ذات مهملة

عصام نكادي
issamnga@gmail.com

2020 / 8 / 1

قفز من فراشه متوجها صوب خزانة ملابسه الخشبية. مدّ يده والعمش يملأ حوافّ عينيه، ومن بين كومة الملابس المبعثرة استل قميصا تفوح منه رائحة العرق، ارتداه بسرعة ثم انطلق بعد ذلك مُهرولا الى الصنبور لكي يبلل نفسه ببعض قطرات المياه بغية التخفيف من نوبة الهلع التي حدثت له للتو عندما نهض من الفراش ووجد نفسه عاريا. فمظهر عري جسده يذكره بلحظتين اثنتين لطالما أرَّقتاه. لحظة الولادة التي ولد فيها عاريا ولحظة الموت التي سَيُوضع فيها في القبر وهو عارٍ. الاولى تذكره بسؤال النشأة والأصل والثانية تدخله في متاهات المصير وأسئلة أخرى يصعب على الانسان العادي فهمها. وضع بُقراجا مملوءا بالماء على قنينة الغاز ثم توجه الى الحانوت لإقتناء خبزة وما يعادل بضع دراهم من زيت الزيتون لكي يفطر، فاليوم هو يوم راحة بالنسبة لـ "سعيد" الذي عمل ومازال يعمل منذ انقطاعه عن دراسته في الجامعة بحقول الطماطم. أعد فطوره وتناول ما استطاعت معدته الصغيرة أن تتحمله ثم سكب القطرات الأخيرة المتمردة التي تختبئ في قعر البرّاد في كأسه الزجاجي وأخذ بعد ذلك علبة السجائر من نوع "كازا" وبدأ يدخن وأعينه تتأمل الرجل الأصلع الذي يتوسط هذه العلبة. لاشك في أن يديه المفتوحتين وجسده ذو البنية المتماسكة والعضلات الصلبة تجعلان من "سعيد" يشعر بالغيرة منه، فهو شاب نحيف كالعصا، له عينان شاحبيتن وهالتان سوداوان تحت عينيه، ورأسه منحن إلى الامام كالنعامة من شدة اعوجاج ظهره وكتفيه. وبعد التمعن في العلبة طويلا، تذكر الصفعة التي تلقاها من "الكابران مصطفى" بالأمس عندما انزلق صندوق الطماطم من يديه وهو متوجه به نحو الشاحنة. غرس السيجارة في طفاية السجائر واتبعها بتفلة أعطت لأعقاب السجائر رائحة يصعب علي وصفها بحكم أنها لا تشبه باقي الروائح، ثم تحدث مع نفسه قائلا : « يا ليتني كنت أملك ولو القليل من هاذين الذراعين الصلبتين وهذا الجسد القوي. فلو كنت مثل هذا البطل لكنت قد طرحت "الكابران مصطفى" أرضا وانهلت عليه باللكمات حتى تُزهق روحه ». شعر بلذة لم يشعر مثلها من قبل وهو يتخيل هزيمته « للكابران مصطفى »، لدرجة أنه عندما دخل في حلم يقظة طويل يدور رحاه حول تعنيفه « للكابران » وطرحه أرضا والتبول عليه...، بدأت صورة الكابران في مخيلته تتماهى له مع صورة أبيه، فاختلطت عليه الاشياء، لم يعلم هل كان يضرب الكابران أم كان يتمرد على سلطة أبيه المتوفى منذ سنين ليست بالطويلة!!! . صوّب نظره وبدون أي سابق تفكير منه تجاه باب منزله وأثار انتباهه أصيص لنبتة الحَبَقُ كان قد اشتراه منذ مدة لكي يطرد الحشرات التي كانت تنغص عليه نومه بالليل. حدّق فيها جيدا وبدت له هذه النبتة واقفة وقفة شامخة، معليةُ من كبريائها، متبخترة بسلطتها ونفوذها اللذين هيمنا على المكان وملآ جغرافية الأصيص المتوسط الحجم. لقد ذكرته بـ «الكابران مصطفى» ذي الوقفة الشامخة و النفوذ الذي يتمتع به داخل حقل الطماطم الذي يعمل فيه سعيد ما جعله يقف وقفة جندي يحارب عدوا من صنع خياله وقصدها بسرعة ماداً يديه الطويلتين النحيفتين اللتيتن تشبهان قضيبي الشواء ثم أمسك جذع النبتة من ظهرها وكسرها الى نصفين جاعلا منها منحنية الرأس خاضعة لسلطانه وجبروته. شعر بانتصار ونشوة من لم يشعر بمثلهما من قبل وخاطب نبتة الحبق بصوت تملأه القسوة والحزن في آن : " لقد انتصرت عليك ايها الكابران، نعم لقد هزمتك، انت الان في حضيرتي، انت الان تحت امرتي وسلطتي. ها انت الان هنا بين يدي الصلبتين، مكسور الظهر، منحني الرأس كالنعامة التي تدفن رأسها في الارض، لقد كسرتك. تبا لك، وسحقا لك ولأمثالك".
وبعد انتهاءه من محاورة النبتة (الكابران) توجه صوب صنبور المياه لكي يروي عطشه ثم حمل في يده اليمنى كرسيا مصنوعا من البلاستيك وجلس قرب باب منزله لكي أن يطرد من مخليته قليلا الكابران مصطفى ومعاملاته اللاإنسانية تجاهه ورغبة ً منه أيضا في مشاركة انتصاره مع الطيور و ديدان الارض والنمل المرابض امام عتبة باب منزله. فسعيد انسان مهمل وغير مرئي، لا يظهر للجميع ولا يثير انتباه المارة، لا الزمان يفاجئه ولا المكان يحركه، كل الاشياء التي تحيط به من أناس وحيوانات تنظر الى سعيد نظرة ازدراء، لكنه يعلم بفطنته وذكاءه الفطريين شعورهم تجاهه، فهو دائما ما كان يفسر نباح الكلاب عليه بأنه حسدٌ، وزقزات العصافير بأنها نميمة، ومواء القطط بأنه غيرة من مرونته وسرعته في المشي اللتين اكتسبهما اثناء عمله في قطف الطماطم. أدخل يده اليسرى في جيبه واخرج منه علبة السجائر، ضرب في جيبه الايسر ضربة خفيفة لكي يتحسس تواجد الولاعة من عدمها لكنه لم يجدها، وضع علبة السجائر على كرسي البلاستيك الذي كان يجلس عليه وتوجه الى داخل بيته من أجل أن يأتي بالولاعة الى مكان جلوسه، لكن وعند انحناءه لإلتقاط الولاعة لمح التلفاز ذا البطن الضخمة الموضوع على طاولة الخشب، ثم تذكر بطن « الكابران مصطفى» المنتفخ، قصد التلفاز بسرعة وحمله بكل ما يملك من قوة الى الأعلى وضرب به الارض حتى برزت أحشاءه الداخلية الى الوجود. رجع الى الوراء قليلا ونظر الى البساط البني اللون الذي يغطي الردهة وحملق في الزخرفة التي تتوسطها واذا بوجه الكابران مصطفى يظهر فجأة من وسط البساط مكشرا أنيابه كأنه كلب مسعور يريد الانقضاض على سعيد. صعق سعيد من أثر هذا المشهد المروع ثم صرخ صرخة زعزت حباله الصوتية من مكانها وقال بصوت عالٍ : " ابتعد عني ارجوك ايها الكابران، لقد استسلمت. ارجوك ايها الكابران انا لم ولن استطيع هزيمتك، لقد اصبحت ظلي الثاني وبدأت احلم بك في كل ليلة، لقد تعبت ".
سقط على ركبتيه أرضا وبدأ يبكي من شدة شعوره بالهزيمة وانسداد جل الطرق التي ستجعله يهزم الكابران مصطفى، لقد كانت جل انتصاراته مجرد وهم صنعه لنفسه وصدقه لبرهة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن