الهوية والعولمة

خلف بشير

2006 / 7 / 19

سؤال الهوية وصدمة العولمة
بشير خلف
توطئة
توجد بين مفهومي الهوية والعولمة وشائج علاقات جدلية فريدة من نوعها في طبيعة العلاقة بين المفاهيم والأشياء .إنهما مفهومان متجاذبان متقاطبان متكاملان في آنٍ واحدٍ . وفي دائرة هذا التجاذب والتقاطب والتكامل ، يأخذ مفهوم الهوية على الغالب " دور الطريدة بينما يأخذ مفهوم العولمة دور الصيّاد "حسب تعبير الدكتور علي وطفة ( 1)
فالعولمة تطارد الهوية وتلاحقها وتحاصرها وتُجْهز عليها ثم تتغذّى بها ، وفي دائرة هذه المطاردة تعاند الهوية أسباب الذوبان والفناء وتحتدّ في طلب الأمن والأمان ، وتتشبث بالوجود والديمومة والاستمرار .
إن العولمة تعني ذوبان الخصوصية والانتقال من الخاص إلى العام ، ومن الجزئي إلى الكلّي ، ومن المحدود إلى الشامل .وعلى خلاف ذلك يأخذ مفهوم الهوية اتجاها متقاطبا كليا مع مفهوم الشمولية والعمومية ؛ فالهوية انتقال من العام إلى الخاص ، ومن الشامل إلى المحدود ..إذْ تـبحث عن التمايز والتباين والمشخص والمتفرد والمعيّن ..أما العولمة بحثٌ عن العام والشامل واللامتجانس واللامحدود .
قضية العلاقة بين مفهوم الهوية والعولمة طُرحت على أكثر من صعيد ولا تزال تطرح لكونها من أهمّ القضايا وأكثرها صعوبة وتعقيدا وأقربها حضورا في عمق الجدل الدائر ليس لدى النخبة الثقافية والسياسية فحسب ، بل حتى لدى العديد من الناس العاديين ، ذلك أن انعكاساتها الفكرية والمعنوية ونتاجاتها المادية اقتحمت كل مجالات الحياة .
يذهب بعض المفكرين والباحثين إلى أن العولمة فعْلٌ يقلص امتداد الكون في هوية واحدة متجانسة ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا .العولمة وفقا لهذا الرأي تعمل على بناء ثقافة واحدة ، وتسعى إلى تذويب الحدود والحواجز الثقافية والفكرية والاقتصادية بين الأمم .إنها سعْيٌ محموم لبناء المجتمع الإنساني على مقياس الثقافة الواحدة والحياة الاقتصادية الواحدة ، وبالتالي فإن ثقافة العولمة هي ثقافة الشركات العابرة للجنسيات والقوميات والثقافات .(2)
صدمة العولمة
تعتمد العولمة في مسعاها على الاقتصاد بأوسع مكوّناته وأساليبه ..الاقتصاد الحر والسوق الحرة هما اللذان يقرران كل المسارات ؛ ولا ريب أن لذلك آثاره الوخيمة على الدولة وطريقة الحكم فيها ومكانة المواطن ودوره ، وإدارة الشأن العام في المجتمع ، وترشيد الإمكانات والموارد والثروات بأنواعها .(( ومع ذلك فإن هذا لا يعني اختفاء الدولة ولا اختفاء الهوية أو الثقافة أو القومية الاقتصادية أو السياسة الوطنية ..إن هذا رغم ضآلة الحدود في التجارة ، ما تزال وستظل تلعب دورا مهمّا وأساسيا وتعبّر عن كمٍّ من الطموحات والآمال والمصالح ، غير أن أهم عناصر المرحلة الجديدة هو وقوع تحوّلات هامة ذات صلة بالدولة وعلاقاتها بالداخل والخارج ...هذه التحوّلات تبدو بشكل أكثر وضوحا في مجالي السياسة والقانون الدولي ، وبالقيم التي تحكم السلوك العالمي وما يثيره ذلك من تحدّيات .)) (3)
إن هذه التحولات المتسارعة التي تعدّت الحرية التجارية للسوق ، إلى الانتشار السريع للمعلومات والمعارف ، وذوبان الحدود بين الدول ، وسهولة حركة الناس من وإلى كل الأصقاع ، واندماج أسواق العالم في حقول التجارة وتنقل الأموال والاستثمارات المباشرة والقوى العاملة والثقافات ؛ فإن ذلك كله لا ينفي أنّ لكل أمة خصوصيتها الثقافية ، وأن الأيديولوجية السياسية في كل بلد تتبلور وفق خصوصية هذا البلد ، واستنادا إلى هويته مهما كانت شدة مكوّنات العولمة وصدمتها ، ووفقا لتاريخ هذا الأمة أو تلك ، وثقافتها وتحديدها للمصلحة الوطنية .
إن حرية السوق وحركة التجارة وانفتاح الأسواق ، والانتشار السريع للمعلومات وتوفر الوسائط المعرفية والمعلوماتية وتنوّعها ، لا يؤدي إلى اقتلاع الناس من زمكانهم ..سيبقوْن ثابتين وخاضعين لدولهم ومجتمعاتهم وهوياتهم حتى وإن تحركوا وتنقّلوا عبر العالم ، أو استوطنوا هنا وهناك ..ممّا يؤدي إلى أن الدولة الوطنية باقية ، وأن دورها الريادي يكون أخطر أمام التحديات الراهنة والتحولات المتسارعة ، التي يُفترض ترجمتها إلى فعل سياسي واعٍ ، يستفيد من هذه التحولات العالمية التي لا تتعارض البتّة في آنٍ واحدٍ مع الثقافة المحلية والتاريخ والهوية الوطنية .
إن ما يشهده العالم الآن من تحولات كبرى طالت وتطال كل مجالات الحياة الفكرية والمادية والبيئية ، معناه أن عالما جديدا يجري صنعه ، وتلعب التقنية والعلم الحديث الدور الأخطر فيه ..تحولات طالت وتطال البعد النفسي والفكري للإنسان وكذا ما يربطه بالغير القريب والبعيد ..معناه هناك ثقافة جديدة متجددة يجري إنتاجها .ومهما كان موقفنا من الحضارة الغربية وثقافتها التي تصدر نمط الاستهلاك للعالم الغير الغربي .
ففي الوقت الحاضر هي التي تبدو أكثر فاعلية في حياة البشر .إن ذلك ليس لمجرّد أن الثقافة ذات صلة وثيقة بنمط الحياة ، بل أيضا لأن الثقافة ذات صلة متينة بالهوية وبالمستقبل ، وبذلك تؤثر الثقافة والنظام الثقافي السائد في عملية نجاح الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، بل إنها تؤثر أيضا في الممارسة الاجتماعية والسلوك السياسي للأفراد .( 4)
مفاهيم للهوية :
ويبدو أن ظاهرة العولمة ذات القطب الواحد التي ترى من حقها تشكيلَ العالم وفق رؤاها ومصالحها تارة ، وتحت مبرر محاربة الإرهاب حفاظا على الأمن في العالم تارات أخرى ، ومن منظور الشمولية الكونية ، باتت تطال المجالات الوطنية والقومية في مقوّماتها الثقافية الأساسية : الفكر واللغة ، الآداب ، التاريخ ، العادات والتقاليد ، وحتى أنماط العيش والسلوك ، مما يضع الدولة والمجتمع في أخطر تحدٍّ ، بعد زوال الاستعمار والحرب الباردة .
(( ... وتشير القرائن والمعطيات الماثلة في الساحة الدولية المعاصرة ، إلى أن قرننا هذا الذي ولجناه منذ هنيهة قليلة ؛ إنما هو قرن الصراع الحضاري الذي مناطه القيم الروحية والثقافية للأمة ، أكثر مما هو صراع اقتصادي على المنافع المادية.)) (5)
قبل أن نذهب إلى مفهوم ـ الهوية الثقافية ـ في هذه الدراسة حريٌّ بنا أن نتوقف عند مجموعة من المصطلحات والمفاهيم المرتبطة بالدراسة ، ويمكن تحديدها كالآتي :
 الهوية العربية الإسلامية : ( الهوية ) مأخوذة من " هو " بمعنى جوهر الشيء وحقيقته ..إنها كالبصمة للإنسان يتميز بها عن غيره .
يُـعرّف الدكتور محمد عمارة : (( الهوية العربية الإسلامية " بأنها جوهرٌ وحقيقة وثوابت الأمة العربية التي اصطبغت بالإسلام منذ أن دانت به غالبية هذه الأمة، فأصبح ( هو) " الهوية" الممثلة لأصالة ثقافتها ، فهو الذي طبع ويطبع ، وصبغ ويصبغ ثقافتها بطابعه وصبغته . فعاداتها وتقاليدها وأعرافها وآدابها وفنونها وسائر علومها الإنسانية والاجتماعية ، وعلومها الطبيعية والتجريبية ، ونظرتها للكون ، وللذات ، وللآخر ، وتصوراتها لمكانة الإنسان في الكون مِنْ أين أتى ؟ وإلى أين ينتهي ؟ وحكمة هذا الوجود ونهايته ، ومعايير المقبول والمرفوض ، والحلال والحرام وهي جميعها عناصر لهويتنا . )) (6)
 وتُعرف الهوية أيضا بمعنى " التفرّد " ، فالهوية الثقافية تعني التفرّد الثقافي بكل ما يتضمنه معنى الثقافة من عادات وأنماط سلوك وميل وقيم ونظرة إلى الكون والحياة .(7)
 وتعرف الهوية بأنها "مركب " من العناصر المرجعية والمادية والذاتية المصطفاة التي تسمح بتعريف خاصٍّ للتفاعل الاجتماعي .(8)
 ويفسرها تركي الحمد في كتابه : "الثقافة العربية في عصر العولمة "
(( الهوية طالما أنها مركب من عناصر فهي بالضرورة متغيرة في الوقت ذاته تتميز فيه بثبات معيّن ، مثل الشخص الواحد يُولد ويشبّ ويشيخ وتتغيّر ملامحه وتصرّفاته واحيانا ذوقه ، لكنه يبقى في الخير هو نفس الشخص وليس شخصا آخر . )) (9)
الدكتور أحمد بن نعمان يذهب في تعريفه للهوية إلى أبعد من ذلك ، إذ يحدد مفهومها لغويا أولا ، ثم مفهوميا :
(( إن مفهوم " الهوية " من ناحية الدلالة اللغوية هي كلمة مركبة من ضمير الغائب " هو " مضاف إليه ياء النسبة ، لتدلَّ الكلمة على ماهية الشخص أو " الشيء " المعني كما هو في الواقع بخصائصه ومميزاته التي يُعرفُ بها .
والهوية ـ الكلام لابن نعمان ـ بهذا المعنى هي اسم الكيان أو الوجود على حاله ، أي وجود الشخص أو الشعب أو الأمة كما هي بناء على مقومات ومواصفات وخصائص معينة تمكن من معرفة صاحب الهوية بعينه ، دون اشتباه مع أمثاله من الأشباه .)) (10)
إن الهوية الثقافية وِفْق ما سبق هي تلك الحصيلة المشتركة من العقيدة الدينية واللغة والتراكم المعرفي وإنتاجات العمل والفنون والآداب والتراث والقيم والتقاليد والعادات والأخلاق والتاريخ والوجدان ، ومعايير العقل والسلوك ، وغيرها من المقوّمات التي تتمايز في ظلها الأمم والمجتمعات ."وليست هذه العناصر ثابتة ، بل متحرّكة ومتطورة باعتبارها مشروعا آنيا ومستقبليا يواكب مستجدّات العصر ؛ وهي قابلة للتأثير والتأثر ، وكما يوجد قدْرٌ كبيرٌ من الثقافة إنساني مشترك نتيجة التواصل والتفاعل بين ثقافات الأمم المختلفة ، يوجد قدْرٌ خاصٌّ يحفظ هوية مجتمع من المجتمعات .(11)
اختراق الهوية
لقد اقترن هذا المفهوم بالتطور التقني في مجال الاتصالات والمعلومات ، وتنوع مجالات المعرفة الإنسانية ، وإنتاجها والتحكم فيها من جانب الأقوياء ، وتوظيفها كوسيلة للسيطرة والتحكم في الضعفاء تحت شعار " عولمة الثقافة " . والمقصود بهذا المصطلح البريء في ظاهره ، المدمّر للثقافات الأخرى المحلية والقومية في باطنه ـ أي جعْل هذه الثقافات ـ تستقي روحها وتوجهها من أهداف النظام العالمي الجديد ، حيث يفرض هذا النظام نموذجا لغويا معيّنا يحمل في طيّـاته شحنات فكرية وقيْـمية غريبة عن المجتمعات الضعيفة ، وآخر استهلاكيا يساعد على هيمنة الأقوياء وإضعاف طموح الأمـم الأخرى ذات الحضارة العريقة ، أو تلك التي تملك بديلا فكريا وثقافيا.
ومن هذا المنطلق يكون وسيكون للعولمة تأثير خطير على عناصر تشكيل " الهوية الثقافية " للأمم وبخاصة على وسيلة التواصل الأساسية : اللغة ـ نواة الهوية ـ إذ بات تأثيرها في اللسان أمرا واقعا لدى النُخب السياسية والإدارية والاقتصادية ، وامتدّ هذا بكل أسف حتى إلى بعض شرائح الطبقة المتوسطة في بلادنا .
من المقولات الاستشراقية التي تصبّ في منحى التسابق على موقع الصدارة بين اللغات الحية في هذا القرن الجديد ما أشار إليه الكاتب " صامويل هانتنغتون " المنظِّر للعولمة الأمريكية ، من أن العالم يتوجّه نحو حرْبٍ حضارية تكون فيها القيم الثقافية والرمزية هي الحدود القتالية بين الحضارات . وهذا ما يحدث حاليا تحت ما يُسمّى بمحاربة الإرهاب كغطاء للتمويه ، ولكنها حرْبٌ شاملة موجّهة ضد الإسلام وكل مَنْ ينتمي لهذه العقيدة .
يقول السياسي الفرنسي والوزير السابق في الحكومة الفرنسية ـ بينوت ـ :
)) لقد خسرت فرنسا امبراطورية استعمارية ، وعليها أن تعوّضها بامبراطورية ثقافية ، وهذا يعني أن المدخل الحقيقي للاستعمار الجديد هو الهيمنة اللغوية والثقافية .))
الثقافة والهوية
العلاقة بين الثقافة والهوية علاقة تلاحم ..كل خلخلة أو اختراق للثقافة سيؤدي بالضرورة إلى إضعاف لمكونات الهوية إنْ لم نقلْ تفتيتا لها مستقبلا .إن الخطاب حول " الهوية " أصبح سائدا في كل ساحات النقاش الفكري ، ليس في الدول الضعيفة فحسب ، بل حتى في الدول المتقدمة ، فهذا الاتحاد الأوروبي الذي أصبح يشكل قطبا سياسيا واقتصاديا وثقافيا كبيرا في العالم ،خاصة بعد أن أصبح يتكون من خمس وعشرين دولة ، يتوجّس خيفة من الاختراق الثقافي الأمريكي ، ويتخذ العديد من القرارات العملية لمواجهة مكونات النـمط الثقافي الأمريكي .نقاش فكري ساخنٌ هنا وهناك إلى درجة أن المؤرخ " ألفريد غروسير" رأى أن هناك : كلمات قليلة أخذت هذه الأيام البعد الذي أخذته كلمة الهوية ...فالهوية تحتل الصدارة في النقاشات الفكرية.


هستيريا الهوية
" أريك دوبان " الصحفي والكاتب الفرنسي في كتابه الذي عنْونه ب :{هستيريا الهوية }يستهل الكتاب بعبارة :( مَنْ أنا ؟ )
إذْ يرى بأن فكرة الهوية تعدّت ما هو معروف ومتداول لدى أغلب المفكرين والمثقفين ورجال الإعلام ..ففي تحليلاته في هذا الكتاب يؤكد مباشرة وبوضوح ، بأن الألفية الثالثة تبدأ في ظل حالةٍ من تفاقم اللامساواة بين فقراء العالم وأغنيائه ، بل وداخل كل شعب وأمة ، وهذا بعد قرن من سيادة النزعة الداعية إلى " المساواة " وإتاحة الفُرص للجميع في ظل الأيديولوجيا الشيوعية والنظام الاشتراكي ..لكن مع فقدان هذه الأفكار مصداقيتها في أرض الواقع ، فقدت نزعةُ المساواة المطلقة أيضا الكثير من حضورها ؛ في الوقت نفسه بدا أن التمركز الذي كان حول التأكيد على المساواة ، قد أخْلى المكان للتأكيد على " الهوية " ، فتضاءلت الرغبة أن يكون المرْء " مثل الآخرين " وهو ما كانت تدعو إليه " فكرة المساواة " ، بينما بالمقابل تعاظمت الرغبة أن يكون المرْء " مختلفا عن الآخرين " ..استنادا إلى هذا يمكن طرْح التساؤل التالي :
ـ هل تتمكن العولمة على المدى المتوسط والبعيد تفتيت الهويّات الأخرى واحتوائها ؟ وإذا حدث ذلك كيف يتم ؟ وبأية وسائل ؟ طالما أنها نجحت الآن في تفتيت اقتصاديات هذه الدول وأفرغتها من كل ما يعمل على بقائها وفرْض نمطيات أخرى في التسوّق والاستهلاك ..بل وحتى زرْع قيم أخرى لدى الإنسان تحفّزه على تقبّل هذه القيم الجديدة .
صاحب كتاب " هستيريا الهوية " يوضح أن مسألة الانتماء في بعض البلدان أدت إلى حروب ونزاعات أزهقت عشرات الآلاف من الأرواح :
(( مسالة الانتماء إلى هوية أخذت أبعادا جديدة دفعت في بعض الأحيان إلى اللجوء للعنف الدامي ، كما حدث في يوغسلافيا ، كوسوفو ، منطقة القوقاز ، منطقة البحيرات بأفريقيا السوداء وغيرها من مناطق أخرى ..وأن هذه النزاعات قد ماتت حول مفهوم " الهوية " وتأكيدها والاستماتة من أجل إبْـقائها أو إبرازها ماثلة ومؤثرة ...وتجد قوتها القاتلة على أساس افتراض أن هوية ثقافية ـ مزعومة ـ تتناظر بالضرورة مع هوية سياسية ، ولكن مزعومة هي أيضا في الواقع .)) (12)
إن مفهوم " الهوية " لا يجب أن يؤخذ بالبساطة العفْوية ، إذْ لا يزال يلفّه الكثير من الغموض ، فهناك من المفكرين مَنْ يصل به الأمر إلى حدّ القول بأن الهوية لا وجود لها أصلا ، ذلك أن الهوية الشخصية تُـفترضُ أن يبقى الإنسان نفسه على مرّ الزمن ..أمّا الهوية الجماعية فهي أكثر إشكالية ..الهوية الجماعية تفترض ( التماثل التام ) في الـ :( نحن ) الجماعية ، بينما البشر مختلفون تبعا لطبيعة الظروف التي تكوّنوا في إطارها ، وتبعا للبيئة التي يحيوْن فيها ومكوّناتها الحضارية والثقافية والاجتماعية ، وهذا ما عبّر عنه الفيلسوف الفرنسي " ديول ريكور " بالقول : (( ... إن أهواء الهوية متجذّرة فينا بعمق ، وليس هناك أي شعب يعاني منها أكثر من شعب آخر .))
وعليه إذا كانت العولمة نجحت على الأصعدة الاقتصادية وعلى صعيد الاتصالات ، والمعلوماتية ، وحركة رؤوس الأموال وتدفقها ، وتنقل الناس ، بل وإقاماتهم المؤقتة والدائمة هنا وهناك ، وفتّح الأسواق ، وتدفق السلع والبضائع ، وفرض النمط الاستهلاكي الغربي ؛ فإن هذه كلها لم تؤدّ إلى اختفاء التطلعات المتعلقة ب " الهوية ".
إن ما يؤكده الواقع المعيش في أكثر من موطن وأكثر من بلد بما في ذلك عالمنا العربي الإسلامي وحتى بلدنا الجزائر ، وجود نوع من " هستيريا الهوية " يتمثل في عدم اندماج الفرد بسهولة وبشكل طبيعي ، كما كان الأمر في الأمس في علاقاته مع الأسرة ، ومع فضاء العمل ، وفي الجماعة والأمة ..وحالة التنصل من الرباط الأسري في سن مبكرة وبخاصة داخل الحواضر والمدن الكبرى ..ذلك أن تعقّد الحياة المعاصرة أو ما يُسمّى بالحداثة ، وما نجم عن ذلك من اضطرابات في السلوك واهتزازات في العلاقات بين الناس ، دفعت هذا الإنسان بقوة نحو تفرّده بهويته وفرضها بأية طريقة .
أزمة هوية
لئن تبلورت لدينا مما سبق بعض الأفكار التي أوضحت أن إشكالية الهوية وخطابها الفكري لا يزالان سائديْن بشدة في أيامنا هذه مثلما كانا سائدين في بداية النهضة وخلالها ؛ ويبقى سؤال الهوية في مقدمة الأسئلة الفكرية الأكثر إلحاحا ، بل والمعرفية عندنا نحن العرب : ـ من أنا ؟
ـ ما علة وجودي وما غايته ؟
ـ ومن هو هذا الآخر ؟
ـ ما الذي يميزني عنه ؟
ـ ما يربطني به ؟
ـ ما وجوه الاختلاف بيننا ؟
" ولكم نخطئ عندما نحصر سؤال الهوية في صيغة : من نحن ؟ ومن هو الآخر ؟ ولا نحصره في الآتي : كيف نحن ؟ وكيف هو الآخر؟ " (13)
السؤال في الصيغتين هو سؤال الهوية ، بيْـد أن الصيغة الأولى تُـحيــلنا على مــاهية " الهوية " وجوهرها .أمّا الصيغة الثانية فتُـحيلنا على الواقع والتاريخ .الصيغة الأولى تدعو إلى التأمل وإعْمال الفكر .بينما الصيغة الثانية تدعو إلى التحرّك الإيجابي الفعّال والمشاركة ليس في صياغة التاريخ ، بل في صنعه إلى جانب الآخر .
صيغة تحصر " الهوية " في مجال الفكر والثقافة ، بل هناك من يُغلِّـب عليها " التراث والفلكلور والثقافة الشعبية " كما هو الأمر في بلدنا الجزائر ، يتحوّل لديها مفهوم الهوية إلى مفهوم الجوهر الثابت السرمدي ، وصيغة ثانية تضعها كما سبق في مجال التاريخ والصيرورة الاجتماعية للتاريخ المتحرّك أماما وليس خلْفا ..تاريخ إنتاج البشر لوجودهم في كل مجالات الحياة ، فيرتبط لديها مفهوم " الهوية " بالفاعلية الإنسانية الحيّة وبفكرة التغير والتقدم .الصيغة الأولى تقليدية في نظرتها إلى " الهوية " ترفض الاختلاف والتعدّد ، إذْ طابو الجماعة أو الأمة نافٍ إطلاقا للأفرادية ، نافية للواقع الفعلي ، نافية للحرية الفردية ، فالجماعية .
ثمّة إذن هوية فكرية هي عقلية وضرورية ، لكنها إذا قُطِعت عن الواقع بأبعاده الثلاثة : التاريخية والكونية والمنطقية أو العقلانية ، فإنها تركن إلى الجوهر والثبات والسرمدية وتعطّل حركة الحياة ، وتؤسس للاستبداد وتشرّع له وتصوغه ..وهناك هوية واقعية تحيل على التغير والتطور والصيرورة التاريخية ومنطق الشكل والتشكّل وتؤسس للحرية الفردية والجماعية .
هزائم الهوية العربية :
طُرح سؤال الهوية في التاريخ العربي الحديث والمعاصر ، ولا يزال يُطرح كما سبق القول ، وسيبقى يُطرح بصيغتين متباينتين يجوز التعبير عنهما مجازيا "بالصوت والصدى " ، " أو الفعل ورد ّالفعل " ..إحدى هاتين الصيغتين كانت محور الخطاب النهضوي العقلاني المتجه إلى المستقبل ، الخطاب المحفّز على التحرّك ، الخطاب الفعّال المساهم في صناعة التاريخ من موقع قوة ..والصيغة الثانية كانت ولا تزال محور الفكر المهزوم والانهزامي ..فكر يستند إلى التسويغ والتبرير والفرار إلى الماضي والاحتماء بمحطاته المضيئة والتغنّي بأمجاده والدفاع الوهمي عن الذات .
وإذا كانت آليات الخطاب النهضوي تقتضي العودة إلى الأصول في التاريخ والتراث ، من أجل الانطلاق منها وبها إلى المستقبل ليس حفاظا على الذات الهشّة أمام الآخر ، بل في إعادة صنعها من جديد وتقوية عودها للوقوف بجانب الآخر الندّ للندّ ..إلاّ أنه غالبا ما تحوّلت هذه العودة بعد الاخفاقات المتعددة ، والانتكاسات المتتالية إلى احتماء بالماضي ..ممّـا تولّد عنه نكوص أسوأ .
حتى الخطاب المعاصر ، بل الآني نفسه لا يزال حائرا أمام صدمة العولمة وما انجرّ وينجرّ وسينجرّ عنها من أخطار على الثقافية الوطنية ومكونات الهوية ..ففي شهر نوفمبر من سنة 1999 انعقد ملتقى دولي بجامعة قسنطينة ، موضوعه :( الجزائر والعولمة ) ، طُرح الموضوع في الملتقى من زوايا مختلفة منها : ( العولمة وتهميش دور الدولة ) ، ( الخصائص والعناصر الأساسية للعولمة ) ،( من الشمولية إلى تصاعد النزعة الانفصالية ) ، ( حضارة العولمة وموقفنا منها ) ، العولمة ومنطق الصراع الحضاري ) ،( العرب والعولمة ـ عولمة ماذا ؟ ولماذا؟ ) ، ( العولمة والهوية الثقافية ) ، ( التحوّل هل هو بناء للهوية أم تشويه ؟ ) ، ( العولمة وإشكالية الهوية في الوطن العربي ) ، ( العرب والنسق القيْمي ) ، ( العولمة : الخرافة والواقع ) ، ( المعرفة وتجلياتها ) ، ( العولمة وأثرها على الدول المتخلفة ) .(14)
ثلاثة مداخلات فحسب في هذا الملتقى تطرقت إلى الهوية وكأن هذه الأخيرة ليست بالخطورة أو الحدّة التي تتعرض لها الهوية الاقتصادية .بعد ملتقى قسنطينة انعقدت ملتقيات في بلادنا حول العولمة منها ما تولّته هيئات حكومية ، ومنها ما تولّته جامعات أو مراكز جامعية وطنية ، ومنها ما تولّته هيئات طلابية ..هذا كله جميل ويدل عن وعي بالظاهرة ، إلاّ أن الأمر ينتهي عند انتهاء الملتقى ، فلا المداخلات توثق وتنشر ، ولا تستثمر في جلسات إعلامية وموائد مستديرة تبسط مضامينها للناس العاديين ، ولا النُخب السياسية والاقتصادية تُوليها أهمية . نفس الشيء يتمّ في بلدان عربية وإسلامية ، والتنسيق معدوم ، ممّا جعل الأيدي مكتوفة ، والعقول جامدة أمام صدمة العولمة وحركيتها المتسارعة في كل المناحي .
آخر ملتقى دولي حول العولمة انعقد ببلدنا أيام 10،11،12ماي ‏2004‏‏ وكان موضوعه : " العولمة وأثرها على الثقافة الإسلامية " ومن المواضيع التي قُدمت في الملتقى :( مقاربة واقعية للعولمة ) ،( مفهوم العولمة في الاقتصاد والسياسة ) ، ( أثر العولمة على اللغة العربية وآدابها ) ، ( مستقبل اللغة العربية والمجتمع والطفل في الوطن العربي في ظل العولمة ) ، ( مسألة عولمة الرسالة القرآنية بين المسلمين وغير المسلمين في حوض البحر الأبيض المتوسط ) ، ( الهوية الثقافية في زمن العولمة ) ، ( عالمية الإسلام ...والعولمة المادية ) .
انصبّت أغلب المداخلات في الملتقى حول تعريف العولمة وانعكاساتها الخطيرة على اقتصاديات الدول الضعيفة وما ينجرّ عن ذلك من إضْعاف لدور الدولة ، وكاد يخلو الملتقى من التعرض للخطر الذي قد يعصف بالهويات الضعيفة أو يفتتها ، برغم أن الملتقى يحمل عنوان : العولمة وأثرها على الثقافة الإسلامية .
في اعتقادي أن ما جاء في افتتاح الملتقى واختتامه يلخص رؤية المُلْـتقين إلى العولمة التي تراها مداخلةُ الافتتاح :
(( ... عولمةٌ تنبئ بصراع مرير ، وبسباق محموم لاحتكار الوسائل المتحكمة في السرعة والسيطرة على المؤسسات الكبرى لتجعل العالم كله سوقا كبرى لها ، وطوْع أمرها في المجالات الأخرى .إن تفوّق دول شمال العالم على دول جنوبه ، وما تقوم به بعض الدول في هذا الجنوب المستضعف من إهدار لكرامة الإنسان ومنعه من ممارسات حقوقه في الحياة والحرية ، ومن استهتار بالقوانين الدولية ، والأعراف والأخلاق التي تنظم العلاقة بين الأمم .
والحلّ يكمن في التجدّد الثقافي والحضاري لأمتنا الذي لا يتأتّى بالتنكر للموروث ، ولا يأخذ ما فيه من سلبيات ، ولا بالثقافة التي تقوم على الغلوّ والتعصّب والتطرّف الذي بلغ حدّ التكفير لعلمائنا ، بل لمجتمعاتنا من قِبل فئة أسالت فتاويها دماء زكيـةً بريئة ، وأذكت نار الفتنة والشقاق بين أبنائنا ودفعت في المقابل بفئة أخرى إلى التنكر لماضيها وتقاليدها ومحاولة الانسلاخ عن مجتمعاتها .ولا بدّ من تجدّد الفقه وتوحيد رؤى المجتهدين ، والاهتمام بالموروث الحضاري والانفتاح على الثقافات الأخرى من خلال المنهج الإسلامي ، الذي تُعتبر الوسطية حقيقته ، لا خيار له ، وهو المنهج الكفيل بالدفاع عن الخصوصية العربية الإسلامية وتهيئة فضاء جديد لحوار الثقافات ، من شأنه تصحيح صورة العرب والمسلمين لدى أنفسهم ولدى غيرهم .))
ما يرد في مثل هذه الندوات والملتقيات كثير ويعبر بصدق عمّا نعانيه وعمّا تتعرض له شعوبنا من ظلم ، وهذا حتى قبل أن تبرز العولمة ، لكن مصيبتنا أن ما تطرحه مثلُ هذه المنابر الفكرية ، وما ينادي به بعض السياسيين الذين يكون حضورهم بروتوكليا يفرضه موقع المنصب لا يجد تطبيقا له في الميدان . والأمر الأكثر لفْتا للنظر ، أن مثل هذه المنابر والملتقيات وقد كثُرت في بلادنا ُإذْ لا يمرّ الشهر الواحد إلاّ وانعقد فيه ملتقى أو إثنان وأحيانا يتزامن ملتقيان أو ندوتان وأغلبها يُطلق عليها " ندوة عالمية " ، " أو ملتقى عالمي " إنها لم تأت بجديد ..ندوات وملتقيات احتفائية ، سياحية ؛ إذْ أن جُماع ما طُرح من مقترحات وتوصيات وآراء ما نُفذ منها شيءٌ .
وبالتالي يرى البعض من المتابعين والملاحظين ، بل وحتى المشاركين ، بأن اغلب هذه المنابر ما هي إلا ترفٌ فكريٌّ وفرصٌ ثمينة للسياحة والفرجة ؛ وواقع العولمة وما يترتب عنها يصنعه مَنْ يتحكمون في الاقتصاد والمال وصُنْع القرار سواء كانوا داخل البلد أو الآخر الخارجي
لئن كان سؤال الهوية مطروحا في العالم العربي الإسلامي ، وخاصة في العالم العربي ومحمّلا بمرارة الآمال الخائبة ، والأحلام المهيضة ، فلأن ( الإنسان قد أشكل عليه الإنسان ) كما قال أبو حيّان التوحيدي ، أي أن الإنسان لم يمتلك ذاته ولم يتصالح مع نفسه بطريقة عملية ملموسة تتجسّد سياسيا ، وتتجسد في نظام أخلاقي معيّن على أرض الواقع ، وفي نظام اقتصادي يتوفر على العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص . (16)
الهوية بين الثابت والتحوّل
لا يمكننا تناول موضوع " الهوية " بمعزل عن جملة من المسائل المتداخلة ، وعن جملة من التأثيرات الداخلية والخارجية ، فالحراك الاقتصادي والاجتماعي والثقافي داخل المجتمع الواحد ، والحراك الدولي والتداول الاقتصادي والمالي والثقافي والصراع على النفوذ والسلطة داخل المجتمع وكذا على الصعيد الدولي : (( فهوية مجتمع من المجتمعات ليست أمرا ثابتا سرمديا داخلي المنشإ ، بل يرتبط تطوّر الهوية بالمؤثرات الخارجية ، وبالتداول الدولي للأفكار والثقافات والحضارات ، كما يرتبط بالصراع على السلطة داخل كل مجتمع ؛ وهي الصراعات التي تشحذها هي نفسها بصورة مباشرة أو غير مباشرة المؤثراتُ الخارجيةُ ولعبةُ التوازنات ، واختلالُ هذه التوازنات على مستوى المناطق الجغرافية الكبيرة ، وبالتالي المنافسات بين الدول الإقليمية والدولية . ))(17)
حالة انفصام
في الحقيقة نحن اليوم لسنا في موقع قوة يتيح لنا الاختيار بين هذا النموذج أو ذاك أو بين النموذج الغربي وهويتنا السرمدية الموشّحة بالتراث ، لقد فرض الغرب نموذجه على جميع الشعوب ونحن منها . لكن كيف يمكن التوفيق بين الصيغتين ونحن عمليا نعيش حالة انفصام وحالة زيف مع أنفسنا ، نكره الآخر ونستلذّ بثمار حضارته ، نتغنى بهويتنا ونتمسّك بها ظاهريا ..وهي حالة ناجمة عن وجود بُعدين للهوية : الأول تاريخي مبني على الذاكرة الجمعية ، ويعبّر عن جوهر ثابت ودائم سكوني سرْمدي ؛ وآخر عملي نفعي يقيم في الحاضر معنا ، وقد اقتحم بيوتنا ومحيطنا وفكرنا . نحن نعايشه ونتعامل معه في كل آنٍ ، ويتم من خلاله التعامل مع الواقع وصوْغ أفكارنا ورؤيتنا للكون وللحياة . من جهة أخرى أن العامل النفسي للهوية التاريخية يلعب دورا بارزا في جرّ الحركة إلى الوراء ، ممّا يؤكد قول أحدهم : (( إن مجتمعاتنا تسير ورؤوسها إلى الخلف .)) (18)
ـ لكن ما علاقة الهوية بالأمة ؟
ـ هل يمكن للهوية أن تبقى محافظة على ذاتها دون سند الأمة ؟
ـ هل تتمكّن من التفاعل مع الهويات الأخرى وتستفيد من الآخر ؟
يقول مايكل بيليج : (( إن الأمة تُرفعُ لنا كراية كل يوم ، ونحن نميز ونستخدم ونلتمس الراحة من الرايات والعملة الوطنية والرموز القومية الأخرى لوظائفها المألوفة .كذلك يجري استخدام تعبير " نحن " في الصحف اليومية لِتذكِّرنا على نحْوٍ مطّرد بأننا جزْءٌ من أمة ، وأننا مختلفون عن الآخرين .
لهذا فالقومية ليست مجرّد عقيدة، وإنما تُعْطي الإنسان شعورا بالهوية والانتماء ، وتساعد على إدراك أنّ له مكانة وأنه ليس مجرّد فرْد نكرة ، إنما يشترك مع عدد كبير من البشر في جملة من المعطيات والمكوّنات والأهداف والآمال التي تخلق لديه شعورا بأن له شخصية وكيانا ، لأن ثقافة ما تؤلف جسما معقّدا من المعايير والرموز والأساطير والصور التي تنفذ إلى الفرد في خصوصيته ، فتهذب غرائزه وتوجه انفعالاته ، فهي تغذّي الكائن نصف الواقعي ونصف الخيالي الذي يفرزه كل فرد في داخل ذاته ويتغلّف به وهو الشخصية .))
نحن وأسئلة الذات المتناحرة :
ـ أين مكانتنا نحن في الجزائر من هذه النقاشات الفكرية حول إيجابيات العولمة وسلبياتها على هويتنا الثقافية ؟
ـ وهل سؤال " الهوية " مطروح عندنا بنفس الصيغة لدى أشقائنا العرب ؟ أم يختلف عنهم ؟
ـ هل مفهوم " الهوية " عندنا يماثل المفهوم عندهم ؟ أم هناك فهْمٌ آخر عندنا تكرّس بفعل عوامل تاريخية وإقليمية وحتى سياسوية ؟
ليسمحْ لي القارئ الكريم أن أتوقف عند بعض المحطات كي أستند إليها في الإجابة عن الأسئلة السابقة ، باعتبارها ذات تأثير ميداني في تشكيل هويتنا في تاريخنا المعاصر القريب وبخاصة المحطّة الأولى .
1) جاء في مقرّرات اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني في دورتها الخامسة المنعقدة في أواخر شهر اجوان 1981 ، في ملف الثقافة الوطنية ما يلي : (( إن الثقافة ذاتُ مدلول شامل يغطّي الجوانب المختلفة لحياة الإنسان الروحية والفنية والمادية ، وما ينشأ عنها من تفاعل . كلّ ذلك في بيئة معيّنة من ضروب المعيشة ، وأساليب التعامل ، وأنماط السلوك والتصرّف . فالثقافة الوطنية بهذا المفهوم ، إنما هي نظرتنا إلى الحياة وتفسيرنا للوجود ونضالنا عبْر التاريخ وتصوّرنا للقيم والعلاقات الاجتماعية .
ولذلك فإننا نعدّ جزءا من ثقافتنا الوطنية كلّ ما أنتجناه عبْر العصور من فكر وفنٍّ ، وما أنجزناه من عمران ، وما صنعناه من أدوات ، وما استعملناه من أزياء الملابس ، وما توارثناه من عادات وتقاليد في شتى المجالات .
إن دعائم ثقافتنا الوطنية هي نفس الدعائم التي تنهض عليها شخصيتنا الوطنية ، أي ديننا الإسلامي ، ولغتنا العربية وتاريخنا بكل مراحله .))
ولمّا نتابع مضمون هذا الملف الثري والهام جدّا نجد تحديدا دقيقا لمفهوم الثقافة وهو تحديدٌ لا يختلف عمّا هو سائد حاليا عندنا : (( ولكن الثقافة الوطنية رصيدٌ من الفكر والفنّ والقيم يتطوّر مع الأجيال ، ويتلاءم مع متطلّبات كل عصر ، ولذلك فإنه يتعيّن علينا أن نجعل من ثقافتنا اليوم مرآة لحياتنا الحالية ، تعكس كل ما فيها من أنواع الجهاد لتحقيق الذات ، ومحاربة الظلم والعدوان وصنع التقدم الاجتماعي والتضامن مع القضايا الإنسانية العادلة ، والتفاعل الخلاّق مع الثقافات المعاصرة ، كما تستوعب كل مظاهر التعبير عن العواطف السامية والإحساس بالجمال والتفاعل مع الطبيعة 1 .
وبذلك تستجيب ثقافتنا لكلّ التطلّعات ، وتتمثّل كلَّ القيم التي تتيح لها السعي الإيجابي إلى تحقيق سعادة الإنسان في حياة تتوازن فيها ، وتنسجم مطالب الروح والعقل والجسد .) (19)
إن هذه الوثيقة تُعطي الأسبقية للثقافة الوطنية وتؤكد على أن هذه الأخيرة هي التي تجذّر الهوية وتؤسس لأبعادها الاستراتيجية :
(( ... يجب أن تُعْطى ثقافتُنا الوطنية ثلاثة أبعاد استراتيجية منها : العمل على تأصيل الهوية الثقافية للشعب ، وذلك بالنظرة الشاملة إلى مسيرة حضارته ، والاستقراء الواعي لمكاسبه التاريخية ، ودعم كيانه العربي الإسلامي ، وإحكام تفاعله مع كل امتداداته الحضارية ، وتوظيف إيجابيات تراثه في خدمة وحدته ، وتقوية مناعته ضد الغزو الثقافي والاستلاب الفكري.))
2) ـ الدكتور العربي ولد خليفة في كتابه القيّم: "الجزائروالمفكرة التاريخية "
أبعاد ومعالم ، يرى بأن : (( مثلثَ الهوية في هذا الوطن أساس الوحدة وجوهر الوطنية . ففي طول الجزائر وعرضها أنماطٌ من القيم والشعائر والسلوكات تتفق في المنبع ، وتتنوّع في أشكال التعبير ، تجعل الملاحظ والباحث النزيه يستخلص بسهولة ، أن المضامين الثقافية هي حصيلةٌ لأخْذٍ وعطاءٍ داخل مجموعة سكانية واحدة اندمجت فيها الثقافة العربية الإسلامية والتراث الأمازيغي ، إلى درجة تَـميُّزِ الجزائري عن غيره ، وجعْله أقرب إلى مُواطِنه الجزائري من أي شخص آخر .
ولا يقتصر التجانس على المقوّميْن الأساسيين : العقيدة والثقافة ، بل يمتدّ أيضا إلى الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد ..ومن هنا فمثلث " الهوية " لدى هذه الأمة صلْبٌ : عقيدة ، ثقافة ، تاريخ اجتماعي مشتركٌ . ممّا يشكّل ـ مرجعية ـ تَعْني مشتركات الأمة من عقيدة ولغة وإرث ثقافي اجتماعي ، يحدّد العلاقات بين الأفراد والجماعات ، ويضع ضوابط السلوك المتمثّلة في القيم والمعايير التي تلتزم بها الأغلبية من الناس ، وتعمل على إيصالها إلى الخلف من الأجيال اللاحقة .))
لن تتطوّر الثقافة الوطنية المُشكِّلة " للهوية " عندنا ، إلاّ إذا تحرّرت من أشكال الضغط والتوظيف السياسوي والاستخدام الذرائعي للثراث من جهات متعددة ، ما فتئت تطرح إشكاليات " الهوية " انطلاقا من المسألة اللغوية ، وهو طرْحٌ مسمومٌ نجني ثماره اليوم في كل مرافق حياتنا بدءا بالنظام التعليمي ، مرورا بإداراتنا ومرافقنا واقتصادنا ، بل حتى في مناحي الاتصال والتواصل بين الناس سيّما في المدن الكبرى الساحلية ، حيث أصبحت المسألة اللغوية مرادفة للهوية ، بل أصبحت شرْخا في نسيج مكونات الهوية الثقافية لهذه الأمة .
إن الغيرة على اللغة العربية الواحدة الموحّدة ، ينبغي أن لا تقلّ عن غيرتنا على الأمازيغية بكل لهجاتها ، لأنها جزْءٌ من ذاتنا التاريخية والثقافية ، لكن أن تتحوّل المسألة اللغوية إلى برميل بارود قابل للانفجار في كل مناسبة تُثار فيها قضية " الهوية الوطنية " عن حُسْن نيّة أو سوءها ، فهذا ما لا يريده أبناء هذا الوطن الغيورين عليه .
الخبير القانوني الجزائري عز الدين زعلاني الذي شارك في سَـنِّ القانون الأساسي للمحافظة السامية للأمازيغية وكان عضوا فيها ، وعُرف بتدخلاته الصحفية التي ساهمت في توضيح وشرح العديد من المفاهيم ذات العلاقة بملفّ الأمازيغية في الجزائر وشمال إفريقيا ، يحذّر هذا الخبير من خطر البلقنة اللغوية في الجزائر التي أصبح يُشار إليها بـ :" أزمة الهوية الجزائرية : حيث يقول في حوارٍ له مع صحيفة الشروق اليومي :
(( ... الخطر يكمن في عدم التفريق بين المنظور اللغوي للهوية ، والمنظور التاريخي والثقافي للهوية . هذا الخلط تكرّس في الجزائر بفعل تبنّي الدولة للطابع اللغوي للهوية .هذا المنظور القديم لنظرية الدولة / الأمة المبْني على معادلة : شعب + لغة = أمة ، سقطت تاريخيا بعد أن ساد أوروبا منذ ثلاثة قرون ، .اللغة صارت وسيلة هيمنة ثقافية وليست مرادفة للهوية مثلها مثل الدولار والأورو .المنظور الغير الصحيح في الجزائر الساري المفعول ، هو الذي أعاق اللغة العربية وأحال بينها وبين أن تترقّى منذ أكثر من أربعين سنة . فعوض أن يتجه التعريب نحْو الترجمة والبحث والنشر ، اتخذ طابعا إثْنيا مثل مبدإ عروبة الجزائر .
نفس المفهوم غير الصحيح يحدث للمسألة الأمازيغية التي هي امتدادٌ تاريخي للشعب الجزائري وشمال إفريقيا ، وهي تهمّ كافة الجزائريين .وهذا يختلف مع دعوة البعض الذين يعتبرون " الهوية الأمازيغية " عبارة عن لهجات تخصّ الناطقين بها ؛ ونتيجة لذلك فإن الأخذ " بالهوية اللغوية " من شأنه خلْق جنسيات لغوية داخل الشعب الجزائري الواحد ، وهذا مرفوضٌ لأنه تجاوزٌ للأمة الجزائرية .
وللخروج من هذا المأزق الخطير ينبغي الرجوع إلى المنظور التاريخي" للهوية " .فالجزائري بهذا المنظور لم يتخلّ عن هويته المنصهرة من آلاف السنين سواء كان يتكلم الفينيقية ، أو اللاتينية ، أو العربية ، أو التركية ، أو الفرنسية ، أو الأنجليزية ..هي خلاصة تكشف اتجاهه المتفتح على العالم دون التخلّي عن هويته .)) (21)

إن سؤال" الهوية " في علاقته مع صدمة العولمة التي هزّت كل الكيانات في العالم ولا تزال ، يُطرح من خلال برامج المترشحين وكأنه قضية داخلية والجزائر تعيش في هذا العالم لوحدها ، ويبدو أنه غاب عن هؤلاء أن تأثيرات العولمة قد اكتسحت كل المساحات القريبة والبعيدة ، واخترقت كل الهويات القوية والضعيفة ، إلاّ أن الفارق يكمن في " هويةٍ " قويةٍ متحصنةٍ في موقع الدفاع إنْ لم نقل الهجوم و"هوية " هشةٍ ضعيفة ، قابلة لضربات التكسير والتفتيت .
العولمة تميل إلى إلغاء المبادرات الذاتية للشعوب .فلا بد ّلها من إلغاء الذات نفسها ، وذلك بإلغاء الهوية .فالهوية هي الحصن المنيع للذات .هي التي تنشئها وتمنحها التميز والتفرّد وتحدد لها الاتجاه في الحياة .الإنسان مشروع وجود وهذا ما يتجلّى على مستوى الفرد ، ومستوى الأمة على السواء .الإنسان في صميمه طموحٌ ..حلمٌ ..أمل .
هوية بين العدل وصنع الذات
حسّ " الهوية " في الإسلام هو حسّ الوجود المتميّز ، حسّ العدالة العميق ، المتجذّر في النفس البشرية التي تأبى الظلم وتقاومه . إن حسّ العدالة هذا هو جوهر الدين الإسلامي ، والقصد الأساسي في الإسلام هو مبدأ العدالة الناتج من قيمة الإنسان نفسه ، فالإنسان ليس فردا فقط ، فكل فرد يمثل الإنسانية كلها .وهذا ما تقوله الآية الكريمة : ( مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا .)
هذه الهوية الأخلاقية عند المسلم هي التي تمنحه شجاعة الاستشهاد ولذّة التضحية من أجل قضية عادلة .فحسّ " الهوية " عنده هو حسّ " العدالة " ..حسّ الحقيقة ..حسّ الحقّ ، هو يموت مطمئنا ..مرتاح الضمير .هذه " الهوية " الإسلامية هي نقيض الهوية الغربية الأمريكية .
لقد تجلّت أمام أعيننا تبعات صدمة " العولمة " في حياتنا وعلى " هويتنا الثقافية ، فما العمل ؟ فعلا ..حــــسّ الهوية في الإسلام هو حسّ العدالة والتساوي والإحساس بالكينونة الفردية التي تمثّل الإنسانية كلها :
ـ لكن كيف يكون الدفاع عن هذه الكينونة في زمننا هذا ؟
ـ كيف نواجه المخاطر التي تهددنا ؟
ـ ما هي الوسائل التي نواجه بها المعارك الغير البريئة ضدّنا ؟
المفكر الكبير الدكتور محمد عابد الجابري ينفي نفيا قاطعا أن حدث في التاريخ البعيد أو القريب أو حتى في المستقبل أن التهمت ثقافة ـ ما ـ ثقافات أخرى وتولّت مكان الريادة وحدها بعد أن قضت على الثقافات الأخرى وطمست " هوياتها " : (( ليست هناك ثقافةٌ عالمية واحدة ، وليس من المحتمل أن تُوجد في يوم من الأيام ، وإنما وُجدتْ ، وتُوجد ، وستُوجد ثقافات متعددة متنوعة تعمل كل منها بصورة تلقائية ، أو بتدخّل إرادي من أهلها على الحفاظ على كيانها ومقوّماتها الخاصة . من هذه الثقافات ما يميل إلى الانغلاق والانكماش ، ومنها ما يسعى إلى الانتشار والتوسّع ، ومنها ما ينعزل حينا وينتشر حينا آخر .
إذن ، الهوية الثقافية كيانٌ يصير ، يتطوّر ، وليست معطىً جاهزا ونهائيا . هي تصير وتتطور ، إمّا في اتجاه الانكماش وإما في اتجاه الانتشار ، وهي تغتني بتجارب أهلها ومعاناتهم ،انتصاراتهم ، وتطلّعاتهم ، وأيضا باحتكاكها سلبا وإيجابا مع الهويّـات الثقافية الأخرى التي تدخل معها في تغايرٍ من نوعٍ ما .))
وحتى نخرج من الجدل الفارغ وحوار الطرشان ، ونتجاوز الموقفين السائدين : موقف الرفض المطلق وسلاحه الانغلاق الكلّي والتلويح بالماضي المشرق والتشبث بما قام به الخلف ُ وما ينجرّ عن ذلك من تخلف حضاري ، وموقف القبول التام للعولمة وما تمارسه من اختراق ثقافي واستتباع حضاري ، شعاره " الانفتاح على العصر " و " المراهنة على الحداثة " أو نحن ننتمي إلى " الثقافة المتوسطية " بالدرجة الأولى كما هو في خطاب نُخبٍ عندنا .
في اعتقادي أن كلا الطرحيْن منافٍ لسيرورة التاريخ ، وينطلقان من موقع ضعف ، ومن عقل غير واثق بنفسه ويشكّ في قدراته ومداها ، ويستقبل ما يجري في العالم المعاصر ـ بعقل مستقيل ٍـ لا يرى صاحبه مخرجا من المشاكل إلاّ بالهروب منها .
(( إن حاجتنا إلى الدفاع عن هويتنا الثقافية لا تقل عن حاجتنا إلى اكتساب الأسس والأدوات التي لا بدّ منها لدخول عصر العلم والتِّـقانة ، وفي مقدمتها العقلانية والديمقراطية .إن حاجتنا إلى تجديد ثقافتنا وإغْناء هويتنا والدفاع عن خصوصيتنا ومقاومة الغزو الكاسح الذي يُمارسه على مستوى عالمي إعلاميا وبالتالي إيديولوجيا وثقافيا . المالكون للعلم والتقانة، لا تقلّ عن حاجتنا إلى اكتساب الأسس والأدوات التي لا بدّ منها لِمُمارسة التحديث ودخول عصر العلم والتقانة .. دخول الذوات الفاعلة ..المستقلّة وليس دخول " المنفعل " .
نحن في حاجة إلى التحديث كفاعلين مساهمين ولكن في حاجة إلى مقاومة الاختراق وحماية هويتنا وخصوصيتنا الثقافية من الانحلال والتلاشي .)) (22)
لسنا في حاجة لمن يدفعنا إلى الهرولة في أحضان العولمة المتوحّشة والدعوة إلى الانفتاح على الحضارات المغايرة ، لاسيّما تلك التي تدّعي لنفسها صفة العالمية وتفرضها بالحديد والنار ، بحكم قوتها الاقتصادية والإعلامية والثقافية ، وبحكم سيطرتها العسكرية وتسلّطها .هذا بديهي ..فالمشكلة لا تُصاغ بعبارات مثل : هل نتفاعل أم لا ؟ المشكلة الحقيقية تكمن في شروط هذا التفاعل ،ومنطلقاته ، وبمدى تحكّمنا بهذه الشروط .ولسنا بحاجة لِمنْ ينصحنا بالمسارعة في ركوب قطار ـ العولمة ـ قبل أن يتركنا في محطّات التخلف ..فنحن على استعداد لركوب هذا القطار ، لكن كركّاب بشر ، يحملون " هوياتهم " و" جوازات سفرهم " و " أشياءهم الخاصة " ويعرفون وجهة سفرهم ..لا أن يُحْملوا إليه كالسوائم والأنعام ، حسب تعبير الأستاذ : محمد راتب الحلاّق .(23)
وبعد إذا كان يُسمح للمثقف العربي أن يقوم بمثل هذا الدور في الثقافة العربية وهو يعيد التفكير في هويته ، فإن المثقف الجزائري يجد نفسه في وضعية المسيّج ، فأي نقدٍ لوضعية اللغة العربية ، والثقافة الوطنية ، أو للخطاب الإسلامي سياسيا ، أو مسجديا ، أو دعويا ، يعرّض صاحبه لتهمة التراجع عن الانتماء والكيد لأصالة الأمة وثقافتها الحضارية .
في كل " هوية " نزْعةٌ خاصةٌ نحو الماضي وتحصّنٌ كثيفٌ به . إنه قلعة الصمود الأخيرة عندما نتعرّض للغزو المدمّر والمُنهِكِ لخصوصية بنيناها وفق تصوّراتنا الخاصة عبْر الحقب التاريخية ، ولكن الانشغال بالماضي على حساب الحاضر هو الخسران بعينه . أي رهْن المستقبل لصالح الماضي العزيز علينا جميعا .
هوية مجروحة من الداخل
في بلدنا يتمّ التساؤل خلال السنوات الأخيرة حول " الهوية " الوطنية ضمن إطاريْن ضيقين ومستويين أحاديين ، فإمّـا أن تنفتح هذه الهوية على الآخر في شكل كامل ومكتمل مع الغرب ، وإمّا أن تنغلق في إطارٍ محدّد وثابت ، مرجعيته الحضارية والثقافية في العالم العربي الإسلامي .بين الإطارين لم يتبلور بعد خطاب ثقافي جديد يحاول أن يُـسائل مفهوم " الهوية " عقلانيا بعيدا عن كلّ تشنج وخارج التبعية للغرب والشرق معا .
وتزداد الهوّة أكثر كلما تمّ التلويح ب" الهوية اللغوية" التي يُراد منها تمزيق وحدة هذا البلد جغرافيا من ناحية ، وزرْع ذلك في ذهن المواطن بأن هذه هي الحقيقة للخروج من تيْه " الهوية " واقعيا هذا المواطن يكتوي يوميا بنار تبعات هذه " الهوية اللغوية " ليس في إطار العربية الأمازيغية ، إنما في إطار اللغة الأخرى الدخيلة التي تغلغلت في كل المرافق ووسائل الاتصال والتواصل ، وعقّدت المواطن الذي لا حول ولا قوة له ، إذ أصبح يشعر بأن هناك عدوّا غير مرئي يتربص به ، ويضيق عليه حياته يوميا وكأنه قدره الذي لا فكاك منه .
أزمة " الهوية " ليست أزمة ذات تعاني من غزو خارجي عندنا ، ولكن ذات منقسمة على نفسها وتبحث عن ذاتها الأخرى المقموعة والتي لن يحرّرها إلاّ الحوار معها ومع الآخر .فعندما ينفتح الأخر على المختلف معه ، وتتأسّس فلسفة بأكملها تدافع عن وجوده الحي المبدع ـ هذا المختلف ـ بين مساحات هذه الفلسفة ، فنحن مطالبون أن ننصت للغرب في تحرّكاته المعاصرة وتشييد ديمقراطيته على مبادئ من التحاور والتبادل الرمزي الفاتن .ها هنا فقط تتراجع المُطلقات لصالح حقّ الفرد في الحرية والتشكّل المستقل ، لصالح وعْي " هوية " مناهضة للضيق والانغلاق والتعصّب ، تستفيد من كل الروافد الحضارية وتستلهم منها روحها المشرئبة نحو المستقبل.(24)
وبعد : يعتقد أغلب المفكرين العرب والمسلمين أن البعد الثقافي للعولمة هو الأهم والخطر لِما يحوزه من أهمية في بلْورة " الهوية " التي هي مجموعة معالم والثقافة واحدة منها ، فالفرد من خلال الثقافة يتعرّف على هويته ، والثقافة هي البوصلة للمجتمع ، ممّا يعني أن المساس بأحد عناصر الثقافة أو التأثير عليها هو مساسٌ بـ " الهوية " .
البعد الثقافي لِما يمثله من تحدٍّ كبير على العالم العربي الإسلامي الذي تعيش بلدانه حاليا غيبوبة ثقافية ، وتستنزف قواها ـ إنْ كان لها قوى ـ في دائرة من اللغو ، واللغو المضاد ..وكأن الأمر لا يعنيها
وحسْب أغلب المفكرين وحتى المنصفين من الغرب ، فإن الهجوم الكاسح للعولمة سيؤدي إلى الارتداد نحو التشبث بالثقافة و " الهوية القومية " ، غير أن المعركة ستكون خاسرة ما لم تتحول مقاومة سلبيات العولمة إلى مقاومة عقلانية ، إيجابية تتسلّح بأدوات ثقافة العولمة نفسها ، القائمة على أساس اقتصادي علمي تكنولوجي متين .

الهوامش
( 1) ـ د. علي وطفة : تصدعات الهوية وهزائمها ...موقع اتحاد الكُتّاب العرب.
(2) ـ مرجع سابق .
(3) ـ د . يوسف صوان / ليبيا : العرب والعولمة : التحديات والخيارات ..
(4) ـ د .يوسف صوان : حقوق الإنسان في عصر العولمة .
(5) ـ د. مصطفى العبد الله الكفري : العولمة : الهاجس الطاغي في المجتمعات المعاصرة ..موقع الحوار المتمدن .
(6)ـ د . محمد عمارة : مخاطر العولمة على الهوية الثقافية ( 1999).
(7) ـ محمد المنير (2000) : العولمة وعالم بلا هوية .
(8) ـ أليكسي ميكشيلي ( 1993) : الهوية .دمشق .دار الوسيم .
(9) ـ تركي الحمد (2001) : الثقافة العربية في عصر العولمة .بيروت .دار الساقي .
(10) ـ الدكتور أحمد بن نعمان (2002) : اشهدي ياجزائر .دار الأمة .الجزائر .
(11) ـ الثقافة العربية في عصر العولمة .مرجع سابق.
(12) ـ إريك دوبان : ( 2004 ) باريس .هستيريا العولمة .
(13) ـ جاد عبد الكريم الجباعي .(1995) حرية الآخر : نحو ديمقراطية للمسألة القومية .
(14) ـ مصطفى العبد الله الكفري : مرجع سابقٌ .موقع الحوار المتمدن .
(15) ـ جاد عبد الكريم الجباعي .مرجع سابق .
(16) ـ المرجع السابق.
(17) ـ الدكتور محمد عابد الجابري .مداخلة في ندوة : التراث وتحديات العصر .
(18) ـ هفال يوسف .موقع معابر .أزمة هوية أم أزمة إدراكٍ .
(19) ـ مقررات اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني : الجزء الأول .ص : 294 .
(20) ـ الدكتور العربي ولد خليفة.الجزائر .الجزائر المفكرة والتاريخية . 1998 شركة دار الأمة / الجزائر .
(21) ـ الخبير القانوني عزالدين زعلاني .الشروق اليومي .العددان : 1061 ، 1062 .الأربعاء/الخميس 28،29/4/2004
(22) ـ الدكتور محمد عابد الجابري .العولمة والهوية الثقافية .عشْر أطروحات
(23) ـ الأستاذ محمد راتب الحلاق .العولمة وسؤال الهوية .مجلة الفكر السياسي .العددان الرابع والخامس 98/99
(24) ـ الأستاذ بشير مفتي .مجلة الاختلاف / الجزائر العدد الثاني . سبتمبر 2002 ص :52-53 ( بتصرّف ).



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن