لماذا يصعب أن نكون عقلانيين اتجاه الجائحة؟

علي ارجدال
docs.drive3@gmail.com

2020 / 6 / 30

يبذل أفضل العلماء في العالم جهودهم في ما يشبه الحرب ضد الوباء العالمي، فهم يعملون على ايجاد اللقاحات والعلاجات المحتملة، يعمل بعضهم على نمذجة بيانات الوضعية الراهنة، بعضهم الأخر يتكلف بتقديم النصائح.

إن الكوفيد19 هو أسرع عدوى منتقلة يشهدها العالم في القرن الواحد والعشرين. أدت الى عولمة المجتمع، حيث تطلب منه الأمر العمل من خلال الإعتماد على العلوم القائمة على الدلائل. في هذا الصدد نحن متفقون بوصفنا الإنسان العقلاني للقرن الواحد والعشرين، أليس كذلك؟

تكشف استطلاعات الرأي العام في امريكا أن نفس الفيروس المميت، ونفس الأمة تأثرتا بشكل قوي بأنماط الاقتراع الجاري بها العمل. فالناخبون الجمهوريون يظهرون بشكل عام انهم غير معنيين كثيرا بالكوفيد 19، ويبدون اقل تأييدا لاجراءات الاغلاق وتدابير الوقاية من خطر تفشي الفيروس. ظهرت هذه اللامبالاة في الوقت الذي تم الاعلان فيه عن اكثر من مليون أمريكي أصيب بالعدوى، وموت ازيد من 69.000 الف شخص.



منذ أن اصبح الكوفيد19 مرضا معديا ينقله الانسان ويساهم في تفشيه، أصبحت فرص انتشاره اكثر حدة عند الحفاظ على نفس السلوك الاجتماعي للإنسان فيما بينه، واصبح الفيروس اكثر فتكا. هذا هو العلم. ولن ينجح الناس في إبطاء إنتشار الفيروس إلا من خلال فهم التهديد الذي يشكله على حياتهم، وبالتالي سوف تكون هنالك تعبئة شاملة من أجل تغيير السلوك الاجتماعي المتسبب في سرعة إنتشار العدوى. ورغم كل شيء حاول مجموعة من العلماء والخبراء في الولايات المتحدة ان ينبهوا الناس حول العالم إلى التهديدات التي يطرحها إنتشار الفيروس، وأهمية التباعد الاجتماعي، وظهر أن العديد من الزعماء في المعمورة أصرو على مر شهور بشأن التقليل من التهديد الذي تمثله الجائحة.

كما أن جل الحكومات عبر العالم لم تعلن تدابير تشديد القيود على حرية التنقل والحركة، وشهد فيما بعد للإقتصاد تهاوي كبير نتج عنه فقدان العديد من الناس لوظائفهم. وكرد فعل على ذلك،شهدت الولايات انفجار بركان العديد من الإحتجاجات المناهضة للإغلاق، كما طالب العديد من المحافظين والمنتمين لأقصى اليمين رفع القيود عن الحركة رغم التكلفة الباهظة على الصحة. ففي ميشيغان وواشنطن، دعى أنصار ترامب ومحتجون مسلحون إلى ما أسموه "التحرر" من "استبداد" حكام الولايات. وغرد ترامب على موقع تويتر في تأييد ظاهر لهذه المطالب " لنحرر ميشيغان" و"لنحرر فيرجينيا"، ووصف المحتجين بأنهم " المحبون للبلد".

في الاسبوع الماضي، إقتحم المئات من المحتجين مبنى حاكم ولاية ميشيغان مهددين إياه بسبب قراره تمديد فترة الحجر الصحي حتى تاريخ 15 من ماي. تضررت ولاية ميشيغان من الفيروس بشكل سيئ وما زالت تسجل ما يزيد عن 100 وفاة في كل 24 ساعة. وبعد اليوم الذي اقتحم فيه المحتجون مبنى الحاكم بميشيغان صدح حناجر هؤلاء واصفين حاكم الولاية بالمستبد الذي يشبه هيتلر ، وقام مجددا ترامب معلقا على الحدث في تغريدات أخرى على تويتر بأنهم " أناس طيبون"، وتزامن الأمر مع استمرار إنذلاع الاحتجاجات بمختلف الولايات.

لقد صادف رفض المحتجين توجيهات أفراد الصحة التي تدعوا الى احتواء معدلات إنتشار الفيروس، إنتشار واسع لنظريات المؤامرة، فقد اظهرت استطلاعات الرأي أن نسبة 13 % من الأمريكيين يعتبرون الفيروس خدعة، وانه سلاح مصنع في المختبرات الصينية، كما أرجعت فئة واسعة من هؤلاء إنتشار الفيروس الى شبكات الجيل الخامس 5G، ويعود الفضل في إنتشار الكثير من نظريات المؤامرة إلى شخصيات بارزة تنتمي للمحافظين، وبعض النشطاء المنتمين لأقصى اليمين، بما فيهم ايضا السيناتور الجمهوري طوم كوتون Tom Cotton، وأظهرت الابحاث أن الاعتقاد بنظريات المؤامرة ليس مقتصرا على الأشخاص قليلي الإطلاع بل فئة عريضة من المثقفين والأذكياء إنساقت وراء المؤامرة.

ويقول في هذا الصدد استاذ علم النفس بجامعة نيويورك Jay van Bavel " اذا كنت مفرط التعاطف مع الحزب الذي تنتمي اليه، فالأمر في الولايات المتحدة يشبه التواجد بغابة جافة، ستمر منها مرة واحدة، وتشعلها لتسبب مشكلة"، وأضاف " هذا ما أصبحنا نشاهده منذ الاشهر الماضية، ترامب لم يأخذ الفيروس على محمل الجد في البداية، واستمر الاعلام الداعم له في ـ فوكس نيوز وتوك راديوـ في التقليل من اهمية خطر الوباء لمدة طويلة بغرض الرفع من حظوظه الانتخابية. وبذلك فهذا مؤشر على التباين في وجه النظر والاعتقادات"

كما استمرت استطلاعات الرأي في اظهار التأثير الذي يحدثه خطر الكوفيد19 على سلوك الناخبين، حيث يظهر ان الجمهوريين أقل اهتماما بموضوع تفشي الفيروس.

إن الثقافة القبلية تؤثر في نظرة الناس للعالم اكثر من اقتناعهم بالأفكار المنطقية، ولنأخذ مثلا قضية التغير المناخي في العالم والتي تحضى باتفاق جل العلماء عبر العالم، هذه القضية ايضا تقسم الأمريكيين، ولكن بطريقة سيئة، فالجمهوريون والمحافظون الأكثر درجة في التعليم يختلفون حتى في الاعتقاد بالتغير المناخي، بينما 23% من المحافظين بمستوى التعليم الثانوي يظهرون باستمرار قلقا بالغ ازاء قضية التغير المناخي. و8% فقط من نسبة 23% من الجمهوريين هم الفئة التي تدرس في الجامعة.

يبدو الأمر غريبا، فاكثر المحافظين مستوى تعليمي بعيدون كل البعد عن التفسيرات العلمية، ولكن في مجال الرأي العام، فالتغير المناخي لا ينظر إليه أنه قضية علمية، بل سياسية. فعلم تغير المناخ حقل جديد يبدو معقدا تقنيا، والعديد من الامريكيين لا يفهمونه وبالتالي يضطرون الى تبني وجه نظر الزعماء الذين يمثلون النخب السياسية. ورغم أن الجمهوريين من ذوي التعليم الأفضل ربما يكون لديهم قدر أكبر من الاطلاع على المعلومات عن العلوم حول تغير المناخ، هم أيضاً أكثر تعرضاً للرسائل الحزبية بشأن تغير المناخ، والأمر بالنسبة لهم أكثر أهمية.

لقد طورنا ثقافة الحصول على المعارف والقناعات عبر النسخ من الآخرين بشكل عالي الدقة، على غرار ما يفترض ان يكون ابتكارا واختراعا ( ان نستعين بالأدلة ونقرر ما نحن مقتنعون به)، فقد سقطنا في اشكالية النسخ غير الموثوق للنماذج. ولا يزال الامر سيء، لان الثقافة التي اكتسبناها اسقطتنا في فخ إصدار أحكام القيمة اتجاه التفسيرات العقلانية وانحزنا للذاتية أمام القضايا العلمية. ولهذا يمكن التلاعب بنا ودفعنا لتبني أراء منسوخة على انها عقلانية، ويبدو الأمر أعقد عندما ترغب في تغيير هذه القناعات.

رغم أن الثقافة التي قمنا بتطويرها بنيت على نظم عقلانية وعلى استعمال الحجج في اتخاذ القرار، فان تطورنا البيولوجي لم يواكب الأمر، ولا زالت قدرتنا على الاستيعاب تميل لأن تكون وجدانية اكثر. المشكل لا ينحصر بالتحديد في استخدامنا للجزء العاطفي من الدماغ اكثر منه عدم قدرتنا على اتخاذ قرارات عقلانية. لكننا نتوهم اننا فعلنا. والأمر لم يعد مقتصر على العامة، فبعض الخبراء يظهرون انحيازا خاطئ له تكلفة باهضة. والطيش أصبح نسقا تنظيميا يجعل الناس يعتقدون انهم ليسوا عنصريين وليسوا متحيزين جنسيا، ويتدرجون في المناصب اعتقادا منهم أن ذلك بفضل مهاراتهم وليس الحظ.

وغالبا ما يكون الدور الاساسي للمنطق والعقلانية في اتخاذ القرار هو القدرة على تقديم القرار بشكل عقلاني وليس التوصل الى حل. بعض علماء النفس يعتقدون اننا نستخدم المنطق فقط لأننا نحتاج لان نستعيد ما نبرر به قراراتنا. وبالرغم من ادراكنا فهذا الوعي الغرائزي الذي نمتلكه اكثر كفاءة من الناحية العقلانية عن الافكار المنطقية التي تعتمل داخل دماغنا. تستطيع قلة منا ان تقوم بفصل تام بين الذات، والموضوع عندما يتعلق الامر باتخاذ القرار، إنه احد الوعود المأمولة في الذكاء الاصطناعي.

إن القرارات التي نتخذها تتعرض لتأثير تكويننا البيولوجي، والبيئة المحيطة بنا. لنأخذ على سبيل المثال التأثير النفسي والفيسيولوجي لشعور الخوف: اظهرت الابحاث ان الاشخاص الذين يقومون بالتصويت بشكل متحفظ يظهر لديهم تضخم في لوزهم العصبي Amygdala. انه مركز الخوف في الدماغ. وأثناء دراسة مخبرية ظهر انه كلما زاد الخوف الذي عند الطفل في عمر الثالثة أو الرابعة سيتبنى بعد عشرين سنة موقفا سياسي محافظ.

إن للخوف تأثيرا آني: اظهرت احدى الدراسات انه عندما يتعرض الليبيرالييون لتهديد جسدي يغيرون مواقفهم ويصبحون محافظين مؤقتا. يستغل السياسيون المحافظون هذا الامر من اجل اخافة الناخبين من الهجرة، ويشبهون المهاجرين بالجراثيم. وعلى سبيل المثال تم استهداف دوافعنا عبر التحفيز من اجل تجنب العدوى. وجاء في احدى الدراسات حول فيروس أنفلونزا الخنازير، ان مجموعة من الباحثين اخبروا الناس بخطر الانفلونزا وبعد ذلك سألوهم عن مواقفهم اتجاه الهجرة، عقب ذلك سأل الاشخاص المستجوبون اذا ما كان قد تم تلقيحهم ضد الانفلونزا ام ليس بعد. الذين لم يتم تلقيحهم اظهرت مواقفهم عداوة اتجاه المهاجرين، بينما اظهر الذين حصلوا على العلاج شعور اقل بالتهديد.

وفي نفس الدراسة، قام الباحثون باعطاء الناس مطهرات لليدين بعد انذار خطر إنتشار الانفلونزا، ولم يبدوا اي امتعاض مجددا من قضية الهجرة. ان تجعل الناس يشعرون بالأمان يمكن ان يغير سلوكهم الانتخابي ليكون اكثر ليبيرالية. عندما طلب الباحثون من الناس ان يتخيلو انفسهم يمتلكون مناعة ضد اي عدوى، اصبح الناخبون المحافظون منهم اكثر ميل لليبيرالية اتجاه قضايا مثل الاجهاض والهجرة. العاطفة تهيمن على العقل.

إن التأثيرات الاجتماعية لأكثر القرارات عوامل اساسية في اتخاذ القرار. في بعض المواقف الحزبية، الذين يخالفون القواعد الاجتماعية المتعارف عليها بتصويتهم ضد مجموعة الاغلبية يتعرضون للنبذ والإقصاء. في حالات معينة، ان معارضة الحجج العقلانية هو نتيجة للحافز الاجتماعي وشبكات الترابط والدعم بين التي تكونت، لذلك يفضل هؤلاء هذا المسار بدلا من ان يكونوا على صواب وموضوعية.

كيف ما حاولت أن تقنع سياسيا، فان جائحة كورونا لا تقيم تمييزا بين الافراد، فهي تتجه مباشرة الى مهاجمة الجهاز التنفسي، ولان فيروس كورونا ينتعش في الاوساط الاجتماعية فان الاشخاص الذين يواصلون تجمعاتهم يمكن ان يتعرضوا لأوبئة اسوأ. وبعبارة اخرى، سجلك الانتخابي يمكن ان يؤثر على مصيرك.

ليس من المفيد القول ان الترابط الحاصل بين التوجهات السياسية والمواقف اتجاه كورونا ليست هي المعنى الكامل للقصة. فعلى سبيل المثال قام راند بول اصغر سيناتور عن كينتاكي kentucky بالتطوع في احدى المستشفيات للمساهمة في مساعدة المرضى، بما في ذلك المصابين بالفيروس، لينتهي به المطاع مصابا هو نفسه.

تمت بوادر تغيير، فالجمهوريون عند مخاطبتهم للاشخاص الذين اصيبوا بعدوى الجائحة، اظهروا قلقا بالغ اتجاه تهديد الفيروس، يمكن تسمية هذا نوعا من "قيود واقعية". ويرى فان بافل Van Bavelان تحفيزات الافراد اتجاه احزابهم السياسية اصبحت تتراجع بسبب ميلهم لان يكونوا اكثر دقة، وان يهتموا بصحتهم وبأسرهم.

لقد أظهر احدث استطلاع ان ما يزيد عن 95% من الديمقراطيين يأيدون تدابير التباعد الاجتماعي، و80% من الجمهوريين لهم نفس الموقف. الفجوة تنحصر اذا. وليس من المستغرب ان تتراجع شعبية دونالد ترامب امام هذه الوضعية، في مقابل ارتفاع شعبية حكام الولايات الذين اظهروا قدرة جيدة على الاستجابة امام تهديد الفيروس.

هذا المقال قمت بترجمته ـ بتصرف ـ عن موقع بي بي سيBBC



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن