في نقد الخطاب السياسي لحزب العدالة والتنمية

عزيز الهلالي
azizhilali2005@yahoo.fr

2006 / 11 / 26

قفز حزب العدالة والتنمية على مساحة زمنية قصيرة إلى موقع يهدد من خلاله أحزاب تمتلك رصيد تاريخي. فمنذ مؤتمره الاستثنائي 1996 جند إمكانياته وطاقاته البشرية والتواصلية نحو هدف يرمي إلى الرفع من حصة المقاعد خلال الدورات الانتخابية، بالرغم من عوائق خارجية وإكراهات سجالية..تسعى كل مرة لحجم طموحه في المشاركة.
هذا الإنجاز، جعله في تقدير المراقبين والباحثين ظاهرة سياسية تغري بتحليل ميكانيزمات قوته لكن، ما يتمظهر على السطح مجرد قراءات لفاعلين سياسيين هاجسهم تصفية حسابات واستغلال أحداث لتصويب قذائف إلى بنية الحزب.
ومن موقعنا، نعتبر أن المساهمة في خلق أحزاب سياسية قوية ذات عمق ديمقراطي في التعاطي مع الشأن العام مسؤولية كل قوة سياسية للحد من اختراقات التجزئ وربح معركة تميل موازينها لجهة تنفرد بسلطة الهيمنة ذات البعد الواحد.
والعمل بمقتضيات قواعد اللعبة السياسية أمرا بات يتطلب، وبإلحاح تغييرا في منظومة القيم على قاعدة منافسة داعمة لخيارات مجتمعية. ومن ثمة، فشروط التغيير للذهنية والممارسة تظل بمثابة أهداف سياسية، من أجل صنع واقع تاريخي يستجيب للممارسة الديمقراطية وللإصلاح الدولتي والمجتمعي.
ومن هذا المنطلق، سنعمد إلى تحليل ورصد مواقع القوة والضعف في الخطاب السياسي ل"حزب العدالة والتنمية" عبر مقارنة نقدية لوثائقه، منطلقين من إشكالية أساسية مفادها: هل الخطاب الحزبي للعدالة والتنمية يحوز على قدر معقول من الانسجام النظري؟

الهوية والشرعية التاريخية

تعد الورقة المذهبية للحزب، إطارا نظريا وتاريخيا يضفي مسحة الشرعية النضالية على أحداث ومسارات. وفي قراءاته التاريخية لوقائع شكلت ممانعة أمام تنمية شاملة، استقرت مؤاخذته على دور المعارضة تجاه القصر. وفي نفس الآن، تعرضت الورقة للملاحم البطولية للدكتور عبد الكريم الخطيب والتي لعب فيها أدوارا طلائعية أعاد بموجبها رسم مسار أحداث بذكائه وثقله السياسي..
الورقة المذهبية إذن، من خلال تركيبها للوقائع التاريخية تنحو نحو منهج يحكمه مؤشرين اثنين:
- اختزال أحداث سياسية في صورة البطل سواء في عملية الاستقلال ومناهضة سياسة الحزب الواحد أو في استراتيجية تفكيك جيش التحرير...
- العمل على الدفع في زاوية الاتهام كل العناصر التي ساهمت في تفويت "فرص التطور والازدهار"، والمقصود هنا "الحركات العلمانية والشيوعية وثقافتها الاستعمارية...".
إن القراءة التاريخية للأحداث السياسية وفق هذا المنظور، تستحضر العدة الانتقائية والتوظيفات الأسطورية لتوصيف مرحلة معقدة من التاريخ السياسي المغربي مازال البحث في طبقاته الأركيولوجية لم يرق إلى المستوى المطلوب.
المسألة الثانية، والتي تثير الاهتمام في الورقة، تتمثل في غياب الجذر التاريخي للحركة الإسلامية. بمعنى ثمة، مسارين منفصلين: الأول ظاهر يمسك بشرعيته التاريخية وهويتة المتفاعلة إزاء أحداث. والثاني ضمني يشكل نسخة باهتة يصعب الإمساك بخيوطها داخل المتن. فهل هوية الحركة الإسلامية تقوم على أرضية تاريخية بالتبني؟ وإذا كان الحديث عن التأصيل السياسي والفكري،كما تؤكده أوراقها، فهل يبدأ من على عتبة الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية؟ أليس التأصيل نتيجة تفاعلات تاريخية ومساهمات بهذا القدر أو ذاك، عبر مشروع إسلامي انوجد مفعوله داخل لحظة التأسيس؟ ما معنى غياب تأصيل النشأة والمسار؟ هل مبدأ الهوية يقبع خارج الحركة الإسلامية ليقع في حضرة إسهامات د. الخطيب؟ كل حركة سياسية تضفي شرعية مسارها بمأثورات مؤسسها، خصوصا وأن مجموعة من المناضلين- كما يقول الباحث محمد الطوزي- ظلوا على ولائهم لمطيع، وهم الذين سيؤسسون حركة الإصلاح والتجديد سنة 1981 . نحن نتساءل عن جدلية الحضور المكثف للبطل وغياب مؤسس الحركة، هل هو مخرج تعويضي نفسي لفك عقدة قتل الأب؟
المسألة الثالثة، تشير توا بث الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية بخصوص الشريعة ما يلي:
- الاشتراكية الإسلامية ( مسعى مشترك زمن التأسيس في إطار الحركة الشعبية).
- تطبيق الشريعة في كل مناحي الحياة.
نود أن نستقرىء في خطاب الحركة إمكانية الإشارة، وهي تتحدث بالمناسبة عن التأصيل السياسي، إلى مفهوم الاشتراكية الإسلامية من حيث عناصرها ومقوماتها وأهدافها في نسقها الدعوى منذ زمن التأسيس؟
بالفعل هناك، مسارين مختلفين أحدهما يشكل طبقة مهيمنة تحوز على قدر كبير من الشرعية التاريخية يمتد مسارها نحو" المجاهدون الأولون..وعلى رأسهم د. عبد الكريم الخطيب، وذ. عبد الله الو كوتي الذين صاغوا معالم الرئيسية لمسيرة الحزب تصورا وممارسة". وطبقة ضمنية خفية تصورها وكوادرها ومؤسسها عناصر غير مرئية داخل المتن وأحيانا، تتمظهر كدفوعات غير مؤثرة لزمن التأسيس الحركي من خلال مفاهيم كالصحوة، الجماعة...والسؤال: أية طبقة تنتدب لنفسها مهمة صياغة مواقف إزاء أحداث وقضايا وفي رسم معالم الحاضرة والمستقبلية للحزب؟
لعل هذا الانفصال في المسارين سيلتئم في حلقة أساسية تربط العناصر المفككة يمكن تسميتها بالعبّارة أو الجسر. ومن ثمة، يمكن اعتبار أن الدخول في خط اللعبة السياسية من زاوية وضع المسألة الانتخابية كسقف أعلى للمراهنة السياسية يتناغم وصياغة موقف مشترك مع الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية الذي يقضي ب" بمقاطعة الانتخابات دون الانسحاب من الساحة السياسية". ما سيتولد عن هذا الموقف في إطار انتظار الأفق هو بالطبع المشاركة تحت اسم" حزب العدالة والتنمية". إذن، لشرعنة عملية الامتداد تمت عملية تركيب الأجزاء المبتورة والمبعثرة لمسارين منفصلين منفعل وفاعل في حلقة مركزية تسمى المشاركة.
وإذا كانت الجماعة حاولت قبل عملية تركيب مبسطة لمسارين، طرقت أبواب متعددة لإطارات سياسية من بينها حزب الاستقلال، نتصور لو أنها حظيت بشرف الالتحاق إلى إحدى هذه المكونات السياسية، ألا يكون د. الخطيب في ورقة مذهبية مفترضة، وفي إطار السجال السياسي، خصما سياسيا مقربا إلى المخزن؟

الدستور بين السياسي والد عوي

تعتبر المسألة الدستورية من بين القضايا التي عملت على تفجير هندسة البناء داخل النسق السياسي للحزب، التفجير كان مصدره الورقة السياسية للحركة الدعوية أي حركة " التوحيد والإصلاح" التي تمثل- حسب عبد العالي حامي الدين عضو المجلس الوطني- العمق الاستراتيجي لحزب العدالة والتنمية.
تشكل "حركة التوحيد والإصلاح" من خلال أوراقها الدعوية والسياسية والتربوية وميثاقها واختياراتها الجناح الراديكالي للحزب، بحيث نجد حركة الشغب الفكري والسياسي انبثقت من مواقع المتن الدعوى الذي يحمل منسوبا عاليا من صفاء الرؤية السياسية للحركة الإسلامية، بالرغم من مراجعته ونقده وتكييفه نتيجة ارتجاجات وانكسارات تاريخية، فإن شرعيته تتجاوز شرعية السياسي.
ولتدقيق على هذا الكلام، نستحضر المسألة الدستورية باعتبارها" منطلقا لمختلف الاختيارات السياسية للمشاريع المجتمعية". هنا نرى ضرورة طرح سؤال مركزي لقياس أوجه التقاطع والتمفصل بين النص السياسي والد عوي أو للتدقيق بين الورقة المذهبية والورقة السياسية؟
من خلال تتبعنا للصيغة المنهجية في المقارنة النقدية، نستطيع القول أننا إزاء نص يدفع بالمسألة الدستورية إلى خطوط متقدمة في المطالب، ونص مرن مهادن يطالب بتوازن في السلط، وتقوية مؤسسة الوزير الأول، ثم تطوير نظام الجهة وإصلاح النظام البرلماني...تكاد هذه المطالب لا تنفرد عن ما عداها من مطالب الأحزاب الأغلبية البرلمانية، والتي هي أحيانا تختفي تحت مبرر أولوية الإصلاحات السياسية وتظهر، أحيانا أخرى بمناسبة رفع إيقاع التحضيرات الانتخابية أو التحسس بارتقاب إصلاحات منتظرة على مستوى أعلى سلطة في البلاد.
الورقة السياسية تتصدى لجوهر الإشكالية والمتعلقة بمبدأ القداسة في النص الدستوري معتبرة إياها أمرا دخيلا على التقاليد الدستورية، الأمر الذي يولد ممارسة سياسية تعلو عن المحاسبة والنقد بقوة " الدستور المغربي الذي ينص على أن شخص الملك مقدس(الفصل 23) وأنه لا يجوز مناقشة مضمون خطبه سواء من طرف الأمة أو ممثيلها(الفصل28)". لعل صفة القداسة في النص لا تشفع لإمكانية " مراجعة الملك أو خلعه، كما كان يتصور تاريخيا، نتيجة الإخلال بشروط البيعة، فإن ذلك غير وارد في إطار التصور الدستوري لما بعد الاستقلال، وهكذا أصبحت العلاقة بين الحاكم والمحكوم عهدا على الطاعة أكثر من كونها التزاما من الحاكم تجاه شعبه ورعاياه".
ونعتبر أن اجتهادات ذ. مصطفى الرميد من خلال ورقته الاقتراحية بخصوص الإصلاحات الدستورية ثمرة لقوة المتن الخطابي التي تتمتع بها الورقة السياسية، فالرجل طالما يبدي استغرابه من الحديث عن " الانتقال الديمقراطي في إطار ملكية تنفيذية" مستنتجا أن " الديمقراطية تتصور في إطار ملكية برلمانية". وهذا مخرج يقترحه لصيانة النص الدستوري من ثنائية متعارضة: القداسة # المحاسبة، والذي من شأنه تفادي"مجموعة من الإحراجات المرتبطة بالمسؤولية عن ممارسة السلطة" والإشارة تتعلق طبعا، بالصلاحيات التنفيذية التي يعطيها الدستور للملك.
ويمكن القول، أن الورقة المذهبية نص متوتر سياسيا ينحو نحو تلطيف الأجواء واكتساب موقع متميز نتيجة سيطرة البناء السياسي للخطيب على روح النص. في حين الورقة السياسية يطبعها روح الجماعة الإسلامية بجرأتها وتفردها واجتهاداتها، ولهذا السبب ما تلبث أن تفاجئنا تخريجات إعلامية قوية لقادة تشبعوا بيقظة النص وسلطته وعنفوانه. لقد كانت تصريحات ذ. أحمد الريسوني حول مفهوم إمارة المؤمنين " غير مرتبطة بشكل معين من أشكال الحكم" داعيا إلى " تأسيس جهاز للإفتاء إلى جانب الملك ". كل ذلك يصب في توسيع تناغم وفي إحداث تصدع في الورقة المذهبية كنسخة تفتقر إلى شرعية التصور الجماعة.
صحيح، أن البث والاستقبال ليس دائما على موجات مختلفة، بل ثمة ما يشد وحدة الجماعة في أمور حاسمة تتعلق بالتنصيص على" إسلامية الدولة وأن الدين الإسلامي هو الدين الرسمي...حيث أن الملك هو أمير المؤمنين وحامي حمى الدين، وأن النصوص المرتبطة بالدين الإسلامي غير قابلة للمراجعة". لكن ما نستقرؤه، هو أن الأمانة العامة للحزب تقبع هنا ولا تتدرج في بلورة مطالبها بخصوص الإصلاحات الدستورية. والوقوف عند هذا الحد يشرعن بشكل ضمني إمكانية القبول بالوثيقة الدستورية للدولة كأعلى سقف مطلبي يستلزم فقط تفعيل بعض البنود التشريعية والجنائية لتتلاءم مع مقتضيات الدستور وفق المرجعية الإسلامية للدولة.

في البدء كان التخليق

ما يضمن حماية السياسي والد عوي من كل هزات محتملة، هو تكثيف خطاب التخليق بدرجة عالية، بحيث أن الالتزام بمجموعة من الضوابط الخلقية والسلوكية تستلهم أصولها من السنة والسيرة والأعلام... ينصهر كل ذلك في بوتقة برامج تربوية وثقافية وفكرية أساسها إعادة تشكيل الفرد بما يضمن روح وحدة الجماعة و يعمل، في نفس الآن " على إعادة صياغة قيمها المعرفية والوجدانية والفكرية".
إن تأثيث الفضاء الخلقي بمفاهيم تسند ثوابتها إلى الشعور بالأخوة الإيمانية، يمر عبر الدعوة إلى الحركة، وهي بمثابة "الدعوة إلى الله عز وجل، وتكتل وتنظيم للإسهام في إقامة الدين وهو من عند الله"، ثم بالطاعة، على اعتبار أن " من ولى أمرا من أمور المسلمين فهو أميرهم فيه" إلى المسؤولية التي تقتضي" الوفاء بالالتزام والقيام بالمسؤوليات وأداء الوجبات والتكليفات"... حلقات مفاهيمية متصلة متفاعلة من أجل عبور مسالك في إطار نوع من التكامل الوظيفي بين الدعوي والسياسي، والحركة في كل هذا المسعى تنهج نظاما صارما ودقيقا في سلم التدرج والارتقاء من مرحلة تبتدئ ببرنامج تمهيدي إلى تأهيلي ثم استكمالي، من أجل خلق "وحدة فكرية وشعورية بين أبناء الحركة". وللإشارة فهذه البرامج بمثابة مركز علاج استشفائي نفسي بعدة ووسائل نافدة تنزع عن الفرد انكساراته وهشاشته وتردده..لتقوي فيه روح الاختراق والمبادرة.
نعتقد أن هذا البعد التخليقي يستهدف حماية الآلة الداخلية للحركة ويستنهض قيمها، كما يستهدف " تخليق العمل السياسي والذي لن يتحقق إلا من خلال الالتزام السياسي" لوازم، يمكن أن نستنتج من خلالها- وفي إطار تقييم حصيلة التواصل مع الشارع المجتمعي- أنها في تقدير جزء كبير من المواطنين ضمانات ثقة للمراهنة على أداء الحزب في تسيير الشأن العام، بغض النظر عن طبيعة برنامجه السياسي والاقتصادي..
وبقدر ما تشكل هذه الجوانب مركز قوة الحركة، بقدر ما تشكل تراجع أدائه السياسي أمام انتقادات لاذعة للرأي العام والإعلام.. بتوظيفه الزائد للخطاب التخليقي ضمن سياقات مثقلة بتراكمات..وهوما قد يعري مقاصده بسبب تعارضه مع مبدأ التدرج كما تدعو إليه الحركة.
وإذا كان السؤال المركزي للحركة" أين الأمة من تحليل الحلال وتحريم الحرام" ينسحب على الفرد والأسرة والمجتمع والدولة وكذلك على كل مكونات المعرفية والسياسية والاقتصادية..في غياب خلفية نظرية تتماسك أطرافها في وحدة موضوعية ومنهجية وتتعاطى بشكل جدلي مع ميكانيزمات الواقع في تشابكه وتعقيداته والتي هي جزء من إكراهات عالمية، يجعل من الخطاب الأخلاقي للحركة خطابا للتيه، أوعلى الأصح دعوة من مبشر تائه في ربوع المملكة. وإذا كنا نتحدث عن السياسي في الخطاب، فإنه للأسف يقتاد من اليومي ومن صناعة تركيب وقائع غير مشدودة إلى خيوط وتوابث نظرية سياسية منسجمة ومتناغمة، مما يعطي الانطباع على أن خطاب التخليق بمثابة رسائل نصح يتقدم بها فقيه إلى الأمة بكل مكوناتها، من موقع إخلاء مسؤولية ضميره أمام الله.
والسؤال الآن: هل يمكن أن نتطلع إلى تأصيل ممارسة سياسية تخدم مبدأ التعدد السياسي وفق رؤية تتجاوز بؤر الغامضة في منظومتها كمسعى لضمان موقع يشكل نموذجا مفترض داخل المشهد السياسي؟



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن