(مفهوم العدالة في الفكر الاجتماعي (من حمورابي الى ماركس)(1 – 3

فارس كمال نظمي
fariskonadhmi@hotmail.com

2006 / 9 / 12

تعدّ العدالة واحدة من اكثر الموضوعات قدسية وشيوعاً في السلوك الاجتماعي. ويمكن أن تتخذ وجوهاً متضاربة جداً حتى ضمن المجتمع الواحد. فاينما كان هناك اناس يريدون شيئاً، ومتى ما كانت هناك موارد يراد توزيعها ، فأن العامل الجوهري المحرك لعملية اتخاذ القرار سيكون أحد وجوه العدالة. وللعدالة سيادة على غيرها من المفاهيم المقاربة، كالحرية والمساواة، ذلك انها لا تقف عند حد معين. فقد يطالب الناس بمزيد من الحرية، وفجأة يضطرون الى التوقف عند حد معين حتى لا تـنقلب الحرية الى نقيضها، الا انهم لا يستطيعون التوقف عن محاولة ان يكونوا عادلين. ولا يستطيع أي مجتمع ان يصل الى درجة الإشباع في تحقيق العدل، لأنه لا يوجد حد نهائي للعدالة. فالعدالة بهذا المعنى هي الخير العام الذي يستطيع تـنظيم العلاقة بين مفهومي الحرية والمساواة، اذ يكفل الموازنة بين الطرفين (1).
ومع ذلك، فأن الظلم رافق وجود الإنسان منذ بداياته. فقد ظهرت التفرقة بين الناس، ونشأت بالدرجة الأولى عن مفهوم المِلكية الذي يعتمد على الأنانية والمصلحة الفردية. فمنذ ان انتقل المجتمع البدائي الى مجتمع تـنظيمي، إختفت المساواة و أُلغيت لأن جماعة من الأفراد تملكوا الارض واستغلوا غيرهم. وبمرور الزمن صار لهم قانون يحميهم من كل عقاب، ويحافظ على مصالحهم، ويقر بشرعية الفروق المادية بين الفئات الاجتماعية. فتحولت هذه الفروق بالتدريج الى فروق معنوية أصيلة. والواقع ان الإنسان دفع ثمناً غالياً لارتقائه إلى أشكال اجتماعية اكثر تعقيداً، اذ ترتب على المهارة وتوزيع العمل ان تغرب الإنسان وانفصل لا عن الطبيعة وحدها، بل وعن نفسه أيضاً. فأصبح النظام المعقد للمجتمع يعني أيضاً تحطيم العلاقات الإنسانية، إذ كان معنى زيادة الثروة الاجتماعية في كثير من الحالات زيادة فقر الإنسان (2).

العدالة في العراق القديم
وجدت العدالة منذ اقدم العصور رموزاً لها في الاساطير والشعر والنحت والعمارة، بوصفها مطلباً جوهرياً يثير بشكل صارخ او صامت أي إنسان على أساس قوة وجوده، ويعبّر في الوقت ذاته عن الشكل الذي يتحقق في إطاره ذلك الإنسان (3).
فمن الناحية التأريخية، يعد إنسان وادي الرافدين أقدم مشرعي إحكام العدالة، اذ أن الشرائع العراقية القديمة تسبق اقدم ما هو معروف من شرائع وقوانين في سائر الحضارات الأخرى كالفرعونية والاغريقية والرومانية بعشرات القرون (4) . فقد وضع الإنسان العراقي القديم تصوراته لموضوع العدالة والظلم في صميم نظرته للالهة والكون والإنسان. فارتبطت العدالة لديه بالنظام مثلما ارتبطت قيم الخير كلها به،وارتبط الظلم بالفوضى مثلما ارتبطت قيم الشر كلها به. ولأن إنسان وادي الرافدين أدرك علاقة الشمس بنشاطات الحياة المختلفة، فقد عدها إلها للحق والعدل، ومزيلاً للغموض، وكاشفاً للحقائق. فإله العدالة هو إله المعرفة نفسه. فكان العراقيون يحتفلون في العشرين من كل شهر بعيد مكرس لإله العدالة ((شمش)) الذي انجب ولدين هما ((كيتو)) و((ميتسارو))، أي العدالة والحق (5).
لكن العدالة بهذا المفهوم ظلت امراً مرهوناً بخدمة الإنسان للآلهة وإرضائه لها فقط. فإذا ما حصل على العدالة فذلك لأن الآلهة منّت عليه بذلك، لا لأنه يستحقها. أما فكرة ((ان العدالة شيء من حق كل إنسان)) فلم تأخذ بالتبلور البطيء الا في الألف الثاني قبل الميلاد، وهو الألف الذي ظهرت فيه شرائع ((حمورابي)) (6) ، اذ يذكر هذا الملك البابلي، الذي تولى الحكم خلال المدة (1792-1750) ق.م ، في مقدمة شريعته: (( ان الآلهة أرسلته ليوطد العدل في الارض، وليزيل الشر والفساد بين البشر، ولينهي استعباد القوي للضعيف،
ولكي يعلو العدل كالشمس، وينير البلاد من اجل خير البشر، ويجعل الخير فيضاً وكثرة )) (7).
فأضحى الناس منذ ذلك العصر يشعرون ان العدالة حق مشروع لا منّة شخصية. إلا أن هذا الرأي عن كون العدالة شيء من حق كل إنسان، كان لا بد ان يناقض نظرة الناس آنذاك الى الدنيا، فبرزت الى الوجود مشكلات أساسية، كتبرير الموت، ومشكلة الإنسان الفاضل الذي يقاسي البلايا بالرغم من فضيلته. وكان وراء هاتين المشكلتين إحساس عميق بالألم والمأساة. فجاءت ((ملحمة كلكامش)) في أوائل القرن الثاني قبل الميلاد تعبيراً عن سخط مكتوم وإحساس دفين بالظلم، منشؤه الفكرة التي تبلورت آنذاك عن حقوق الإنسان والمطالبة بالعدالة في الكون. فالموت شر، بل هو العقاب الأكبر، فما الداعي الى موت الإنسان اذا لم يكن قد اقترف إثماً؟ ولا تـنتهي هذه الملحمة الى خاتمة هادئة، بل تبقى عواطفها في احتدام، ويظل سؤالها الحيوي بلا جواب (8).
فأصبحت هذه المشكلة الأخلاقية بعناصرها الاستفهامية والاستـنكارية والتبشيرية، نقطة انطلاق للأديان والفلسفات والايديولوجيات التي ظهرت فيما بعد في مختلف الحضارات وحاولت الخوض في ماهية العدالة وغايتها وأساليب تحقيقها عملياً. وبالرغم من ان الناس على العموم ظلوا يقرون في كل عصر بأنهم لم يفلحوا في تحقيق العدالة بعد، إلا ان التاريخ البشري يمكن النظر إليه بوصفه تاريخ مقاومة الظلم، وتاريخ الصراعات الدامية من اجل فرض معيار موحد للعدالة، إذ ظل الإنسان ينشد العدالة في كل زمان، مستخدماً في ذلك كل وسائله، ومنها ابسط ألفاظه وأعمق أفكاره على حد سواء. لكن هذا المعيار ظل منيعاً على التحديد او الاتفاق.

العدالة مفهوم متعدد الأوجه
العدالة مفهوم يكتنفه الغموض، إذ يرى البعض انه يظل تجريداً في عالم العقل لا سبيل لتطبيقه في عالم الواقع. وأن ما جرى تطبيقه من العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ما هي الا محاولات يقصد من ورائها الحفاظ على الحقوق التي أقرها القانون الطبيعي والأخلاقي (9). ويذهب البعض مذهباً متفائلاً بقولهم ان الطبيعة البشرية قد ارتقت عبر التاريخ، مما خلق لدى الإنسان نوعاً من الرقابة الذاتية التي تلزمه باحترام قاعدة: ((عامل الآخرين بمثل ما تحب أن يعاملوك به)). ومن ثم أصبح يمتلك شعوراً داخلياً بالعدل (10). ويتبنى آخرون موقفاً نسبياً بقولهم ان العدالة ما هي إلا تجلٍ لنفوذ الأقوياء في أي زمان. فالأفراد الأكثر قوة يصبحون أكثر نجاحاً، وفي النهاية يقنعون أنفسهم والآخرين بأن وسائلهم في تحقيق الأرباح والمحافظة على مكانتهم ليست مقبولة فحسب، ولكنها مرغوبة وأخلاقية وعادلة أيضاً (11).
وينظر الى العدالة من منظورات فلسفية واجتماعية مختلفة. فهناك العدالة القائمة على فكرة ((الحق)) Right، وهناك العدالة القائمة على فكرة ((الخير)) Good (12). واذا كان تحقيق مفهوم ((إعطاء كل ذي حق حقه)) يقوم على فكرة ان استحقاق الإنسان لحقه يعود لمجرد كونه إنساناً، سميت عندها العدالة بـ((العدالة الطبيعية)) Natural Justice. أما اذا كان استحقاق الإنسان لحقه يقوم على قاعدة عامة يقبلها مجتمعه، سميت عندها العدالة بـ((العدالة الاتفاقية)) Conventional Justice . واذا كان هذا الحق يستند الى قاعدة تجعل من ينتهكها مسؤولاً عن فعله أمام سلطة عمومية، سميت عندها بـ ((العدالة القانونية)) Legal Justice(13). وتشير ((عدالة التبادل)) Commulative Justice الى تلك العلاقات التعاقدية التي تلزم كل فرد أن يعطي غيره حقه كاملاً دون التفات لقيمته الشخصية او مكانته الاجتماعية، بينما تحكم ((العدالة التوزيعية)) Distributive Justice توزيع المكافآت وتعيين العقوبات، أي تحدد استحقاقات الفرد من مكافأة او قصاص (14). وتعني((العدالة الاجتماعية)) Social Justice نوعاً من المساواة له أهميته الجوهرية في تحقيق الصالح العام (15). وتتمثل ((العدالة السياسية)) في وجود دستور يضمن توزيع الحرية السياسية والمساواة الاجتماعية والحقوق الطبيعية. أما ((العدالة الاقتصادية)) فتتحقق إذا ما نجح النظام الاقتصادي في إشراك جميع الأفراد في الحياة الاقتصادية، وفي توزيع الثروة عليهم بنسب تتناسب مع عملهم وإسهامهم في الإنتاج العام (16). وتتوخى ((العدالة الجنائية)) الدفاع عن المجتمع ضد الجريمة، وفي الوقت نفسه تقويم سلوك الجاني الذي خرج عن إطار المجتمع، مع ضمانها لحق كل متهم في ان يتمتع بمحاكمة تتيح له الحق الكامل في الدفاع عن نفسه حتى تنتهي المحاكمة إلى قرار سليم سواء بالإدانة او بالبراءة (17). ويشيع أيضاً مصطلح ((العدالة المطلقة)) أو ((الإنصاف)) Equity بوصفها عدلاً طبيعياً لاشرعياً. فالأنصاف يوجب الحكم على الأشياء بحسب روح القانون، أما العدل فيوجب الحكم عليها بحسب نص القانون (18).
وفي علم النفس، يستخدم مصطلح ((العدالة الاجتماعية)) لوصف شعور معظم الناس بوجوب أن ينال الجميع استحقاقهم على أساس حاجاتهم وجهودهم (19). أما ((العدالة المتأصلة)) Immanent Justice فتعني اعتقاد الطفل في سنوات حياته الأولى بوجود عقوبات تلقائية تنبثق من الأشياء بحد ذاتها (20). ويشير ((الاعتقاد بعدالة العالم)) الى وظيفة نفسية تكيفية بالغة الأهمية، تمكّن الفرد من مواجهة بيئته المادية والاجتماعية كما لو أنها مستقرة ومنظمة. وبدون هذا الاعتقاد يصبح من الصعب على الناس أن يلزموا أنفسهم بمتابعة السلوك الاجتماعي المنظم (21).

أنواع العدالة ومضامينها
إن ما وراء القبول العام لقدسية الموقع الذي تتبوأه العدالة في المساعي البشرية، تكمن تـناقضات ومشكلات ونزاعات حول طبيعة العدالة وجوهرها وأشكالها، سواء في الأحاديث العامة او في العمليات النفسية. ويمكن القول أن دافع العدالة اتخذ له أربعة أنواع لم يخرج عنها طوال التأريخ البشري:
(1) عدالة الحاجات (العدالة الماركسية) Justice of Need Marxian
يتم بموجبها توزيع الموارد بين الأفراد على أساس تلبية اكثر حاجاتهم إلحاحاً، بصرف النظر عن مدخلاتهم او أدائهم، ودون الأخذ بمبدأ التكافؤ. مثال ذلك الأسرة، إذ يقوم الأفراد البالغون فيها بتوزيع الموارد التي يكسبونها على الآخرين طبقاً لحاجاتهم لا لمدخلاتهم.

(2) عدالة التكافؤ Justice of Parity
تظهر هذه العدالة لدى الأفراد المنتمين الى جماعة معينة، ممن يدركون أنفسهم بوصفهم وحدة واحدة، إذ يشترك الجميع في تقاسم المخرجات بالتساوي: ((الفرد من أجل الجماعة، والجماعة من أجل الفرد)).

(3) عدالة الأنصاف Justice of Equity
تبرز في مواقف الاعتماد المتبادل، كما في السوق، حيث يعمل الفرد على تحقيق التكافؤ بين مخرجاته واستثماراته.

(4) عدالة القانون Justice of Law
تعني ان العدالة ليست أكثر أو أقل مما يقرره ممثلو السلطة القانونية للمجتمع. ويمكن توظيف الأسس التي تقوم عليها أشكال العدالة الثلاثة السابقة، في تطوير القوانين وتقويمها وتعديلها. ولكن ما أن يُسن القانون، حتى يصبح المحدد الوحيد لاستحقاقات الفرد في موقف معين، بصرف النظر عن حاجاته واستثماراته ومدخلاته وآرائه (22) (23).

يستدل من هذه التعريفات الموجزة، أن للعدالة مضامين دينية وفلسفية واجتماعية متـنوعة، تتطلب فرزاًُ أكاديمياً متأنياً ودقيقاً لها على نحو متسلسل، وهو ما سيتضمنه الجزئان القادمان من هذه الدراسة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

(1) احمد جمال ظاهر (1988). دراسات في الفلسفة السياسية. عمّان: دار مكتبة الكندي للنشر، ص186.
(2) ارنست فيشر(1980). الاشتراكية والفن. ترجمة أسعد حليم. بيروت: دار القلم، ص 68-69.
(3) بول تيليش (1981). الحب والقوة والعدالة. ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد. القاهرة: دار الثقافة للطباعة والنشر، ص30 ،84 .
(4) يوسف حبي (1980). الإنسان في أدب وادي الرافدين. بغداد: سلسلة الموسوعة الصغيرة، ص58.
(5) عبد الرضا الطعان (1981). الفكر السياسي في العراق القديم. بغداد: دار الرشيد للنشر، ص538.
(6) هـ. فرانكفورت؛ وهـ. أ. فرانكفورت؛ وجون أ. ولسن ؛ وت. جاكوبسن (1960). ما قبل الفلسفة. ترجمة جبرا ابراهيم جبرا. بغداد: مكتبة دار الحياة، ص 245-246.
(7) جمال مولود ذيبان (2001). تطور فكرة العدل في القوانين العراقية القديمة: دراسة قانونية مقارنة. بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، ص122.
(8) هـ. فرانكفورت وآخرون. مرجع سابق، ص 246-251.
(9) أحمد جمال ظاهر. مرجع سابق، ص176.
(10) جورج ماطي (1999). من الفضيلة إلى ما هو صحيح سياسياً مروراً بعلم الأخلاق. مجلة الاكاديمية (المملكة المغربية)، ع 16، ص 179-184.
(11) M. J. Lerner (1975). The Justice Motive in Social Behavior: Introduction. Journal of Social Issues, 31(3), 1-19.
(12) أحمد جمال ظاهر. مرجع سابق، ص171.
(13) J. Gould&, W.L. Kolb (1965). A Dictionary of the Social Sciences. New York: The Free Press, p. 364.
(14) احمد زكي بدوي (1982). معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية. بيروت: مكتبة لبنان، ص232
(15) الحسن، احسان محمد (1999) موسوعة علم الاجتماع. بيروت: الدار العربية للموسوعات، ص460.
(16) ) أحمد جمال ظاهر. مرجع سابق، ص176.
(17)علي نور الدين (1971). الآفاق الحديثة في تحقيق العدالة الجنائية. في: الآفاق الحديثة في تنظيم العدالة الجنائية. القاهرة: مطابع الأهرام التجارية، ص7-8.
(18) أحمد خورشيد النوره جي (1990). مفاهيم في الفلسفة والاجتماع. بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، ص177.
(19) J.L. Freedman (1978). Introductory Psychology Massachusettes: Addison-Wesley Publishing Company, p.A45.
(20) J. Piaget (1960). The Moral Judgment of the Child. London: Routledge & Kegan Paul Ltd, p.250.
(21) M. J. Lerner & D. T. Miller(1978). Just World Research and Attribution Process: Look Back and Ahead. Psychological Bulletin, 85 (5), 1030-1051.
(22) M. J. Lerner(1974). The Justice Motive: Equity and Parity among Children. Journal of Personality and Social Psychology, 29 (4), 539-550.
(23) M. J. Lerner (1977). The Justice Motive In Some Hypotheses as its Origins and Forms. Journal of Personality, 45(1), 1-52.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن