*قراءة سوسيولوجية للوحة العشاء الأخير- شفرة دافنشي الأخرى

مهدي بندق
mbondoq@gmail.com

2006 / 9 / 17

ولد ليوناردو دافنشي عام 1452، العام السابق على سقوط بيزنطة في أيدي العثمانيين. فكأنه بمولده هذا كان ديكاً يؤذن ببزوغ عصر جديد.. عصر سوف تتخلص فيه أوروبا من ثلوج الجمود السياسي، وقمامة التعصب الديني، عصر سوف تـُخترع فيه المطبعة (جوتنبرج 1447) ويُكتشف فيه عالم كامل جديد (قارة أمريكا 1492) وطرق ملاحية كبرى (طريق رأس الرجاء الصالح 1497) ويُؤسس فيه كوبرنيكس لنظام فلكي أدق 1541، ويتم فيه اختراع التليسكوب 1590، بينما يحل فيه فرنسيس بيكون (1561-1626) الاستقراء محل القياس، عاصفاً بالمرتكزات المعرفية القديمة: أوهام القبيلة، أوهام الكهف، أوهام السوق، أوهام المسرح.
في قلب عصر النهضة هذا نشأ ليوناردو وتربى. فحين بلغ عامه الثامن عشر التحق بورشة الفنان "فيركيو" ليدرس على يديه فن التصوير، غير أن موهبة الفتى وولعه الشديد بدراسة العلوم الفيزيائية والبيولوجية، سرعان ما قادته إلى التفوق على أستاذه. ولقد بدا هذا واضحاً في رسمهما المشترك للوحة تعميد المسيح 1478 مما دفع بالأستاذ فيركيو إلى اعتزال الرسم!
كانت حياة دافنشي تمثيلاً رائعاً لعصر النهضة الذي تمثلت خصائصه في التأكيد على قيمة الفرد الإنساني، فلسفياً وسياسياً وأدبياً وفنياً، جنباً إلى جنب الاهتمام البالغ بالعلم وتطبيقاته العملية. ومن هنا سنفهم سر اهتمام دافنشي بالهندسة الميكانيكية والموسيقى والتشريح، وعياً متنامياً بجمال ونظام الكون، وروعة الجسد الإنساني ، وضرورة تحرره، لتمكينه من السيطرة على الطبيعة.
وكواحد متميز من طليعة مثقفي عصره، فقد ذاع صيته حتى بلغ أسماع دوق ميلانو، فوافق على تعيينه عام 1482 مشرفاً على الأعمال الهندسية الحربية لتحديث حصون المدينة، إضافة إلى عمله كمصور ونحات.
***
يوم بلغ دافنشي عامه الرابع والثلاثين رأى ظلاً ضخماً من ظلال عصر النبوات القديمة يغطي سماء إيطاليا قادماً من لمبارديا، كان اسم هذا الظل: سافونا رولا، فشغل الناس عن الحاضر والمستقبل بحديث عاطفي حار عن المسيح الدجال، وعن الانتقام الرباني الذي سيحل للتو بالطغاة والزناة، والنسوة الفاجرات عاريات الرأس كاشفات الأذرع والسيقان.. فهلموا هلموا إلى التوبة والتطهر، واستعدوا لملاقاة اليوم العظيم، يوم الدينونة قبل فوات الأوان.
في هذه الفترة رسم ليوناردو لوحة "عذراء الصخور" التي جمعت بين الأشخاص والجمادات في متصل بصري شاعري تغلفه "الظلال" انطلاقاً من مذهب الأنيمية Animism حيث تـُرى المادة باعتبارها كائناً حياً لا تفنى ولا تستحدث من العدم.
لقد بات واضحاً أمام الفنان الفيلسوف أن السؤال الكبير؛ إنما يقع في منطقة الحوار بين الظل (الماضي) والضوء (المستقبل) بين قيم الإقطاع الغارب، وبين البرجوازية الوليدة، بين العفة والزهد المفروضين باسم المقدس، وبين شهوة الحياة المتأججة المبتهجة.
وبينما راح البرجوازيون يعدون العدة لتثوير وسائل الإنتاج، بالعمل على تراكم رأس المال التجاري، وبالدفع في اتجاه المانيفاكتورة، كان سافونا رولا يندد بالعلمانية المادية، مستخدماً في نشر مواعظه الاختراع المادي العلماني: المطبعة! وبفضل شخصيته الكاريزمية الساحرة، استطاع أن يقنع العامة بانتخابه حاكماً لمدينة فلورنسا عام 1494. وعلى الفور شكل من أعوانه الرهبان "شرطة أخلاقية" راحت تقتاد الناس إلى الكنائس جبراً، وتطارد بالعُصِيّ النسوة المتبرجات، وتمنع احتفالات الرقص والموسيقى والغناء، وتحرم المسرح تحريماً، فكان أن عمت الكآبة وانحسـرت الأماني، وحل التدهور الاقتصادي محل إمكانات التنمية، وأما البشر فقد ظلوا بشراً، ومدَّعي التقوى تكشفوا عن فاسدين، ولم يُجد فتيلاً تقنعهم بالنصوص المقدسة تأويلاً وتبريراً لسلوكهم. وبنتيجة إفلاس الخزانة، انصرفت العامة عن تأييد بطلها القادم من الماضي، فكانت فرصة بابا روما أن يرميه بالزندقة والإفساد في الأرض، فتمت محاكمته وإعدامه عام 1498.
في هذا العام كان ليوناردو قد أتم لوحته المثيرة "العشاء الأخير" كجدارية في قاعة طعام الرهبان الدومينيك بدير سانتا ماريا ديل، وكأنه يشير إلى حتمية انصرام الزمن، وعدم جدوى أي محاولة لتثبيته بله استعادة أحداثة، أتراه أراد أن يبرهن على هذا المعنى عملياً حين رسم لوحته على طبقات من الجبس التي لا تصمد أمام عوامل التعرية والرطوبة؟!
اقترب القرن الخامس عشر من نهايته، فإذا بعقد تسعيناته يعمد إلى عدسة الرؤية فيوسعها، وإلى قيم الألباب فيبدلها، فهاهي ذي اكتشافات كولومبس، وماجلان، وفاسكو دي جاما تخترق حدود العالم الجديد، تأتي بالذهب والفضة والمعلومات.
لقد استبانت أوروبا أن شعوباً بأسرها ثبت أنها تحيا حياة مختلفة وتستغني بأنسقة من الأديان الأرضية والأخلاقيات والمعارف "الصالحة" بعيداً عن عالم المسيحية! وعليه سرعان ما ظهرت بين "الأنتلجينسيا" فكرة الدين الطبيعي، الذي يستمد مقوماته لا من السماء بل من الأرض. وربما قال البعض لأنفسهم لماذا لا نستغني عن البحث فيما وراء الطبيعة، مكتفين بالعيش داخل الطبيعة!! وهكذا بدأ سلخ الفلسفة عن الدين. وكان هذا بمثابة التمهيد لحركة الإصــــلاح الــديـني بقيـــادة مارتن لـوثر (1483-1486) وكلفن (1509-1547) والإصلاح Reform يعني -وبالدقة- إعادة التشكيل، أي نقض وتفكيك النسق القديم لكي يحل محله نسق آخر صالح للتعامل مع العصر.
ولعل دافنشي قد استشرف كل هاتيك الآفاق حينما عكف عام 1490 على دراسة انفعالات مثقفي عصره (التقليديين) حيث نرى القوم وقد بهت منهم من بهت، وصرخ من صرخ، وابتسم ابتسامة اليأس من يئس. لقد آن لهذه النماذج البشرية أن ترحل وأن تختفي، فالعصر عصر الشباب لا العجائز. عصر الموناليزا، تلك المرأة التي سيودع في ملامحها دافنشي آيات سحره، وجماليات فنه التي تستشرف المستقبل، بوضوحه الغامض، أو لنقل بغموضه الواضح، بفتنته الدافئة، وآماله المُبيتة، وأحلامه النائمة المستيقظة.
بيد أن سؤالاً جوهرياً لا بد وأن يطرح في هذا الصدد. ترى هل ولدت الموناليزا من رحم العدم؟! والإجابة: طبعاً، فلا شيء يأتي من لا شيء كما سيقول شكسبير فيما بعد. كل ما في الأمر أن الجديد هو إعادة تشكيل للوجود السابق، هو العصرنة Modernization للوقت والمسافة والفراغ.. الخ
وهكذا نكتشف أن دافنشي لم يكن ليرسي دعائم لوحته الأخاذة (التي سيبدأ العمل فيها عام 1505) إلا بعد أن يكون قد رسم نموذجها الأول في لوحته "العذراء وطفلها والقديسة آن" عام 1500. في لوحة العذراء هذه نرى نفس نظرة الغموض وهي تنطلق من عيني القديسة آن، وكأنها تبصر -في لمحة خاطفة- ما سينتهي إليه الطفل المقدس، من مصير أشبه بمصير الحمل الوديع. كذلك نرى في عيني العذراء ذات النظرة الحانية التي ستطالعنا في عيون الموناليزا، مع فارق هام، هو احتواء الوداعـة النابعة من عيـون القديسة آن، والعذراء البتول، ضمن نظرة أوسع لدى موناليزا. فالأخيرة يتلون عندها الحنان بالقوة، وتمتزج فيها الوداعة بالإصرار على الفعل Action.
قال ليوناردو دافنشي ذات يوم "إن البورتريه يظهر حركة الروح" فهل كان بورتريه الجيوكاندة مُظهراً روحاً غير روح عصر النهضة؟! ذلك العصر الذي تختلط فيه الرغبة بالحذر، والفضيلة بالشهوة. والرقة بالسخرية، والتأمل بالاندفاع، والضياء بالظلال.
كل تلك المعاني لا ريب موجودة في هذه اللوحة المدهشة، القابلة لكافة التأويلات، والمحفزة للألباب أن تبحث وتتأمل، بل تعمل وتمارس.
ومع ذلك، فلقد نهج ليوناردو دافنشي نهج كل كائن حي، بدأ متوفزاً ثم استوى ناضجاً، وأخيراً بدأ رحلته الأخيرة نحو الموت والاختفاء. وها نحن نقرأ كلماته التي سجلها في مرضه عام 1519:
"إننا جميعاً نأمل في المستقبل، بيد أن المستقبل -بالقطع- يدخر لنا شيئاً واحداً مؤكداً، ألا وهو الموت لكل الآمال".
ولم يمض عام على هذا القول حتى أسلم ليوناردو الروح، وكان موجوداً وقتها في فرنسا، فلم يشيع جنازته إلا جماعة صغيرة من خدمه فضلاً عن تلميذه ميلتزي.

وهكذا أثبت ليوناردو دافنشي بحياته وموته، وفنه، وفلسفته أن عصر النهضة -شأنه شأن كل كائن حي- لا ريب سينقضي مفسحاً المجال لغيره من الكائنات عاشقة الحياة. ولله در أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال:
أخا الدنيا أرى دنياك أفعى
ومن عجبٍ تشيب عاشقيها
تبـًّدل كل آونة إهابا
وتفنيهم، وما برحت كعابا

نشرت بالعدد الثامن عشر - مجلة تحديات ثقافية - خريف 2004 *



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن