موريتانيا مرة أخرى: الغضب من الحقيقة هو سر التخلف الحضاري في بلدان العرب

هويدا طه
howayda5@gmail.com

2006 / 10 / 14

لم يكن متوقعا أن أكتب مرة أخرى عن موريتانيا بعد مقالي الأول في هذه الصفحة من جريدة القدس عن زيارتي الأولى لها.. لولا هذا السيل من الرسائل والتعليقات في جريدة القدس أو عن طريق بريدي الإلكتروني أو عبر النقاش المباشر مع أصدقاء موريتانيين أو حتى في جرائد محلية موريتانية.. جاءني منها مقالات ترد على مقالي المذكور، مواقف لا تملك أمامها إلا الدهشة أو الاندهاش من هذا القدر من (الغيبوبة) التي تعيشها الشعوب العربية على اختلافها من مشرقها إلى مغربها.. حتى لكأنك تتساءل: هل أحلامنا لأنفسنا كشعوب هي أحلام عادلة حقا؟ أم أننا نستحق ما نحن فيه؟! كنت في مقالي الأول قد وصفت (غياب الخدمات العصرية من مدينة نواكشوط) وتعرضت لما دار بيني وبين أصدقاء موريتانيين من نقاش حول مفاهيم عديدة.. مثل التنمية والاستعمار والاستقلال وبداوة الفكر وفكر البداوة والانقلابات العسكرية وفساد الحكام الوطنيين إلى آخره من قضايا تعيشها شعوبنا.. ولكن النقاش كان يركز على موريتانيا بالطبع، غضب (أعمى) ذلك الذي رد به الموريتانيون على ما رصدته كمواطنة عربية تزور عاصمة عربية الزيارة الأولى (وبعد ما رأيته قلت في مقالي إنها الزيارة الأولى والأخيرة!).. غضب وصل إلى السب (الظريف أحيانا!) ومن الغريب أن في كل هذا السيل لم ينكر واحد منهم .. واحد فقط حتى.. ما وصفته! فقط غضبوا (لأنني وصفته) وسقطوا في فخ المقارنة الظريفة حقا بين (قطار موريتانيا الذي لم يقتل أحدا منذ تدشينه و ما وصفوه بالقول (قطارات بلدك التي تقتل ركابها!) وقال أحدهم إنه يفخر بالانقلابات لأنها في بلدٍ شعبه ليس (ذليلا خاضعا كشعب بلدك مصر) وبعضهم وصف حكام موريتانيا بأنهم عظماء! وليسوا فاسدين كحكام (بلدك مصر) إلى آخره من مقارنات (الغضب الذي يقيل العقل إقالة ساحقة ماحقة).. ويوقع الطرفين وكلاهما مكلوم في بلده في فخ (أنا وأنت)، بل والأغرب ليس فقط أنهم غضبوا مما وصفته من (غياب الروح العصرية من مدينة نواكشوط التي لا يوجد بها أسفلت)- رغم أنهم لم ينكروه أبدا- وإنما لم ينتبهوا (لأن هذا هو حال العقل المستقيل.. بتعبير المفكر المغربي محمد عابد الجابري) لم ينتبهوا لما ذكرته من (مزايا في موريتانيا نحلم بأن تتحقق لنا في مشرق ومغرب ووسط العالم العربي) ونناضل عبثا من أجلها.. مثل (عدم اختراق الآخرين للمجال الفردي للمواطن الموريتاني).. أي الحرية الفردية الملحوظة بدرجة كبيرة.. وهي الملاحظة التي قال عنها صديقي الموريتاني الذي رافقني في رحلتي ببلده بأنها (حرية فردية فطرية بدوية لم نجهد لانتزاعها لذلك لا نعرف قيمتها) ولم ينتبهوا لما قلته بأن المرأة الموريتانية (لا ترى في عينيها نظرة انكسار كتلك التي تراها في عيني المصرية والمغربية والمشرقية في العالم العربي) ولم ينتبهوا لوصف الثروات الطبيعية لدى موريتانيا وحرمان الشعب منها بسبب نهب النخب الحاكمة لها.. بل كان ردهم الغاضب على قولي بأن فساد الحكام الوطنيين سبّب البؤس لهذا الشعب أن فساد الحكام هو السبب! هذا يحيلنا إلى القول المأثور (كمّن فسر الماءَ بالماء ِ!).. هكذا إذن! وكأني بكم أردتم من الزائر أن يعجب بما أنتم فيه ويزيد فيعجب برضاكم به! غضبتم لأنني وصفت شيئا لم تجرؤا على نكرانه ولكنكم (هجمتم هجوما مبينا بقلب واحد) لأن أحدا وصف حالكم مندهشا، ولم ينتبه أي ممن وصفوا الحالة المصرية بسخرية على سبيل المقارنة وعلى طريقة (إللي بيته من زجاج ميحدفش الناس بالطوب، أو لا تعايرني وأعايرك الهم طايلني وطايلك!) إلى أنني وعلى مدى سنوات- وضمن مئات الكتاب المصريين- قلنا في الحالة المصرية ما لم تقولونه من باب التشفي.. قلنا في وصف ما يعتري مصر من أمراض ما لم يقله مالك في خمره!.. فقط غضب أعمى بلا عقل بلا منطق بلا حجة بلا أي شيء سوى الصفة الأسوأ لأي جماعة بشرية وهي (الرضا بالتخلف إلى حد الدفاع عنه).. وفي هذا السياق أذكر هنا تحديدا ثلاث تعليقات من مثقفين موريتانيين أحدهم الزميل العزيز الصحفي محمد فاضل الذي أرسل يقول بأنه يريد أن يشركني معه في (معركة دخلها مع صحفيي ومثقفي موريتانيا إثر صدور المقال) بحسب نص رسالته، وقال إنه (حاول أن يقنعهم بأن الأولى من الغضب على الناقد أن نبذل الجهد للضغط على حكامنا لتغيير أوضاعنا)، حاول دون جدوى! ثم الرسالة الثانية وهي من مثقف موريتاني (محمد مختار ولد الفقيه) قال في رسالته إنه نشر في موريتانيا مقالا يرد به على حالة الغضب من مقالي التي اعترت مثقفي بلده.. وأرسل لي مشكورا نسخة من مقاله الذي نشره في جريدة الشعب بتاريخ 5/10/2006 تحت عنوان (سلبية الإنسان الموريتاني هي السبب) وقال فيه نصا موجها خطابه إلى شعبه:" أمعنوا النظر رحمكم الله في مظاهر الحياة اليومية في بلد المليون شاعر، والمليون فقيه،والمليون شريف،والمليون تاجر،والمليون مقاول، والمليون صحفي، والمليون حزب، والمليون مستقل، والمليون سمسار، والمليون وزير، والمليون مشترك في خدمة الهاتف النقال... أمعنوا النظر وراقبوا هذه الملايين المتعددة المواهب والاختصاصات، راقبوا حركة سيرها في الشوارع فستخجلون من انتسابكم إليها، ستخجلون من أن تجمعكم قوائم الإحصاء ولوائح الانتخابات مع بشر يتحركون على الشوارع بهذا المستوى من البدائية و الفوضى و اللامبالاة! ستدركون عبثية الانتخابات، ولا جدوى الإصلاحات، وهرطقة المفكرين وفقهاء الإذاعة و التلفزيون إذ يتحدثون جميعا – وبثقة لا تستند لواقع- عن "أمة موريتانية" وعن "حضارة موريتانية" لا ندري من أين نزلت ولا كيف اهتدى سادتُنا الأجلاء إلى مكمنها!" إلى هنا انتهى الاقتباس من مقال ولد الفقيه، والحقيقة إن ما قاله عن تلك التي نصفها بأنها (غيبوبة) يعيشها مثقفو العرب هو وصف دقيق.. ينطبق ليس فقط على الشعب الموريتاني وإنما على كل الشعوب العربية التي لا تدري كيف ومن أين جاءت بهذيان إنها (أمة خالدة.. صاحبة حضارة السبعة آلاف سنة.. خير أمة أخرجت للناس.. المفضلون لدى الله على الأرض والأولى بشفاعة نبيه.. إلى آخره من هذيان تخلف لا تعيشوه أنتم فقط أيها الموريتانيون بل نعيشه جميعا.. في مصر وفي الخليج وفي المشرق وفي المغرب، والحقيقة أنني لم أصادف أحدا (إلا نادرا) يفكر- ولو لمجرد مطاردة اليقين- فيما يردده من تراهات يعتبرها (مسلمات)، فمثلا يروج الموريتانيون دائما لمقولة أن بلدهم هو بلد (المليون شاعر) والحقيقة المدهشة هي أن الشعب الموريتاني تعداده عن آخره ثلاثة ملايين! تضم النساء والأطفال والشيوخ والأميين والمتعلمين والمرضى والعجزة وغيرهم من فئات موجودة في كل شعوب العالم.. أي أن ترديد هذا الرقم بدون توقف أمامه ليس إلا ضربا من ضروب الهروب من واقع مرير، كما أنكم بالتأكيد لا تعتقدون بأن الشعب الموريتاني من دون شعوب الأرض هو شعب بأكمله مثقف بأكمله مبدع بأكمله متألق شاب رائع وعظيم حتى يكون ثلثه بالتمام والكمال شاعرا! من أي سماء يهبط مثل هكذا شعب؟! ولعل ما قاله الفقيه في مقاله تعليقا على هذا الأمر هو الأقرب إلى محاولة يائسة لدفع الناس إلى مجرد التوقف عند ما يعتبرونه (مسلمات) فقد قال نصا:" انظروا إلى المليون شاعر ثم أتوني بشاعر موريتاني اخترق جدار المحلية، أتوني بشاعر واحد أحجم عن التمجيد والتطبيل والسير في ركاب أولياء النعمة مهما كانوا وفي أي زمان كانوا!"، ثم التعليق الثالث وقد نشرته جريدة القدس وهو للأخ العزيز الذي وقع مقاله بصفة (مهندس وحقوقي موريتاني يقيم في فرنسا) وكذلك الذي وصف ما قلته في مقالي السابق بأنه (حقد)! يقول بأن الكاتبة تقترح علينا عودة المستعمر وتتحسر على رحيله.. والحق أنني نقلت ما قاله بعض الموريتانيين في نقاشي معهم عن المستعمر بل وعلقت بالقول:"يا إلهي! الاستقلال كان نكبة على هذا البلد؟!" لكنه عماء الغضب الذي لا يميز بين ما يقال وما ينسب لمن قالوه! وظل الأخ العزيز (المهندس والحقوقي الموريتاني المقيم بفرنسا مستعمره القديم) ظل مسكونا طوال مقاله بالمقارنة مع مصر التي تغرق فيها البواخر وتتهشم القطارات ويزاحم أحياؤها موتاهم في القبور وعاصمتها الأكثر تلوثا في العالم.و.. و.. (ما قاله بالمناسبة لا يصل إلى عُشر ما يكتبه كتاب مصر وأنا ضمنهم.. الذين ينتقدون أحوالها بأكثر مما يُلم الأخ العزيز) .. فما محصلة كل هذا الجدل؟! هناك نقطتان محصلتان لهذا الجدل.. أولهما ما يتعلق بموريتانيا وثانيهما ما يتعلق بمصر:
** بطبيعة الحال من تقدم للرد أو التعليق أو النشر بخصوص هذا (النقد الموجه لموريتانيا من الزائرة المصرية الحاقدة).. ومنهم من وصفه بأنه انتقاد وليس نقدا وهذا ما أغضبه! الفرق بين النقد والانتقاد! من تجشموا عناء الرد هم من النخبة المثقفة في هذا الشعب.. لكنهم بالتأكيد بما أبدوه من شوفينية على غير أساس ليسوا هم المعبرين عن كل نخبة موريتانيا.. فالشعب الموريتاني - ككل الشعوب- لم يهبط من سماء عليا، ستجد من بين نخبته من تأخذهم ما وصفها ابن خلدون بالعُصبية القبلية.. وهي موجودة في كل الشعوب (بما فيها مصر بالمناسبة التي مازال من بين نخبتها من يظن أن المصريين هم الأعظم بين البشر! دون أن يكلفوا أنفسهم عناء النظر إلى ما يعانيه معظم المصريين من مرض وتخلف وأمية وفقر مجرم وغياب عن التفاعل مع العالم) وبالتالي أحفظ لنفسي الحق في الاستمرار في صداقتي مع ذلك الجزء الضئيل في النخبة المثقفة الموريتانية.. التي تنظر بأسى لما يهيمن على شعبها من بداوة الفكر وفكر البداوة واللاعقلانية.. ويحلمون لبلدهم- كما أحلم لبلدي- بالخروج من كهف التخلف المظلم الآسن.. ونعم أؤمن معهم كما يؤمنون (بعكس) المثل الذي يقول لا تعايرني ولا أعايرك الهم طايلني وطايلك.. فالحقيقة أننا نعم يجب أن نتعاير كلانا بما أوصلتنا إليه العُصبية العمياء من رضىً مشين بما نحن فيه.. بينما بلدان أخرى شعوبها ليست خير أمة تجاوزتنا.. وتركت ورائها- بلا رجعة- بداوة الفكر وفكر البداوة وتخلت بكامل وعيها عن الشوفينية البغيضة والتعلق بأهداب حضارة ميتة..، وأحلم معهم بأن يُبنى بيتي وبيتهم بأساس عصري متين.. بدلا من زجاجه الواهي الذي يجب أن نهشمه بكل ما تصل إليه أيدينا من أحجار..
** أما النقطة المتعلقة بمصر فهي أنكم لم تكونوا أبدا في حاجة لتذكير كاتبة مصرية بقطارات بلدها التي تقتل ركابها أمام قطاركم الذي هو (أطول قطار في العالم ولا يقتل أحدا) ذلك أن تلك الكاتبة التي وصفتموها بالحاقدة والسخيفة والمجرمة إلى آخره (لأنها قالت إن شوارع نواكشوط ليس بها إنارة أو أسفلت!) هي واحدة من ضمن مئات الكتاب المصريين الذين ينتقدون بما هو أقسى بكثير من نقد (مدينة لا أسفلت فيها ولا إنارة وتكتفي راضية مرضية بهذا المليون من الشعراء!) ينتقدون أوضاع بلدهم مصر الذي تخلف حتى النخاع.. سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وعلميا إلى آخره.. تحت وطأة نظام حاكم أكثر مهارة وحرفية في فساده من نظامكم الذي يبدو أمام نظامنا (مبتدئا) في مهارات الفساد! ذلك أننا نؤمن بأن (النقد سبيل التقدم) بل ونؤمن أن نقد حال مصر المزري لا ينبغي أن يكون فقط على أيدي المصريين.. فمن ينتقد حال مصر من غير المصريين هو جدير بالشكر بل والتشجيع.. فليس هذا دليلا إلا على الاهتمام.. واهتمام الآخرين بنا حتى من باب النقد (أو الانتقاد حتى يستريح الموريتانيون الذين قالوا بأن وصف مدينة نواكشوط هو انتقاد وليس نقدا!) هو بالتأكيد جهد مشكور.. بل نحن نحث الآخرين على تعرية التخلف وأسبابه في كل بلداننا.. بلدي وبلدكم.. فلا فرق.. كلنا جنوب.. جنوب متخلف معتصم بعناد يحسد عليه بحبل المكابرة.. وإذا كانت المكابرة قد هدمت حضارات شامخة عبر العصور.. فما بالك إذن بفعلها في مثل حالنا الهش؟!
** كلمة أخيرة
أيها السادة الموريتانيون.. بلدكم متخلف على كل صعيد.. ويحتاج منكم لا إلى مليون قصيدة ولا إلى الرضا بحالها إلى حد الفخر به ولا إلى الغضب ممن ينقد/ينتقد مصيبته.. بل يحتاج إلى الفعل الساحر الذي ثبت سحره عند كل الأمم.. (فعل التمرد)، وبالمناسبة بقى.. كذلك بلدي!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن