على الكمال. لكن حالما يأخذ السياسي العراقي مهمة التغني بقصائد ليست قوافيها سوى التحلل والانحطاط، أي ليست نهاياتها سوى الخراب والدمار، فان القضية تصبح فضيحة من طراز آخر.
فالسيرة الذاتية للسياسي المحترف في الغرب، شأن اغلب ما فيه من إبداع فكري حديث هو النتاج الملازم لتلقائية البنية الثقافية المتراكمة في منظومة الحياة العامة والخاصة، الفردية والاجتماعية، السياسية والحكومية، القومية والدولتية. ومن ثم عادة ما تشكل السيرة الذاتية المكتوبة للسياسي سلعة مطلوبة في سوق الذاكرة والدعاية والتاريخ والسياسة، وذلك لأنها جزء من آلية الدولة وبيروقراطيتها المحكومة بصراع الأحزاب السياسية الاجتماعية. وهو الشيء الذي يمكن رؤيته حتى في كتاب هتلر (كفاحي)! بمعنى أن طابعه الدعائي والإيديولوجي والهجومي العنيف لا يضعف ما فيه من رؤية وحبكة هي اقرب إلى محاولة تمثل مصالح الدولة والقومية على نموذج "الكفاح" من اجل تجسيدها. بعبارة أخرى، أنها الصيغة الإيديولوجية للفردية البرجوازية التي وجدت نفيها المتطرف في مراحل التحدي العنيف للمهانة التاريخية والمذلة السياسية التي تعرضت لها الأمة والدولة الألمانية. ومن ثم لم يكن (كفاحي) غير سيرة البدائل المتجسدة في شخصية الفيوهرر (القائد). من هنا القيمة التاريخية لهذه "السيرة الذاتية" بالنسبة لتأمل العبرة الكامنة في هذا النمط الفكري والسياسي والإيديولوجي للغلو القومي ونتائجه المحتلمة بالنسبة لسيرة الأمم.
ذلك يعني أن السيرة الذاتية للسياسيين في الغرب هي الصيغة الفردية للتاريخ السياسي للدولة والأمة والثقافة. وهو الذي يحدد قيمتها الفعلية في ذاكرة الأمم وتاريخ وعيها الذاتي بشكل عام والسياسي بشكل خاص. فهي بالقدر الذي تمثل نتاج الرقي السياسي واثر النزعة الفردية وقيمتها الاجتماعية، فإنها تتمثل هذه المكونات عبر موشور المعاناة الخاصة للسياسي في مواجهة إشكالات العصر أو إشكاليات الوجود التاريخي للدولة والأمة. وبالتالي قيمتها على قدر ما فيها من هموم ورؤية واقعية وعقلانية وإنسانية تستجيب لما ندعوه الآن بالتحديات الكبرى. وبالتالي لا معنى للسيرة إن كانت مجرد ذكريات لأشخاص لا ذكرى لهم في الوعي الاجتماعي والسياسي للأمة. وهي حالة "السيرة الذاتية" للسياسيين في العراق. وذلك لأنها حالة العراق الفعلية. وقد يكون الاستثناء الوحيد من وجهة نظري هي مذكرات ساطع الحصري. فهي الوحيدة التي تحتوي على رؤية تاريخية ونقدية للواقع والأفكار ومستقبلية في مضمار البدائل. بل يمكنني اعتبارها، عندما ننظر إليها بمعايير المرحلة وطبيعة صراعاتها، سيرة الوقائع والحقائق وليست الأهواء السياسية. طبعا أنها لا تخلو من مواقف سياسية، على العكس، لكنها محكومة برؤية مؤهلة في ميدان العلوم التاريخية والتربوية التي حاول من خلالها بناء الشخصية العراقية الجديدة. وهي رؤية ومساعي قد تكون الأقوى في تاريخ العراق الحديث عندما ننظر إلى نتائجها في تطور المدرسة العراقية حتى انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958. وبغض النظر عن الاختلافات الممكنة بهذا الصدد، على الأقل من الناحية الإيديولوجية والسياسية، إلا أنها تبقى الصيغة الأكثر نموذجية بهذا الصدد، بمعنى قدرتها على التنوير والتعليم ورؤية الواقع والآفاق. وهي نموذجية لم تكن معزولة عن الآفاق الرحبة والحلم الأخذ في النمو بإمكانية بناء دولة. وهو الأمر الذي حررها نسبيا من الأحكام الإيديولوجية والحزبية الضيقة. مما جعل منها، رغم نسيانها المؤسف، إحدى أفضل السير الذاتية السياسية العراقية الحديثة. إنها السيرة التي تتضمن رؤية تاريخية محكومة بالموقف من الدولة وليس بالأهواء السياسية.
ومأساة العراق الحالية تقوم في انه يرمي، بسبب تقاليد الراديكالية الخربة التي سادت في تاريخه الحديث، كل تراثه العريق في مجال الإدانة العلمية لفكرة الأهواء. ففي العراق جرى أبداع (علم المقالات) و(علم الملل والنحل) أي تاريخ الأديان والفلسفات، وأنتج من ضمنها "تاريخ الأهواء". لقد صنفوا قبل أكثر من ألف عام تحديدهم الدقيق في تفرقة العلم عن الأهواء، أو الأحكام العقلية عن الإيديولوجية. وهو تراث بقى، شأن اغلب جوانبه، بعيدا عن إعادة الدمج العقلانية بالمعاصرة. وهو احد الأسباب القائمة وراء ظهور السياسي "الأديب" المتبجح بأهوائه الفارغة. وهو "أدب" لا يشغل غير "السياسي المحترف". بمعنى انعدام أو ضعف قيمة التجربة الاجتماعية والثقافية لرجل السياسة. أما النتيجة فهي عجز أدب السيرة السياسية في العراق عن أن يكون فنا للكتابة المؤثرة والفاعلة في الوعي الاجتماعي. وهي نتيجة لم تكن معزولة عن كون تجارب السياسيين المدونة في "السيرة الذاتية" هي تعبير عن زمن ضائع وليس تعبيرا عن تاريخ الدولة والمجتمع بمختلف قواه ومكوناته. من هنا افتقاد السيرة الذاتية للسياسيين من حقيقة التجربة الفردية بوصفها فردانية اجتماعية وطنية عامة.
فالتجربة الفردية الكبيرة تستمد مقوماتها من قيم الأحداث التاريخية وإمكانية تمثلها في رؤية المستقبل والبدائل. لكننا حالما نتأمل اغلب ما كتب بهذا الصدد في العراق، فإننا نقف أمام لوحة كالحة للرؤية الحزبية الضيقة. بمعنى إننا نقف أمام نماذج تفتقد لإدراك قيم السياسة الاجتماعية والتاريخ الفعلي ومشاريع الرؤية البديلة. بينما السيرة الكبرى هي السيرة القادرة على التغلغل في مسام الوعي السياسي وإعادة إنتاجه في تقاليد واقعية وعقلانية وإنسانية للبدائل. وهو أمر يستحيل بلوغه دون النظرة النقدية العلمية الشاملة والعمل بموجبها.
إن إمكانية كتابة سيرة ذاتية لها معناها وقيمتها السياسية بمعايير الحقيقة والتاريخ يفترض إدراك حقيقة البدائل الواقعية والعقلانية والإنسانية في العراق والعمل بموجبها من اجل إخراجه من حالة السيرة الميتة. بمعنى العمل من اجل إخراجه من دوامة الزمن ونقله إلى ميدان التاريخ الفعلي. وهي عملية مرتبطة بمقدرة الساسة على تحليل مقدمات انحطاطه الأخير وتذليلها بمعايير العلم والوطنية العامة وليس بعبارات الأهواء والمصالح الحزبية الضيقة أيا كان شكلها ومحتواها.
ذلك يعني أن الطريق إلى تأسيس البديل الواقعي والعقلاني في العراق من اجل تذليل عقدته التاريخية الحديثة يقوم عبر تذليل تقاليد الراديكالية السياسية. وهو أمر يفترض بالضرورة توليف الرؤية الواقعية والعقلانية تجاه الإشكاليات الكبرى التي يواجهها في ميدان بناء الدولة والمجتمع والثقافة. فهي الرؤية الوحيدة القادرة على تذليل ارث الخراب وتقاليده من خلال السير صوب معاصرة المستقبل. وهي معاصرة ينبغي أن تستمد رؤيتها من واقع العراق الحديث أولا، وبمعايير المستقبل ثانيا. وإلا فان النتيجة لا يمكنها أن تكون غير استعادة أكثر تخلفا لتجارب الماضي.
فالتجارب السياسية الحديثة في العراق واستلهام مختلف الإيديولوجيات المجردة من واقع العراق، والبعيدة عن تمثل تاريخه الكلي وإشكالاته الواقعية قد جعل من الفكرة الراديكالية الحالمة أسلوبا للمؤامرة والمغامرة مع ما ترتب عليه من صعود نفسية وذهنية القطع الجذري مع كل تراكم ضروري فيه. وهو تراكم تستحيل بدونه فكرة الدولة العصرية والمجتمع المدني والتطور العلمي. غير أن التجرد من الإيديولوجيات المجردة وتقاليدها الراديكالية لا يعني النكوص إلى الخلف كما هو جلي في صعود مختلف أشكال العرقية والنزعات الدينية. فكلاهما من الماضي. ومن ثم بلا مستقبل. بينما البديل الواقعي في العراق هو معاصرة المستقبل فقط. بما في ذلك في ميدان بناء هويته الوطنية. فالهوية العراقية البديلة هي هوية المستقبل وليس هوية الاحتراب الإيديولوجي أو الطائفي أو العرقي أو أي شكل آخر من أشكال الماضي.
إن البديل الحقيقي في العراق ينبغي أن يكون بديلا عقلانيا وعراقيا بالضرورة! فهو الوحيد القادر على صنع توازن جديد في الدولة والمجتمع والثقافة، أي توازن مبني على أسس مرجعية الحرية والنظام. لاسيما وأنها المرجعية الوحيدة القادرة على صنع توازن ديناميكي، ومن ثم الوحيدة القادرة على صنع الحكمة التاريخية بوصفها عملية متراكمة من الاحتراف والكفاءة المحكومة بنظام شرعي متكامل. وحينما يجري انجاز هذه المهمة، آنذاك تصبح لسيرة السياسي الذاتية قيمة ومعنى بوصفها سيرة الفكرة السياسية وليس صورة ملونة "لإمعات" الهزيمة والهوان، كما تفعل الاستوديوهات الرخيصة أو مصوري الأرياف القذرة عندما يضعون وراء الأوجه البائسة لأصحاب الأكواخ الحقيرة صور القصور الفخمة!!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن