الأشرار الأربعة: وثانيهم يوسف الصدّيق

سامي الذيب
sami.aldeeb@yahoo.fr

2020 / 5 / 22

ذكرت في مقال سابق
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=677132
أن الأستاذ الدكتور محمد المزوغي اصدر كتابا عنونه: في ضلال الأديان
يمكنكم الحصول عليه من الدار الليبرالية بإرسال رسالة لرقم الواتس أب الخاص
الرقم : 0950598503
وللقراء خارج سوريا لاسيما في الدول الأوروبية أصبح بالإمكان طلب كتب الليبرالية عن طريق موقع صفحات ناشرون السويد
https://www.safahat-publishers.com/product-tag/dar-lebralye/

وقد كرس المزوغي الجزء الأكبر من هذا الكتاب لسحق فكر اربعة من أشرار مجتمعنا:
يوسف زيدان
يوسف الصدّيق
محمد عابد الجابري
ومحمد الطالبي
.
بعد ان نشرت في مقالي المذكور اعلاه مقدمة كتاب المزوغي قي ضلال الأديان
وعرضت ما ذكره مؤلف عن الشرير الأول يوسف زيدان http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=677653
اعود اليكم اليوم لكي اعرض ما ذكره مؤلفه عن الشرير الثاني يوسف الصدّيق، دون ذكر الهوامش

الأشرار الأربعة: وثانيهم يوسف الصدّيق (تحت عنوان: المُسَالِم العنيف يوسف الصّدّيق والآخرون)
------------------------------------------------------------

1. الآخر هو المرشّح للقتل
----------------
كما أن يوسف زيدان قد افتتح كتابه بمفارقة منطقية وأخلاقية (الجمع بين الانفتاح والمبالغة في القتل)، فإن الفيلسوف التونسي يوسف الصّدّيق هو أيضا ابتدأ بأطروحة لا تقلّ عنها تناقضا، من حيث الجمع بين "الغَيريّة" و "القتل". كيف وصل إلى هذه المفارقة؟ ما هي المنهجية التي اتّبعها لعرض أفكاره؟ عن طريق مقدمة بسيطة استمدّها من القرآن. قال إن الغيريّة هي معطى أوّلي من معطيات القرآن: «القرآن يؤسس للغيريّة على أنها مُقوّم من مقوّمات البعد الاجتماعي للخلق ». وكيف بَنى القرآن هذه الغيريّة؟ ما هي معالمها الأساسية؟ بماذا دَشّنها؟ بالدّم، يعني بالقتل وسفك الدماء. هذا ما استنتجه الصديق من قصة قابيل وهابيل: «هنا بدأت الغيرية »، أي بدأت حينما تخاصم ابني آدم الوحيدين فقتل الأخ أخاه. ولم يكتف الصدّيق بهما وإنما أدخل الغُراب في معمعة الغيرية، فأصبحت ثلاثية الأقطاب: آدميّان وحيوان طائر. تابعوا، أرجوكم، سير أفكار هذا الرجل: القصة التلمودية للغراب الذي يُعلّم القاتل كيف يواري جثّة أخيه، أصبحت عند الصديق قصة واقعية حدثت بالفعل في بداية الخليقة، وتَحمِل في ذاتها زَخما رمزيا كبيرا، فتَحتْ للبشرية آفاق الغيريّة بكل ما تتضمّنه من وعي بالآخر: «بدأ الآخر حين ظهر الغراب ليُميّز بينهما ويُعلّمهما أوّل ممارسة اجتماعية وهي كيف يواري الإنسان سوأة أخيه. لقد بعث الله غرابا تخاصم مع بني جنسه (أي مع غراب مثله) ثم قتله، وإثرها نَبَش الأرض ودفنه ».
أتوقّف هنا لأطرح سؤالا: هل يُعقل أن يتفوّه فيلسوف بأشياء من هذا القبيل؟ هل يَعتقد فعلا بوجود آدم وحواء وقابيل وهابيل؟ كيف لفيلسوف متمرّس بفن الجدل، أو مفروض أنه كذلك، أن يروي خرافة تلمودية كوميدية، يُصوَّر فيها الله وهو يَتفرّج سلبيّا على القتل، ثم بعد حدوثه يُداوي القتل بالقتل؟ ألا يرى الصدّيق أن الإله خرج من هذه الخرافة كائنا شريرا ساخرا قتالا؟ كيف لا وهو بَدل أن يمنع القتل منذ البداية، ضاعَفَه؛ وعوض أن يَهتمّ بالحيّ وبكيفيّة الحفاظ على سلامته، اهتمّ بجثّة المقتول وفكّر في كيفيّة دفنها.
ومن خلال هذه الخرافة الشرّيرة استنتج الصدّيق نتيجة أشرّ منها، وهي أن الغيريّة، في جوهرها هي التّدافع، هي القتل: «الآخر هو المرشّح للقتل ». والقرآن لم يأت لإخماد العدوانية بل لكي يُذكّيها ويُجذِّرها في الواقع عن طريق تكفير الآخر وقتله، وفي هذا فإن الصدّيق صادق مع نفسه ومع روح القرآن. لكنه لا يعترف؛ لا يُقرّ بأن القرآن عدواني تكفيري، بل يَغرق في واد الفيلولوجيا الوهمية لكي يصدّ القارئ عن الوصول إلى هذه النتيجة الحتمية. فالكافر، بالنسبة للصديق، هو الآخر، وهو المرشح للقتل، لكن الكافر أيضا هو المُزارع في اللغة الآرامية، والدليل على ذلك الآية القرآنية التالية: (محمد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركّعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يُعجب الزرّاع ليغيظ بهم الكفّار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما).
لكن هذا التفسير الشخصي جدا لا يتفق مع صريح النص، ولا يتماشى حتى مع قواعد اللغة العربية؛ فنحن أمام نص صريح، يقول بكل وضوح إن محمدا وأصحابه يَجمعون بين الصلاة والقتل، التعبّد والنحر، الرحمة بينهم والغلظة على الكفّار، ثم يأتينا هذا الرجل لكي يقول لنا: أنتم لم تفهموا شيئا من القرآن، وقد غاب عنكم المعنى الحقيقي، وبالتالي يجب أن تسمعوا منّي: «المقصود في هذه الآية بكلمة الكفار: هم المزارعون لمّا يفرحون بمنتوج الأرض، وخاصة بثقل السنابل ».
وما العيب في أن يَفرح المزارع، بعد جهد شاق، بمحصول عمله؟ لماذا يُطلق على أناس مسالمين لقبًا مهينا؟ لقد راوغ ودار في حلقة مفرغة، وطوّل من قائمة الكفر: من المُزارعين الفرحين بالسنابل، إلى إخفاء الشيء، إلى جحود نعمة الله والوجود، إلى الاختلاف في الرأي وفي النهاية، يقول إن مسألة الكفر هي مسألة بسيطة جدا: «المسألة هي مسألة ميتافيزيقية أكثر منها مسألة فكرية ».
والحال أن الكُفر، في القرآن، لا هو مسألة ميتافيزيقية ولا فكرية، هو مسألة واقعيّة اجتماعية قُطِعَت من أجلها الرؤوس ودُمّرت بسببها حيوات. وإذا أردنا الدقّة، الكفر لا علاقة له بالله ولا بالفلسفة، لأن الله غير موجود والفلسفة لا تُكفّر أحدا. إلاّ أن نص القرآن يُكذب هذا الفيلسوف ويَسحَق تأويلاته الخيالية سحقا، لأنه يكفي العودة إلى الآية وقراءتها بتمعّن، ويكفي الاطلاع على المفسرين المسلمين حتى ندرك مدى خطورة أقوال هذا الرجل ومدى استهتاره بالحقيقة.
أستشهدُ بتفسير التحرير والتنوير لابن عاشور، وهو التفسير الذي يَشيد به الإسلاميون والعلمانيون المحدثون على حدّ سواء. قال ابن عاشور بخصوص هذه الآية: إن الشدّة على الكُفار هي «الشدة في قتالهم وإظهار العداوة لهم، وهذا وصفُ مَدْحٍ لأن المؤمنين الذين مع النبيّ كانوا هم فئة الحق ونشر الإسلام، فلا يليق بهم إلاّ إظهار الغضب لله والحب في الله، والبغض في الله من الإيمان ». وهذا هو مبدأ العالمية الوهابية، يَعرضه علينا صاحب التنوير في عرائه، أعني مبدأ الولاء والبراء، الذي تحوّل عند سيّد قطب إلى "التكفير والهجرة"، والكل يعلم ماذا نتج عن هذا المبدأ العدواني وكم دماء أسيلت من أجله. والسبب في هذه العداوة الشاملة، في رأي ابن عاشور، هو أن عصبة المؤمنين هم أفضل خلق الله على وجه الأرض لأن النبوّة أشرقت عليهم «وأصحاب النبي أقوى المؤمنين إيمانا من أجل إشراق أنوار النبوّة على قلوبهم ».
لكن إشراق النبوّة لم يُليِّن قلوبهم ولم يُحَبّب لهم السلام، بل زرَعَ فيهم روح العدوانية والتعطّش للدم، وهذه الخصال، بالنسبة للمفسّر التونسي، هي خصال طبيعية ولازمة: «فلا جرم أن يكونوا أشداء على الكفار، فإن بين نفوس الفريقين تمام المُضادّة». والدليل الذي يقدمه بن عاشور على دمويّة هؤلاء الأتباع هو واقعة تاريخية سردها كتّاب السيرة، حيث فاق تعطّشهم للدم نبيّهم، حتى عمت بصائرهم، وخرجوا عن طور المعقول والإنسانية: «وما كانت كراهيتهم للصلح مع الكفار يوم الحديبية ورغبتهم في قتل أسراهم الذين ثقفوهم يوم الحديبية وعفا عنهم النبي، إلا من آثار شدّتهم على الكفار ولم تكن لاحت لهم المصلحة الراجحة على القتال وعلى القتل التي آثره النبي. ولذلك كان أكثرهم محاورة في إباء الصلح يومئذ أشد أشدّائهم على الكفار، وهو عمر بن الخطاب، وكان أفهمهم للمصلحة التي توخّاها النبي في إبرام الصلح أبو بكر».
وما هي أحكام الشدة على الكفار؟ كيف يجب التعامل معهم؟ هل هناك قانون؟ كلا. ليس هناك قانون محدّد المعالم بل كل السّبل مفتوحة أمام الحاكم وكل الخيارات جائزة. لكن الثابت هو وجوب التقيّد بالشدّة والغلظة كمبدأ، في وقت القوة: «تكون أحكام الشدة على الكفار من وجوب وندب وإباحة، وأحكام صحبتهم ومعاملتهم جارية على مختلف الأحوال، ولعُلماء الإسلام فيها مقال». ومِن أين اقتبسوا الشدّة؟ «اقتبسوها من شدة النبي في إقامة الدين». وكيف تستوي مشاعر الشدة والرحمة؟ كيف يكون المسلمون مَحلاّ لوجْدانات متناقضة؟ أليس حمْل الشيء ونقيضه هو دليل انفصام في الشخصية؟ بن عاشور محكوم بالقرآن، وهو مُستعدّ أن يقلب نظام العالم، أن يدوس القيم الأخلاقية ويبارك حتى أكل لحوم البشر لمسايرة القرآن: «في الجمع بين هاتين الخصلتين المتضادتين: الشدة والرحمة، إيماء إلى أصالة آرائهم وحكمة عقولهم، وأنهم يتصرفون في أخلاقهم وأعمالهم تصرّف الحكمة والرشد، فلا تغلب على نُفوسهم مَحْمَدة دون أخرى، ولا يندفعون إلى العمل بالجبلّة وعدم الرؤية ». لكن، للأسف، الواقع التاريخي يكذب تفاؤل بن عاشور، حيث أن أكثر من نهشوا أنفسهم وقتلوا بعضهم أشر قتلة هم المسلمون الأوائل، يعني أصحاب محمد.
***
نعود إلى الفيلسوف يوسف الصدّيق: بعد أن ركّز قَدَميْه في مبدأ الرفض، واعتبرَ الآخر هو جوهريا المرشح للقتل، شعر بالمأزق، وربما تفطّن إلى أن ما يقوله مناف للأخلاق، فطَفِق يبحث عن حل، والحل شاخص أمامه، موجود في القرآن، حيث جاءت فيه آيات صريحة تحثّ على مواجهة الكفار والإثخان فيهم، أي المبالغة في قتلهم كما قال زيدان. لكن الرجل تفادى (عرضيّا) البوح بهذا الحل، رغم أنه قد هيّأ له بمقدماته العنيفة. قال: «العلاقة مع الآخر هي الرفض والمواجهة». والحل؟ لا يكون «إلاّ بالتفاوض (الحوار) وإيجاد امكانية تعايش ». التفاوض على ماذا؟ هل هناك تفاوض على الكفر؟ أنا أتحداه أن يأتيني بآية أو حديث أو تشريع فقهي يقول إن الكافر في أرض الإسلام، وأعني بالكافر كل من لا يؤمن بمحمد وبالقرآن، يجوز له البقاء على قناعته وممارسة حياته اليومية دون أن يُقطع رأسه أو يُحرق حيا أو تُسلبَ أمواله إن كان مسيحيا أو يهوديا.

2. اعترافات لاواعية
--------------
ولكن الصدّيق لم يستطع، رغم قفزاته الخاطفة، التعْتيم على الحقيقة؛ ورغم تَعنّته المتواصل، وتأويلاته الخيالية، فإن، مِن حين لآخر، تَنطلق منه اعترافات بالقتل والعنف في القرآن. لقد وجد نفسه أمام نصوص صريحة، غير قابلة للتأويل، قهَرَتْه وفاقمت من عذاباته، فعذّبَ معه القارئ. لا يمكن أن يَنفي واقع الرفض والمواجهة، وهو نفسه يصرّح به قائلا إن الإسلام يرفض الآخر ويواجهه، لكنه يُعوّم القضيّة ويحدّ من خطورتها، يقول إن الإسلام «اشتمل في عهد الرسول على المَوقِفَيْن: الرفض والمواجهة من جهة، والتحاور والتعايش من جهة ثانية».
وهذا أمر معروف لا جديد فيه: الكل يقرأ: "لكم دينكم"، في موضع، ويقرأ: "حرّض المؤمنين على القتال" في موضع آخر. لكن الرجل تَلعْثَم في التعبير عن أفكاره؛ لم يَدْرِ ما يُجيب، ورغم معرفته العميقة، كما يدّعي، بلُغة القرآن وبلغة اليونان والسريان والفراعنة، عَجَزَ عن تركيب جُملة عربيّة مفيدة وبأسلوب واضح نقيّ. حيث كتب تعليقا على "لا ينهاكم الله ... الآية"، قال فيه: «أنتَ مكروه [هكذا] وتُقسِط إلى الآخر إن الله يحبّ المقسطين. إنها قصّة جهاد كبيرة نراها في القرآن فهو كاف ليحلّ المشكل، إن الله لا يلومك أن ترى كلمة جهاد بالمعنى الضيّق للحرب في آيات ظرفية مثلا في سورة التوبة حين يصبح الجهاد بمعنى حمل السلاح (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ...)، أما في بقيّة السُّوَر ـ وهي مخالفة لسورة التوبة التي تسرد ظرفا معينا بين المشركين وأتباع الدين المحمدي ـ فلا ترى كلمة القتال مستعملة إلاّ في حالة الفداء (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلوكم ..) ».
هل فهمتم شيئا؟ هل قال شيئا مفيدا؟ إنّ تخبّط هذا الرجل بين الحرب والسلم، وتَمعّضه من آيات التكفير جعَلاه يدور في حلقة مفرغة، يربط في مكان ويحلّ في مكان آخر. لكن الأكيد أنه تَصَرَّفَ مثلما يتصرّف الاسلاميون الحداثيون في العالم: يُغيّب الآيات التي تُحرّض على القتل، ويَميح إلى المتشابه منها التي يمكن أن تُؤوَّل على أنها مسالمة، لكن المفسرين والفقهاء استبعدوا تماما هذه الإمكانيّة، وأجمعوا على أنها نُسِخت بسورة السيف، وإلاّ فإن الجهاد لن يبقى له أي مبرّر تاريخي وتَتمّ إدانة القرآن ومحمد وأعمال المسلمين كلها.
وإذا وقف في العَقبة وجاءت الآيات صريحة في الحض على القتل فهو يؤولها تأويلا رحيما، ويستنكف حتى مِن إيرادها في النص.
لكن ما زال له مَوْرِد ثالث للخروج من المأزق، وهو الاعتراف الصريح بالعنف والقتل والحرب، دون أن يستنتج، أو يتفكّر، بل يَنسى كل ما قاله عن الانفتاح وقبول الآخر وعن أن القرآن أسّس التعارف بين البشر. وأظن أن هذه الازدواجية مدروسة، لأن الرجل يُرسل برسائل إلى الطّرفين: جهاديين ومسالمين. الجهاديون يقول لهم: صحيح القرآن فيه الجهاد والتقتيل، ولذلك لا حَرج عليكم إنْ تَصرّفتم بآيات القتال؛ وللمسالمين، يقول العكس.
نبدأ بالرسالة الأولى وفحواها كالتالي: «إن آيات القتال بالمعنى الحربي أعمّ من آيات الجهاد الظرفي». أرأيتم هذا الاعتراف الصريح؟ آيات القتال والحرب أعمّ، يعني أشمل من آيات الجهاد.
أليس هذا إقرارا منه بأن القرآن يحتوي على العنف ضد الآخر؟ وفعلا الرجل لا يُنكره بتاتا، بل يَمرّ وكأن شيئا لم يكن. لكن لا يجب علينا أن نرضخ لسفاسفه لأن الجهاد في الإسلام، ليس ظرفيا، أو مرتبطا بزمان ومكان محدّدين؛ القرآن لم يقل كفّوا عن الجهاد، في المطلق، بل اعتبره أمرا متواصلا حتى يعمّ الدين الحق العالم أجمع.
السيد الصديق لا يخجل من الاستشهاد بهذه الآية: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين). جملة بسيطة تكرّرت فيها كلمة "قتل" ومشتقّاتها 6 مرات، وفي إطار تحريضي عنيف ضد مجموعة من الناس سمّاهم "كافرين"، ومع ذلك فإن السفسطائي المؤمن الصدّيق يقول لنا (وهذه فحوى الرسالة الثانية) «كل هذه الآيات ظرفية فيها كلمة الجهاد بالمعنى الحصري للقتال». وبعدها مباشرة يُطمئن الجهاديّين القَتَلَة قائلا: «هنا يَتّحد مفهوم القتال مع مفهوم الجهاد ». ولماذا يؤمن بالقرآن إذا كان يدعو للقتال؟ لا أدري لِمَ يُصرّ هذا الرجل على اعتناق الإسلام والإيمان بكتاب يحرّض صراحة على القتل.
الحل التالي هو حل كلاسيكي يلتجئ إليه الإسلاميون (المُعتدلون) أو الحداثيّون، لتبرئة الإسلام من العنف بتحوير معنى الجهاد من مادي إلى معنوي. والفيلسوف الصدّيق، كأنه قام باكتشاف باهر، يقول إن الجهاد المقصود هو «مجاهدة النفس، مجاهدة ما يسمى بالفرنسية (la force des choses)، ومن المجاهدة حَفْر الجبال لإنشاء نَفق، أو إنجاز سدود فهي أمور تفوت القدرة البشرية ورغم ذلك فالإنسان يجاهد ليُنجزها ». هكذا، بعد أن قال كل ما قاله عن القتل والحرب وسفك الدماء، وبعد أن استعرض آيات صريحة بشأنها، يقترح الآن لونا جديدا من الحلول، ولك أن تَختار، حسب ضميرك وطاقة فهمك: "الجهاد ـ القتال"، بما فيه جهاد النكاح، أو "الجهاد ـ المُسالم"، مجاهدة النفس.
إذا كان الجهاد هو حَفر أنفاق في الجبال واختراع دواء للأمراض الجينيّة، أو إرسال أقمار صناعية للكواكب، فإن أكبر المجاهدين هم العلماء الغربيّون، لكنهم لم يُسمّوا أنفسهم مجاهدين "في سبيل الله"، بل باحثين "في سبيل الإنسانية". ليس هذا هو الجهاد الحقيقي الذي يَعنيه المسلمون، الجهاد الحقيقي في الإسلام هو حمل السلاح في سبيل الله، يعني موضوعيا القتال في سبيل اللاشيء، لأن الله هو العدم.
الصدّيق يعرف أن المسلمين حملوا السلاح وغزوا وقتلوا وسَبَوا وذبحوا وأهلكوا الحرث والنّسل؛ وقفَ متفكّرا حائرا، ما السبيل الذي يختاره: جهاد ـ القتل أم جهاد ـ النفس؟ أنزل كلمات مهيبة؛ احتجّ وصرخ، وطالبَ بحقه في استخدام عقله والخروج عن المألوف من التفاسير: «إذا سألتني عن مكة والحروب فيها المذكورة في النص القرآني، هل هي من الجهاد وحمل السلاح؟ ». معلومة خاطئة، ونحن نستغرب كيف أن هذا العِرّيف، لا يعرف أن الحروب العدوانية حصلت في المدينة وانطلقت منها وليس من مكة، كما يزعم فيلسوفنا. وتلك الحروب كانت بالفعل "مِن الجهاد وحمل السلاح"، لأن الحروب لا تُشَنّ بالوُرود وإنما بالسيف. لكن الصديق يُطالب بحقه في إعمال عقله دون أن يَسلب الجهاديين حقهم في فهم آيات القتل على حرفيتها، وتفعيلها في كل زمان ومكان.
لقد أعمل عقله وتمعّن في المسألة وخرج علينا بمفهوم التأطير كحل لهذه المعضلة: «أنا بعقلي البشري وبقدراتي البشرية أعمل فيها باجتهادي، فالمسألة إذن مسألة تأطير ». والتأطير من شأنه أن يترك الخيارات مفتوحة: الإنسان المُسَالِم يجوز له تَقييد النص «بالزمان والمكان»، أما الجهادي السلفي فهو حر تماما في فهم النص فَهْمًا يُخرجه عن ظرفه الزماني والمكاني. أين يتموقع هو كفيلسوف؟ هل الآيات العنيفة التحريضية صالحة لكل زمان ومكان، أم أنها نسبيّة ظرفية؟ لا ندري، ربما نسبية؛ لا. ربما مُطلَقَة، قد تكون ظرفية ومطلقة في نفس الوقت. لا أفهم؛ حاولوا أن تحزروا أنتم من خلال هذه الجملة: «إن الله لا يتقيّد بحدود ولا بمراحل، فالزمن المؤقت بالنسبة إليه غير موجود، بدليل (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عمّا يُشركون). على عكس الإنسان الذي يعيش في الزمن ويتأثر بمراحله. هناك فلَكَان واضحان وضوح الشمس، الفلك الذي ليس فيه زمن وهو الحاضر الأبدي (الله)، والفلك الذي أعيش فيه ويحوي أزمنة الحاضر والماضي والمستقبل (الإنسان)، وأنا لا أتصرّف إلاّ في فضائها ».

3. امرأته حمّالة الحطب
---------------
ماذا نقول في سورة المَسَد؟ كيف يمكن أن نقبل بأقوال تُهين امرأة وتصفها بأنها تحمل على ظهرها الحطب، لا بل تُبالغ في حمل الحطب، "حمّالة الحطب"؛ وأنّ في جيدها حَبْل، وتصف بالتدقيق طبيعة هذا الحبل: أحرش، من لفائف خشنة، يعني من مَسد. هل يُعقل أن يَصدر هذا الكلام من الله؟ هل يستطيع إله الكون أن ينحدر إلى مستوى الإسلاميين الإرهابيين الذين يَسبّون النساء العلمانيّات وينعتونهن بالمومسات أو بأنهن "حمّالات الحطب"؟ أخلاقيا وإنسانيا لا يمكن أن نقبل بهذه الشتائم، وأكثر منه لا يمكن أن نقبل بأن الله ينزل إلى هذا المستوى، ويتخاصم مع امرأة تشتغل لكي تُؤمّن قُوتها وقوت أبنائها.
الصدّيق اقتحَم هذه الاشكالية بطريقته الخاصة، حيث أخرج عبارات سورة المسد من سياقها، وربَطها بسورة الإخلاص وسورة الفلق، ثم جمعها في وحدانية بارمنيدس وألقاها في نار هيرقليطس، مع المحافظة دائما على فكرة أن القرآن هو «نصّ عظيم أرسِل للناس جميعا هُدى ورحمة ». وكيف يكون هدى ورحمة للعالم أجمع، كتاب فيه شتيمة ضد امرأة مسكينة؟ الصديق يحلّ المسألة بتجاهل كلام الله وإهمال محتواه المربك، ثم يقترح قراءة جديدة، يصفها بأنها "مخالفة للسائد": «أتصوّر، في قراءة مخالفة للسائد، أن خالق الكون لا يمكن أن يهتمّ بحركة صغيرة مثل حادثة أبي لهب عمّ الرسول وزوجه أمّ جميل ».
لكن خالق الكون اهتمّ بهذه المرأة، وتدخّل في حياتها، وشتَمَها هي وزوجها، وهدّد أبا لهب بالنار، وأنزل هذا الكلام على نبيّه الذي قيّده في المصحف، ومِن يومها اعتُبِر وحيا إلهيا، وهو يُتلى في المساجد دون انقطاع منذ 1400 سنة، وسيبقي ساري المفعول إلى يوم الدين.
أمام هذه الورطة التجأ الصدّيق إلى الفلاسفة اليونانيين القدامى، حيث انتقى من سورة المَسد اسم "اللهيب" فقط وترك الفاعل والمفعول به: «إن تكرار كلمة "لهب" مرّتين هو إشارة إلى نظرية الإله الأولى وهي نظرية المصير، أو لنقل نظرية تحوّل الأشياء بصفة دائمة، كما تتحوّل النار باستمرار ». وهنا يدخل هرقليطس على الخط، وتُربط أفكاره بفيزياء الفُوتُون، حيث أن سورة الفَلق جاءت «بمَوْشُور (prisme) جديد أنظُرُ به مفهوم الألوهية. مَوْشُور تحوّل الدال كما في فلسفة هرقليطس، فلسفة الاستحالة الدائمة، كما يتحوّل اللهب (la flamme). إن هرقليطس نفسه يحكي عن اللهب أنه مؤسس الكون ومؤسس الوجود ». وبعده يأتي دور بارمنيدس: «إن آيات سورة الإخلاص ما هي إلاّ استعادة لمقولة فلسفية أُوحيت لمحمد بن عبد الله نجدها في قصيدة بارمنيدس وقد ترجمناها من اليونانية القديمة ».
الصدّيق يترك المسائل الشائكة التي يطرحها النص القرآني ويغوص في مشاكل جانبية، مقوّلا مثلا الاسلاميين ما لم يقولوه: «لقد انحصر مفهوم الرسالة المحمدية لعدة قرون، سواء عند خطباء المساجد ذوي الثقافة المتواضعة، أو عند علماء الدين الأكاديميّين، في النبيّ شخصا، وفي مكة والطائف والمدينة مكانا ». غنيّ عن القول أن أشرس ارهابي قتّال وجازٍّ للرؤوس في سوريا، وأعلم اخوانجي في جامعة الأزهر، وأكذب داعية وأكثرهم جنونا في الفضائيات الخليجية، لم يقل شيئا من هذا القبيل. كلهم، دون استثناء، مُجمعون على أن الرسالة المحمدية شاملة لكل زمان ومكان، وجاءت لهداية البشرية بأسرها، متجاوزة بذلك جغرافيتها ولحظتها التاريخية. يكفي إطلالة بسيطة على مؤلفات أعلام السلفية من حسن البنا، إلى المودودي، وقطب، القرضاوي، والغنوشي حتى نتبيّن أن بالنسبة إليهم الإسلام هو دين البشرية، لا سابق له ولا لاحق، ويجب أن يسود الكرة الأرضية كلها. وهذا في النهاية هو الموقف الذي اتخذه الصديق ملتصقا أشد الالتصاق بمقولات الاسلاميين والسلفيين والوهابيين على جميع أصنافهم: «تناسى هؤلاء العلماء، وأولئك الخطباء الآية: (وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين) ».
وهذا دليل على أن الإسلام عموما، ورسالة محمد خصوصا تشمل العالم أجمع ومُهمّتنا هي نشرها في أقطاب الأرض كلها: «إن المقصود بالعالمين ليس قوما دون غيرهم، فالآية تدعونا إلى أن نكون قادرين على إقناع مواطن القطب الشمالي، ومواطن إفريقيا وأدغالها، ومواطن آسيا وأحراشها ». ومَن مِن الوهابيّين لم يَقل هذا؟ مَن مِنهم لم يُبشّر بسيادة الإسلام على العالم؟ مَن لَم يَتطلَّع إلى اخضاع لدينه الاسكيمو والأفارقة وسُكان الأمازون؟ لقد شرّط الصديق دوام الدين الإسلامي بالدعوة الشاملة الكونية إلى درجة أنه، دون هذه الدعوة، ستفقد الرسالة أي مغزى، يعني أنها إذا انحصرت في العالم العربي، فهي ستُمحى سريعا من ذاكرتهم، خصوصا في الفترة التاريخية الراهنة التي يشهد فيها الإسلام انحدارا أخلاقيا رهيبا، سيقوده، إن عاجلا أو آجلا، إلى الاضمحلال .
والمسيحية؟ ألم تَدّع، قبل الإسلام بستة قرون، أن رسالتها هي رسالة شاملة للأبيض والأسود؟ واليهودية، من قبلها، ألم يُعلن أحبارها أن شريعتهم تامة كاملة شاملة نهائية، لن يتغيّر منها ولو حرف واحد، وستدوم مادامت الأرض والسماء؟ والبوذية والهندوسية والزرادشتية ومئات الأديان الأخرى ألم يؤكد علماؤها أن ديانتهم شاملة وعامة ودائمة؟
كيف كان ردّ الصدّيق إذن؟ نترك الإجابة إلى حين.

4. الرّجس على الآخرين
---------------
نَتدرَّج الآن في سُلّم الآخرين من الوثني إلى الموحّد. نبدأ بالآخر الوثني، أو المشرك، كما يسمّيه المسلمون: الدين الأوحد والأعظم هو دين التوحيد، دين العقل، الذي يتماهى مع الدين الإسلامي، وهذه أطروحة وهابية خالصة. الصدّيق يتبنّاها ويردّدها على حرفيتها. ولكن بماذا قدّمها؟ بالرّجس. ما الرجس؟ ومن أين استمد هذه العبارة؟ من القرآن، وبالتحديد من آية تتحدث عن شيء قبيح سيقذفه الله على البشرية اللاعاقلة: (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون)، هذه الكلمة الغير لائق التفوّه بها أو كتابتها يَعمد هذا الرجل لتفسيرها، رغم أنها بَيّنة بذاتها والجميع يعرف معناها: «الرجس هو الدّنس الأكبر »، والفاعل لهذا الدنس، بالطبع، هو الله، وهو الذي سيُلقي به على هذه الفصيلة من عباده.
لم يَكتف بالرجس على الذين لا يعقلون، وإنما أجراه على الذين لا يؤمنون، واستشهد بآية أخرى: (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون). وتفسيرها هو أن الإنسان الذي لا يَعقل، والإنسان الذي لا يؤمن كلاهما في نفس المُستنقع، ومضروبان بالرجس، أي بالنجاسة: «الجملة نفسها تتكرّر، ولكن الإيمان في فلك والعقل في فلك آخر. والرفض نفسه لهذا أو ذاك تكون نتيجته أن الله يجعل عليه الرجس من هذا أو ذاك ». لا مفرّ لمن لا يعقل القرآن ولا يؤمن بدين الإسلام إلاّ الرجس. تصوّروا، بهكذا منطق، وبهكذا عبارات جارحة قبيحة شرّيرة، يُريد هذا الرجل أن يُقنع الناس بمعقولية القرآن، وينشر الإسلام في أرجاء العالم أجمع، وصولا إلى الإسكيمو.
الدين الحق إذن هو الإسلام، والدليل على ذلك هذه الآية (إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بَغيا منهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع العقاب)، والصدّيق يستشهد بها في كتابٍ خصّصه لمفهوم الآخر في القرآن. والكل كان ينتظر من هذا الفيلسوف، المستوعب للفكر اليوناني والحداثة والتنوير والأنثروبولوجيا والفلك وكل العلوم التي نتخيّلها، أن يُريَه بصيصا من التسامح والانفتاح وإذا به يقول لأهل الكتاب، يعني لليهود والمسيحيين، أنْ ليس أمامهم إلاّ اعتناق الإسلام، وإنْ لم يَعتنقوه فإنهم كافرون بُغاة، والله سريع العقاب.
«الدين عند الله الإسلام »، هكذا يُعلّق الصدّيق، ثم يوضّح فكرته بأكثر تفلسف: «ليس الإسلام الطاعة والرضوخ للرسول محمد، بل الطاعة والرضوخ لله الواحد الأحد». ومَن قال العكس؟ ومَن مِن الوهابيّين والسلفيين لم يُعلن ذلك؟ الاسلاميون يرددون قولة أبي بكر: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
لكن الآية التي أردفها على تعليقه خارجة عن جوهر الموضوع ولا علاقة لها بالتسامح، بل منافية لهذه القيمة تماما، لأنها قمة الاقصاء وعدم الاعتراف بالآخر، وهي في وضوحها وبساطة عبارتها غير قابلة أن تُؤوّل على خلاف ما أوّله بها الاسلاميون عبر تاريخهم. الآية تقول: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)، ليس هناك من عبارات أكثر وضوحا في إقصائها وتعنيفها للآخر بصفة عامة من هذه. وقد مثّلت عبر التاريخ الذريعة التي يستخرجها الإسلاميون في حالة تَمكينهم، بينما في حالة ضعفهم ووهنهم، يُخْفونها، ويستظهرون بـ "لكم دينكم ولي دين". الصدّيق ماذا فعل؟ نكّل بالقارئ، أدخل في روحه الأسى والغبن، فالرجل يتحدّث عن الانفتاح والتسامح وإذا به يَلْطمه بِجَرْدٍ من الآيات العنيفة الواحدة تلو الأخرى. ثم يسحق الأديان بالقول إن «كل الأنبياء منذ آدم إلى الرسول محمد، كانوا يقولون إنهم مسلمون ذاك هو الإسلام وما بقي هو ملّة ». الإسلام إذن، في جدلية الصديق، هو المَنبع والأصل، أما الديانات التاريخية الأخرى فهي مجرّد مِلل، أو على أقصى تقدير توابع للدين الأصلي.
اللافت هو أن هذا الفيلسوف متيقّن ممّا يقوله عن الأنبياء وكأنه رافقهم أو كان يعيش بينهم ويسمع كلامهم واحدا واحدا، وشهد بإسلامهم، في الوقت الذي يعلم فيه كل العقلاء أن الأنبياء كذّابون، وأن الله غير موجود، والوحي خرافة، وأن الاسلام يُطلَق على دين ظهر في الشرق، في مكان ما، في القرن السابع ميلادي. أظن أن المفكرين الذين توجّسوا من هذا الرجل واعتبروه أخطر من الوهابي بألف مرة لم يجانبوا الصواب. لأن الوهابي واضح وصريح في مواقفه، لا يواري نصوصه ولا يخجل منها؛ لا يَلبس قناع الانفتاح زورا، بل يُسمّي الأشياء بأسمائها: يُقرّ ويَتباهى ويَعتزّ بأن الله أجاز له، بنصّ القرآن، ملك اليمين واستعباد الناس، أمَره بقتل كل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، عملا بقول الرسول "أمِرتُ أن أقاتل الناس .."؛ أجاز له أن يسْبِي الذراري، أن يثخن في الأسرى، أن يَجْبي الأموال ممّن بقي على دينه كرها وإذلالا. إزاء هذه الشرذمة لا حلّ ينفع إلاّ بمواجهتها واجتثاثها من مجتمعاتنا العربية، لكن مع الصّدّيق وأمثاله تغدو العملية صعبة، لأنهم يُخْفون هويّتهم، ويَتسربلون بسرابيل العلم، بينما هم يبثّون الفكر الوهابي العنيف قَطْرة قطرة، وإذا كَشفْتَ ألاعيبهم ونبّهتَ عن اخلالاتهم الفكرية، يَنهالون عليك باللّوم، ويَتّهمونك بأنك تَتصدّى لمن يحاربون الاسلامين المتطرّفين وأنك تقدم للسلفيّين خدمة جليلة.
أظنّ أن أصْوَب ردّ عليهم هو عرض أفكارهم، بموضوعية، من خلال صريح نصوصهم، وبَسْطها للقراء الذين انخدعوا بهم، خصوصا الشباب، لأن من شأن أفكارهم، في نهاية المطاف، أن تُغذّي التطرّف بدل أن تخمده؛ فهي تُربّيه حتى ينضج ويعطي أكله في وقت لاحق؛ تؤخّر مفعوله دون أن تَقضي عليه.

5. الحوار بعد الرّجس
--------------
بعد أن قذف البشرية اللامؤمنة بالرجس، التفتَ إلى اليهود، وهم العنصر الأول الذي يَفتتح به المسلمون هجمتهم الشرسة على الدّينيْن السابقيْن، دائما على أساس نص القرآن. مَن هم بنوا اسرائيل؟ ما شأنهم بالله وما علاقتهم بالوحي؟ يُجيب السيد الصديق: «بنو اسرائيل منهم رُسل ». وهذا أمر مفروغ منه؛ معلومة بسيطة سطحية يعرفها الجميع. وبعد؟ «كانوا المفضّلين على العالمين بدليل الآية (يا بَني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمتُ عليكم وأني فضّلتُكم على العالمين) ». هذه شهادة مجانيّة من خالق الكون لصالح مجموعة بشرية اعتقدت دائما بأن الله اختارها، وفَضّلها، دائما مجانا، على كل مخلوقاته العاقلة في كل زمان ومكان. والقرآن، عوض أن يستنكر هذا التحيّز اللامعقول، أكّده وركّز عليه في غير موضع، مُستعيدا بذلك فكرة الشعب المختار اليهودية على حرفيّتها.
ولقد أحْرجتْ هذه الشهادة القرآنية المسلمين عبر تاريخهم، لكن الصدّيق لا يتحرّج لأنه يَبتلع كل شيء ويهضمه، دون فَرزٍ أو تمعّن. لا تعني له شيئا، لأنه لو آمن بها، وآمن بالقرآن بجدّ، لتحوّل للتوّ إلى الديانة اليهودية ولبادرَ بالانضمام إلى هذه "الأمة المختارة"، حسب زعمهم وزعم القرآن. لكنه يكذّب القرآن، لأن القرآن يكذّب نفسه بنفسه، والصدّيق لم يفعل إلا أن أذعن للأمر الواقع. فعلا، بعد أن كانوا شعب الله المختار، تمّ تَنْسيب هذا الاختيار: «لكن هذا التفضيل وهذا الاصطفاء لشعب "مختار" أصبح نسبيّا». والدليل؟ القرآن، وتحديدا هذه الآية: (ولقد آتينا داوود وسليمان علما، وقالا الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من عباده المؤمنين). هذه الجملة البسيطة جدا، والتي تُثني على رجلين يهوديّين، داود وسليمان، أصبحت بين يدي الصدّيق دليلا ثابتا على تحوّل كارثي في تعامل الله مع بني اسرائيل. لقد بدّل رأيه من لحظة لأخرى، الصديق استعمل عبارة سياسية "سَحْب الثقة"، مثلما يَسحب نوّاب البرلمان الثقة من الحكومة بسبب خلافات سياسية. الله تعامل مع اليهود بهذه الطريقة: لم يسحب منهم الثقة حينما استشعر كُفرهم، وإنما داعبهم قليلا؛ تَربّص بهم وانتهج سياسة المراحل، وهكذا « حصل التدرّج في سحب الثقة من بني إسرائيل خاصة بعد عبادتهم العجل، فقتَل موسى مَن قتَل، وغضب عليهم وكسّر الألواح كما ورد في التوراة ومثلما أثبته أيضا النص القرآني ». واللعبة متواصلة، بعد أن قتل من قتل وغضب على من غضب: «تاب عليهم ».
وانتهت القصة هنا، وعاد الوئام والمَحَبّة بين الطرفين: شعبٌ مُختار وربٌّ وَدُود. وفعلا هكذا كان الأمر بالنسبة للصدّيق، إذ أن الله، بعد أن أهانوه وعبدوا عجلا، كافأهم بهديّة ثمينة: أعطاهم أرض كنعان وجعل منهم أنبياء وملوك: «ولمّا دخلوا إلى أرض الميعاد (كنعان) حسب التسمية التوراتية (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين) ». القرآن لم يقل أرض كنعان، ولم يذكر ولو مرّة واحدة اسم الكنعانيّين (الفلسطينيين القدامى)، هذه إضافة من الصدّيق، القرآن استعمل "الأرض المقدسة". ولم تستثر فيه أيّ حيرة أو تساؤل؛ لم تفزعه هذه الكلمة النابعة من روح اليهودية: "الأرض المقدسة" التي انتزعها الله من سكّانها الأصليين ومَنَحَها مَجّانا لليهود. كلام واضح شفاف لا لبس فيه، وهو نابع من جذور التوراة: أرض مقدسة، وهي فلسطين، أعطاها للشعب المختار كهديّة، أما السكان الأصليين فلا ذكر لهم بتاتا، وكأنهم لم يُوجدوا عبر التاريخ، وكأنّ ذلك البلد كان أرضا بُورا خالية تماما من الفلسطينيّين حتى جاء وعد الله لبني إسرائيل.
الصدّيق لم تستوقفه هذه الأقوال الخطيرة، لأنه مهموم بضرب الديانة اليهودية ونزع مشروعيتها لصالح إسلامه، رغم أن القرآن يؤكد العكس: يُثني على كتابهم، يُمجّد أنبياءهم، ويُجذّرهم في أرض ليست بأرضهم، بقرار إلهي خالد. بنو اسرائيل، يقول الصدّيق، أصبحوا «ملوكا وأنبياء مثل داود وطالوت»، وبعدها غيّر الله رأيه، أبطل كل أحكامه، ومثل المجنون أنهى دورة بني إسرائيل استعدادا لدورة أخرى، ستنتهي هي ذاتها، كما هو متوقّع، بفشلٍ ذريع. فعلا بعد كل المحبّة والحضوة والهبات الرائعة «انتهت دورة بني إسرائيل بصفة دقيقة جدا مع سليمان حين خلط في نفوذه "مَلكا"، وحالته ومنزلته "نبيّا" ». يعني، بلُغة عربية فصيحة: حينما خلطَ سليمان بين المُلك والنبوّة، أي بين السياسة والدين، عاقَبَه الله عقابا قاسيا. فيما يتمثل هذا العقاب؟ في هوس جنوني، يردّ الصّديق، وبكل وثوقيّة: «إذ يرى فوق كرسيه جسدا آخر».
والسبب في ذلك أن هذا النبي العبري، لم يكتف بخلط الدين والسياسة، بل إنه قام بأفعال شريرة قبيحة، حيث استهزأ بملكة سبأ وكذبَ عليها وتلاعب بالمخلوقات العاقلة واللاعاقلة، كما يقول الصدّيق: «لأنه اعتدّ بنفسه وأصبح يُسيِّر مخلوقات الله ويَتلاعب بها، ومنهم ملكة سبأ ... لقد كان يستهزئ بملكة سبأ، وقال إنه صرح مُمرّد من قوارير يعني ليس حوض سباحة ». هل هذا نبيّ؟ هل تنطبق عليه مواصفات رجال الله من الأنبياء؟ ألسنا هنا أمام شيطان خبيث كاذب مارق مخادع يتلاعب بطبائع الأشياء؟
من الأكيد أن اليهودي، المؤمن بدينه والقارئ لتوراته، لو اطّلع على تخريجات هذا المفكر المسلم وقفزاته التأويلية لتَملّكه العجب ولأستغرب من الطريقة التي يشوّه بها هذا الفيلسوف، دينه ودين آبائه. وفعلا، قد استشنع اليهود التوراتيّون هذه الرواية القرآنية، كما قال ابن كمونة، لأن سُليْمَانهم يختلف عن سليمان المسلمين: «ومِنْ أشْنَعه عندهم قصة سليمان. فإن اليهود نَقَلوا أحواله التّفصيليّة: في طعامه وأمواله، وعدد نسائه، واصْطبلات دوابّه، وسنوات مُلكه ومُدّة عمره، وكثيرا ممّا ذكَرَ من الحِكَم والأمثال، وما عَمّر من البلاد وغيرها، وأمورا كثيرة مما يتعلّق به ». ومع ذلك فإنهم لا يشكّون في أن القصة التي رواها القرآن «لم تقع؛ ولو وقعتْ لكان نَقْلُهم لها أولى من نَقلهم لغيرها، لا سيّما وهم يرومون تعظيم شأن سليمان، لكونه من ملوكهم، وعلى دينهم ». لكن ابن كمونة لا يعلم أن القصة التي رواها القرآن موجودة في التلمود، وأن القرآن لم يذكر سليمان العهد القديم، عن قصد، لكي لا يكشف اقتباسه، ولذلك لجأ إلى أساطير مَدفونة في أدبيّات التلموديين.
الصدّيق لا يعبأ باليهودي ولا بالمسيحي ولا بمشاعر أهل الأديان الأخرى، ولا يُقيم وزنا حتى للفلسفة التي تخصّص فيها، وما انفكّ يتباه بأنه ضليع فيها، ومُلِمّ بأسرارها. فهو سائر قدما في طريقه، يَقتلع بضرباته العشوائية كل الديانات التي تعترضه، لكي يصل أخيرا إلى البشارة العظمى، دين الإسلام.
لكن عوض أن يَلفّ ويدور، ويَصْعد إلى سماء الخيال ثم ينزل إلى قاع الجحيم، ويُرهق قارئه، كان بإمكانه أن يُقصّر الطريق ويَنصرف مباشرة إلى جوهر الموضوع، ويقول: اليهودية انتهت، والمسيحية ماتت، وأن الإسلام هو الدين الصحيح؛ رُفتْ الأقلام وجُفّت الصّحف. إنه لو فعل ذلك ليسّر الأمر على القارئ، ولوفّر على نفسه كل الأتعاب التي تجشّمها، والجولات الشاقة بين قدماء الفلاسفة، والتسكّع في دهاليز الفيلولوجيا المزوّرة والتاريخ المشوّه، ولَفَهمَه الجميع: عقلانيون وسلفيّون.
لكن الرجل أبى إلاّ أن يُشقي نفسه ويُعذّب معه القارئ، ويجرّه إلى هوسه الديني، الذي لا يستقيم إلاّ إذا تهجّم على الدينين السابقين. لقد وصل به الحنق إلى درجة اتهام اليهود بأنهم حرّفوا القرآن. لم أصدّق ما قرأت، وتمنّيت أن أكون أمام خطأ مطبعي، لكنني واقعيّا لا أستغربها من شخص مثله موهوب بصناعة الأساطير، وبتخليط الأفكار والتواريخ. القول بأن اليهود حرّفوا القرآن، هي تهمة غريبة جدا، فضلا عن أنها تجديف محض، جنون خالص، وكأن السابق بمقدوره أن يُحرّف اللاحق، وكأنك قلت إن أفلاطون حرّف هيجل أو أن أرسطو حرّف ابن رشد. هذا الخور، أقول، هذا الاستهتار لم يجرؤ على التفوّه به حتى السلفي التفجيري، لكن الصدّيق قاله وأكّده، مُدرِجًا إياه في شبكة تأويلاته المعقدة. فعلا، المسلمون كافة يعتقدون أن اليهود حرّفوا توراتهم، وفقط توراتهم، إلاّ واحدا شذّ عن القاعدة، وهو الفيلسوف يوسف الصديق الذي ذهب أبعد من ذلك، واتّهمهم بأنهم قاموا بشيء أفظع: «إن اليهود هم الذين حرّفوا القرآن ». تصوّروا إلى أي مستوى من الجنون انحدر هذا الرجل. إن السلفي أمامه أكثر انسجاما ومحافظة على مبادئه، وأكثر تقيّدا بحرفيّة قرآنه، لأنه يَحصر مسألة التحريف بين اليهودي وكتابه، لكن عند الصديق الإدانة تتمدّد حتى تصل إلى منطقة خطيرة: تحريف القرآن، يعني تهمة مضاعفة، تحريف التوراة وتحريف القرآن معا. لكن لا واحد من السلفيين، مهما وصل جنونه، مستعدّ أن يقبل بهذا، فهو لا يتّهم اليهود بتحريف القرآن وإنما يتّهم الشّيعة بتحريفه، ولذلك فهو يفجّر نفسه في الحُسينيات وفي مساجد الشيعة ويحصد الأرواح حصدا.
الصدّيق، لكي يُثبت انفتاحه وتسامحه استشهد بآية عديمة التسامح والانفتاح: (لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا .. الآية). تذكّروا أن هذه الخواطر نزلت في كتاب بعنوان: الآخر والآخرون في القرآن، ألّفه فيلسوف عقلاني تنويري منفتح، لكي يثبت أن القرآن هو كتاب عظيم صالح لكل زمان ومكان. ومع ذلك فإن هذه الآية العنيفة لم تُوحِ له بشيء، تجاوزها وانقضّ على السّلفيين وتنرفَزَ عليهم: «إن هؤلاء السلفيين لا يَرون من علاقة مع اليهود إلاّ بمعيار واحد ثابت مطلق لا تاريخي، تلك هي علاقتهم بالآخر ». لكن موضوعيا، هل يحقّ لمَن يُؤمن بالقرآن ككتاب عظيم مملوء فلسفة وعلما وحكمة، أن يُنَسِّب آية "لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا ..."؟ كيف يمكن لمفكّر تقديسي، مثل يوسف الصدّيق، أن يتملّص من استتباعات هذا القول؟
رغم استشهاده بهذه الآيات فهو يتراجع ويقول إنه لا يتبنّى «القراءة الخطية آية آية. إن مثل هذه القراءة لا تؤدي إلاّ إلى الخطأ». كيف يقرأ القرآن إذن؟ كيف يتجاوز مشاعر العنف والاقصاء التي يعج بها النص المقدس؟ عن طريق علم الفلك: «أنا من القرّاء من يؤمن بضرورة أن يُقرَأ القرآن كما يَقرأ الفلكي صفحة السماء». وهنا يدخل على الخط زغلول النجار بِعَباءة الفيلسوف يوسف الصدّيق: «لقد أثبتَ علم الفلك الحديث والمعاصر أن نور نجمة من النجوم ربّما يَصِلك وقد انقرضت تلك النجمة وانتهت من الوجود، ولكن مدّة سفرها إلى العين المجرّدة تواصل حتى انتهت إلينا لقد أصبحت بانقراضها بؤرة سوداء ».
وما النتيجة التي نحصل عليها من هذه الجولة الفلكية؟ النتيجة هي أن هناك آيات بقي نصّها ونُسخ حكمها، فكرة موجودة في كل كتب التفاسير والفقه والكلام: «هناك آيات لا بد أن نعتبر أنّ بريقها وصَل إلى الأعين الآن ولكن فعلها غير موجود سواء حقيقة أو اعتبارا ». هل يريد أن يقول إن آية (لتجدنّ أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود .. الآية)، انقرضت ولم يَبق منها إلاّ الكتابة في المصحف؟
هب أن الأمر كان كذلك، ماذا نفعل بالآيات الأخرى التي يزخر بها النص؟ آيات القتل والتحريض والكراهية من قبيل: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله .."، أو "إذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين... "؛ والشتائم مثل "وامرأته حمالة الحطب .." وتشبيه البشر بالحيوانات: "كالكلب إن تحمل عليه يلهث"، بل والسخرية من الحيوانات نفسها "إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير"؟ إنْ قال إنها كالنّجمة التي انقرضت، فقد انقرضت ثلاثة أرباع القرآن، ولم يبْق منه إلاّ آيات سجعيّة من قبيل "والنازعات غرقا فالموريات قدحا.."، وما شابهها من قصار السور، التي لا تفيد القارئ بأي معلومة، غير التلاعب بالألفاظ والقافية الشعرية.
لكن الرجل متأرجح في تفكيره، لا يصمد على رأي واحد إذا بَهرَك بانفتاحه في صفحة ما فإنّه في الصفحة الموالية يصدمك بانغلاقه وتعصّبه. والسبب في ذلك هو أنه اسلاموي تقديسي ومن المستبعد جدا أن يتجرّأ على الخروج من سياجه الإيماني، فمعتقده الأول والأخير، والذي لا يساوم عليه أبدا، هو أن القرآن كتاب عظيم، وبالتالي لا ينطق عن الهوى، وهذا الحكم ينطبق على كل القرآن وليس على نصفه أو ربعه.
ولإدامة التخبّط ونشر البلبلة اصطنع تأويلا آخر: التّمييز بين التلاوة والقراءة. لا يمكن، في رأيه، أن نعرف الآخر من خلال القراءة العفوية للقرآن دون البحث عن معنى، فالقراءة يجب أن «تؤدي إلى معنى ». هذه القراءة الصحيحة تختلف عن التلاوة «لأنها لا تؤدي إلى معنى، بل تكتفي ببيان المناسك والواجب والفريضة ». هل يعني ذلك أننا نرفض التلاوة ونتخلى عن المناسك؟ اطلاقا. لو فعل ذلك لما عدّ نفسه سلفيا أكثر من السلفيين أنفسهم. المسألة هي مجرّد مناورة لكي يَسهل عليه تَنويم القارئ وإخماد حسّه النقدي. المَنسك هو أمر مُقَرّر في الشريعة، والشريعة لا يمكن المزاح معها: «المنسك هو حاجة أوتاميتيكية آلية لا بدّ أن تؤدّيها بحذافيرها وبطريقتها الجماعية التي قُرّرت من أصحاب العبادات والفقهاء وترسّخت عبر السنوات ».
القول القرآني إذن، هو قولان: قراءة وتلاوة، التلاوة لا تفيد أي معنى، بينما القراءة تفيد معنى جليلا. وقد أثبت هذا التمييز السحري نجاعته في حوار أجراه السيد الصديق على راديو (فرانس انتر)، يرويه على هذه الشاكلة: «وقد بيّنتُ مثل هذا الموقف ذات يوم في باريس في إذاعة (France inter) إثر عمليّات الإرهاب التي حدثت في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. سُئلتُ يومها كيف يمكن أن يَقرأ في الأرض الفرنسية رجل دين مسلم الآية مع مجموعة من الناس تستمع إليه (لتجدنّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود ...)؟».
إذن، قضيّة الارهاب الإسلامي كانت مطروحة على الصدّيق منذ زمن بعيد، منذ الثمانينات من القرن الماضي. ومن خلال هذا الاعتراف يَتبَدّى أن تأويلاته الهوائية، واستماتته الغريبة على انقاذ القرآن، حاضرة منذ تلك الفترة، ولم تكن وليدة الصعود الراهن للإرهاب الإسلامي على المستوى العالمي، وأن الرجل لم يَتزحزح عن مواقفه ولم يُغيّر من رأيه، بل لم يتقدّم، في سبيل تحرير عقول الشباب من الخرافة والعنف، قيْد أنملة.

6. تأويلات البراءة
------------
المفروض أن يردّ الصديق، على سؤال الصحفي، بوضوح وشفافية، ويقول إن هذه الآية ومثيلاتها مُنافية لحقوق الإنسان، وأنها تحرّض على العنف ضد الآخر، وتدعو للإقصاء، وأنها لم تنزل من عند الله، وأنه، كفيلسوف متشبّع بالحكمة، يرفض أن يعتقد بأن الله تفوّه بمثل هذه التعابير التي تُبدي حُنقًا وكرها لعباده، وأن أي كتاب في العالم، مهما كانت قداسته ومهما كان عدد مؤمنيه، مُدان إن عُثِر فيه على تعنيف من هذا القبيل.
كيف كان ردّ الصديق؟ رجل يقدّس القرآن لا تترقّبوا منه أن يُفرّط ولو في كلمة واحدة، أو يتملّص من تلك العبارات الجارحة والأحكام القاسية التي يُرتّلها المسلمون يوميا في صلواتهم. أقصى ما يمكن أن يُقدِم عليه المسلمون، في رأيه، هو أن يتفكروا في علم الفلك، وفي النجوم والثقوب السوداء: «وضّحتُ لهم أن هذه تلاوة صلاة، لأن الصلاة تفرض على الإمام أن يختار المقطع الذي يُعجبه، سواء سورة قصيرة مثل الكوثر أو الإخلاص، أو مجموعة آيات من أي سورة شاء، إذن لا نلومه لأنه بصدد تلاوة القرآن في ممارسة شعيرة الصلاة ». يعني التلاوة هي: "اكتُبْ على الحوت وسيّبْ في البحر"، أما القراءة فهي: "مسمار في حيط". استعملُ مثلا تونسيا. بعبارة أخرى: التلاوة كزَبَد البحر، ذاهبة جفاء، والقراءة هي ما يمكث في الأرض وينفع الناس. إن إمام جامع في باريس أو لندن أو فراكفورت «لو قرأ في خطبة جماعيّة وقال إن القرآن يقرّ أن اليهود أعداؤنا، إذا تمّ ذلك، لك أن تلومه وتُعاقبه وتقول إنه يؤلّب الناس على بعضهم بعضا »، لكن ما دام يُصلّي بها داخل الجامع فلا حرج عليه ولا بأس على المصلّين الذين يستمعون إليها، لأنها ذاهبة في مهبّ الريح.
هكذا، إلى هذه الدرجة وصلت المهزلة وعبثية التبرير واللعب بأذهان المسلمين. ألم يكن من الأهون عليه، عوض أن يُبدّع بحاله ويُوقِع القارئ في شدّةٍ من الهمّ والوساوس، أن يُقصّر الطريق ويرفض هذه الآيات، قراءةً وتلاوةَ؟
لقد زعم السيد الصديق أنه أقنعَ الصحفيين الفرنسيين وكل من استمع لتلك الحصّة، بهذه الكلمات البسيطة، وفقط عن طريق التمييز بين التلاوة والقراءة، استطاع الخروج من المأزق سالما، لكنه لم يطرح على نفسه سؤال: كيف يمكن لشخص أن يُصلّي ويخشع لله، بقراءة آيات حربية قاسية، جارحة ومهينة ؟ وهذه المعضلة مطروحة أيضا على الباحث المغربي سعيد ناشيد الذي ادّعى في كتابه "الحداثة والقرآن" أن «القرآن خطاب تعبّدي خالص »، ولا دخل له بالنحو والصرف والفلك والبيولوجيا، الصّديق بدوره يميح إلى هذا الرأي ويرى أن القرآن هو كتاب مَجعول للعبادة، وفقط للعبادة. لكن مرة أخرى لا تعتقدوا أنه تَخَلّى عن الحمولة الاقصائية العنيفة في القرآن، فهو يعود في لمح البصر إلى صورته الأولى، إذ بعد أن شبّه تلك الأقوال القاسية بالنجوم والثقوب السوداء، ماح إلى الاقتصاد والقانون، وقال إن الآيات العنيفة ضد اليهود لها مشروعيتها، حتى وإن كانت مشروعية مقيّدة بزمانها. والطريقة التي بسط بها هذه المشروعية الظرفيّة كانت أشد نكالا: لا تملّصا وإنما تَبَنٍّ وإصرار حتى الموت. وكيف لا تكون أحكام القرآن مبرّرة وهؤلاء اليهود، في رأيه، آمنوا بأنهم «الشعب المختار، ومَن يقتنع بأنه مختار من الله، لا يؤمن بأن الشعوب الأخرى قادرة على أن تتمتّع بالقانون العام ». والمسلمون، أليسوا شعب الله المختار الجديد؟ ألم يأت في صريح النص: "كنتم خير أمة أخرجت للناس"؟
لقد غيّب هذا الاعتراض لأنه بديهي بالنسبة إليه أن يكون المسلمون خير أمة أخرجها الله للناس، وأن يقتلعوا اليهود من مكان الصدارة. فاليهود، حسب منطق الصدّيق، لم يكتفوا بتحريف قرآننا، بل إنهم تجاوزوا كل الحدود ولَعبوا بأرزاقنا وأقوات أبنائنا، وبالتالي «فهم أعداؤنا وفق منطوق الآية، هم الذين قرّروا أن يكونوا أعداءنا ». لكن هذا الحكم لم يُصرّح به في الراديو الفرنسي، ولو فعل ذلك لانْتَفض عليه الصّحفيّون، ولطَردوه حالاّ أو طلبوا له البوليس، وإنما كَتبَه في تونس، بعيدا عن البلد الذي نَهل منه العلوم وتتلمذ على أكبر فلاسفته. هذا العداء المعمّم لليهود مَنبعه القرآن، والصدّيق يُجاري منطوقه صراحة، ومع ذلك فهو يملك الجرأة للقول إن القرآن «لا يحث على العداوة، أو أنه يضع الآخر في موقع العدو، وإنما الطرف الآخر هو الذي يضع نفسه في موضع العداوة. هذا ما قاله القرآن تحديدا ».
والصدّيق لا يجرؤ على معارضته، أو الشك فيه، فإذا صرّح به القرآن فلا مندوحة من التصديق به ولا ضير في إعادة طرحه واسناده بعلم الاقتصاد والحقوق. اليهود يعيشون خارج القانون، بحكم تقوقعهم وعنصريّتهم، واستخفافهم بالشعوب الأخرى، لا يمكن أن نتعامل معهم أو نُقيم معاهدات، سواء كتابيا أو شفويا. هذا ما قاله القرآن وبالتالي صحيح، صادق، حقيقي. اليهودي إذا أمَّنتَه على مالٍ، يقول الصديق «لا يؤدّيه إليك لأنه يعتقد أنه ليس من الضروري أن يُعيده ». أما المسلمون والمسيحيون فإنهم يعتقدون أن العدالة تنسحب على جميع الناس مهما كانت ديانتهم «فإذا أقرضتني دينارا أو قنطارا بحكم عقد سواء أكان شفويا أم مكتوبا فأنا أؤدي إليك هذا الدين في وقت مسمّى ».
هل أقرض الصديق دينارا واحدا ليهودي ولم يردّه إليه؟ هل احتكّ باليهود وتعامل معهم ماليّا؟ كيف له أن يطلق حكما قيميّا بهذه الخطورة على اليهود أجمعين ويتّهمهم باختلاس أموال الناس؟ وكيف لا تعمل هذه الادعاءات على جرح احساس المواطنين اليهود في تونس وفي البلدان العربية، وتُحسّسهم بالدونية، وتدفعهم إلى الفرار إلى إسرائيل؟ إن هذه الخاصية المزعومة لليهود، التي أكد عليها القرآن في هذه الآية، والتي نعثر عليها في كل الكتابات الكلاسيكية المعادية لليهود، ينبغي لكل من يملك حسّا إنسانيا مسالما أن يرفضها، لأن التعميم هو أمر مناف للواقع التاريخي والاجتماع البشري، إذ يكفي أن تجد يهوديا واحدا يشذ عن القاعدة حتى يسقط هذا الحكم تماما. المعضلة الكبرى تكمن في أن هذه الأحكام نابعة من نص ديني مقدّس، يؤمن الجميع بسرمديّته، وبأن أي كلمة فيه تُعتبر وحي نازل مباشرة من الله. المفكّر الجدّي ليس أمامه من خيار إلاّ الرفض والاستنكار، لكن الصدّيق لا يرفض ولا يستنكر وإنما يلعب على الحبلين: على التّنسيب من جهة، وعلى السرمدية من جهة أخرى. يبثّ سمومه ويُفرغ كل ما في جعبته من عداء واهانات لليهود، ثم بعد ذلك يقول: كلا! لستُ أنا الذي يقول ذلك، القرآن هو المسؤول، منطوق الآية هو الذي قرّر ذلك، وأنا مراقب خارجي أكتفي بسَرْد ما هو موجود.
ولقد أتاحت له هذه الذريعة المضيّ قدما في تجريح اليهود والتوسع في ثلبهم وإهانتهم: إن خداع اليهود وتصرفهم الخارج عن القانون، يقول الصدّيق، يصفه القرآن «بالقول (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأمّيّين سبيل)»، ويفسره بأكثر دقّة ووضوح: «نحن نأخذ المال ونُعيده وفق منطق قانوني لكن هذا المنطق لا ينسحب على الأمّيين. إن مثل هذا السلوك من اليهود لا يمكن أن يرضى عليه أي إنسان مهما كان موطنه في الكرة الأرضية وسيقول هؤلاء عن ممارسة اليهود تلك: إنهم أعداء ».
أرأيتم هذه التهمة الخطيرة وهذه التبريرات الواهية المتعنّتة؟ أرأيتم كيف يستطيع نصٌّ دينيّ أن يُحوّر طبائع الناس ويَمسخها؟ كيف يَجعل من إنسان مسالم ووديع في الحياة اليومية، مثل الصدّيق الذي لا أظنّه تعدّى على مواطن تونسي يهودي، كائنا مخادعا، كاذبا، متناقضا، مسعورا، كارها للبشر (ولا أستثني أي كتاب مقدس). إن هذا الفيلسوف العرّيف المنفتح، مُجاراة للقرآن، يُعمّق الفرقة بين البشر ويبث روح العدوانية والاقصاء والعنصرية على أساس حوادث مشكوك فيها، ومواصفات لا تنسحب على جموع اليهود.
لكن تقولون: كان بإمكان السيد الصديق أن يُنَسِّب منطوق هذه الآية وأن يحصر الآيات الأخرى الجارحة المهينة في ظرفها التاريخي؛ أن يقول صراحة، إن هذه الأحكام تجاوزها الزمن، ولا داعي لإثارتها، بل ينبغي أن تُحذف من نص القرآن. وأكثر من ذلك، لو أراد، من مَوْقِعِه كفيلسوف عقلاني يوناني تنويري، أن يكون جذريّا في حلوله، لاقْتَرَح الحلّ الأمثل، ألا وهو التخلّص من القرآن نهائيا، عدم الاقتراب منه، نسيانه تماما، مثلما ينبغي نسيان كل الكتب "المقدسة" الأخرى، والاكتفاء بالعلم والفلسفة والأخلاق والأدب والفن.
لا هذا ولا ذاك، لا تَنْسِيب ولا نِسيان، وإنما استعادة النص المقدّس بقضّه وقضيضه: «علينا أن نقرأ القرآن في ظرفه التاريخي، وعلينا أن نؤرخ لنزوله. هذه مهمة القارئ وليست مهمة القرآن لأنه ليس بالكتاب التاريخي وليس بالنص التقريري ». بعبارة أخرى: نحن نُنَسّب، والقرآن يُطلق، نحن نؤطّر والقرآن يحرّر. وهكذا يعيش المسلم في شرخ ذهني طوال حياته، مُشتّتا بين نص مقدس لا يَخضع للتّزمُّن، وبين عقل إنساني محدود، يَجري وراء وهمٍ. هذا هو النّفق المظلم الذي يريد القرآنيون أن يُولجوا فيه الانسان العربي.
والصدّيق، من جهته، بعد أن أحدثَ هذه البلبلة وأفرز كل أحقاده على اليهود وإهاناته لهم ولدينهم، يَنتفض على المسلمين ويُعيّرهم بجهلهم، قائلا «إنّ فَقْرَنا في معرفة الآخر اليهودي فقرٌ مُدقع ». هكذا، إذن، بعد كل ما قاله عنهم، وبعد اتّهامهم بتحريف القرآن، والادّعاء بأنهم يسرقون قوت أبنائنا ولا يُرجعون إلينا أموالنا، يرتدّ ويؤنب المسلمين على فَقرهم في معرفة اليهود. ولكن هو شخصيا ماذا قدّم للخروج من هذا الفقر؟ القرآن، واختار منه، مرة أخرى، آية تهجّمية مُهينة: (ومنهم أمّيون لا يعلمون الكتاب إلاّ أماني وإن هم إلاّ يظنّون). ما معنى هذا القول؟ نَبيّ من المفروض، حسب كُتّاب السيرة، أنه عربي لا يعرف كُتب اليهود ولا تفاصيلها وإذا به يُظهر نفسه وكأنه عارف بخباياها وتفاصيلها أكثر منهم لدرجة أنه يُعيِّرهم بجهلهم. ألا يطرح هذا تساؤلات عن هويّة قائلها؟
الصدّيق لا يتوقف، ولا يطرح أسئلة في المَوْضِع الذي ينبغي فيه طرح الأسئلة، لأنه مهموم بأشياء مصيريّة. لقد أردف هذه الآية بأخرى أكثر تهجّما وأبلغ عنفا: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء. قل: مَن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تُبدونها، وتُخفون كثيرا، وعُلّمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم. قل: الله، ثم ذرهم في خوضهم يلعبون). في مَن تُخاطب هذه الآية؟ هل اليهود بهذا القدر من الجهل والعماء لدرجة أنهم يُنكرون النبوّة؟ أليست اليهودية مَبنية على فكرة النبوّة والوحي؟ كيف يتّهمهم بأنهم تَخلّوا عن عقيدتهم إلى حدّ نكران الهيكل الحامل لدينهم؟ إن أجهل يهودي يعرف أن الله كتب الألواح لموسى بإصبعه، وبالتالي فالمعلومة التي يوردها القرآن من أن الله أنزل على موسى كتابا، هي بالنسبة إليهم خاطئة، لأن يهوه لم يُنزِل شيئا وإنما أعطى ألواحا لموسى، كاملة جاهزة، كتبها هو بإصبعه كما يقول العهد القديم. لكن من الأكيد أنّ الذين يقولون "ما أنزل الله على بشر من شيء"، هم ناكروا النبوة جملة وتفصيلا، الذين لا يؤمنون بأن الله اتصل بشخص مهما علا قدره، وأن هذا الاله هو من العلو والبعد عن الإنسان بحيث لا يدخل في أيّة علاقة مع أيّ واحد من البشر. وهذا في الحقيقة هو موقف التأليهيين، من صنف فولتير وروسو، وليس المؤمنين من يهود ومسيحيين.
لا سؤال من طرف فيلسوفنا ولكنه يسترسل في الاتيان بالآيات الواحدة تلو الأخرى لتبرير تهجمات القرآن على اليهود. هذه المرة نزل في مُستنقع التّحريف: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون). وهذا أيضا من المستحيلات السبع لأن اليهود يقدسون التوراة، كما يقدس المسلمون القرآن، لدرجة أنهم يَمنعون أي أحد من الاقتراب منها ولمسها، فكيف يتجرّأ أحدهم على كتابة خواطر شخصية والقول بأنها صُحف مقدسة ووحي من عند الله؟ وأكثر من ذلك يَسترزقون منها ويكسبون أموالا على كاهل ضعاف العقول؟ ربما يقصد الأحبار الذين يؤوّلون التوراة شفاهيا ثم بعد ذلك يجمَعونها في أسفار التلمود. لكن هذه مشكلتهم الخاصة بهم، وهم راضون بما يفعلون وأحرار في تفسير كُتبهم كما يشاؤون، وإذا أردنا الدقة، القرآن هو أوّل من استغلّ التراث التلمودي لكي يؤسس الدين الجديد.
هذا لا يمنع، على أية حال، من أننا أمام اتهامات خطيرة تُكال بالجملة، فضلا عن أنها خاطئة ومنافية للواقع، لكن الصدّيق ماكث على موقفه ومُصرّ على مهاجمة اليهودية وإن كلّفه الأمر كتابة أشياء مختلّة من قبيل: «دعنا من اتّهام القرآن لهم، وهو كلام مُنزّل ». ما معنى "دَعنا من اتهام القرآن"؟ هل يقصد أنه لا يبالي باتهام القرآن؟ هل يُشكّك في حقيقة هذه الاتهامات؟ لماذا يردّدها إذن وينسخها في كتابه؟ وهل القول بأن القرآن "هو كلام منزّل" ينسجم مع "دعنا" منه؟ بالطبع لا ينسجم منطقيا ولا يتماشى مع منحاه التقديسي. وهذه الجملة، في حد ذاتها، مختلة حتى في تركيبها اللغوي، فالرجل لا يحسن التفكير ولا التعبير عن أفكاره بطريقة واضحة جليّة. والسبب في ذلك أنه يكتب من أجل المنافحة على دينه، وليس من أجل البحث العلمي النزيه وتنوير العقول، وكلّ من ركب ركاب المنافحة الدينية فإنه حتما سيسقط في تناقضات لا تنتهي وسيتعثّر في المعضلات الواحدة تلو الأخرى، دون امكانية الخروج منها.
يريد أن يجمع بين المتناقضات، ويخلط بين الانفتاح والتعصّب، ويحافظ في نفس الوقت على التقديس والتهجّم. والطريقة التي التجأ إليها الآن هي التاريخ، أي التاريخ مُطوَّعا لعقيدته الإسلامية حيث وجد فيه كل ما يبرّر اتّهامات القرآن لليهود بالتحريف. قال إنّ اليهود هم الذين كتبوا تَوراتهم بأيديهم وقالوا هذا من عند الله، بعد أن انقرضت منذ قرون عديدة، وبالتالي فإن التوراة التي يملكونها الآن هي نسخة مزوّرة من الأصلية.
هذه التخمينات المُهينَة، يعرضها الصّدّيق دون أن يأتي بدليل تاريخي واحد، دون أن يستشهدَ بمَرجَع مقرّر، بل إنه ساح في "حُدُّوثة" مماثلة لحُدّوثات يوسف زيدان، مستخدما عبارة "يُقال" (تثبّتوا بأنفسكم، فالنص أسفل الصفحة) .
النتيجة التي استخرجها الصديق من هذه "الحدّوثة"، لإثبات تحريف التوراة، هي أن رجلا، استيقظ صباحا فقرّر تدوين أوراق، وقال للناس: هاكُم! هذا هو الكتاب المقدس: «ونادى على الكتَبَة في اليوم نفسه عندما استيقظ ليكتبوا ما جاء إليه من التوراة كما أنزلت على موسى. وكتبوا وكانت هذه هي التوراة المستعادة ذاكرة من قبل أزِدْرة ».
وعُزير الذي ألّهه اليهود، ماذا نقول فيه؟ هل صحيح أن اليهود، الذين من شدة رهبتهم من إلههم يمتنعون حتى عن النطق باسمه، تحوّلوا فجأة إلى عبادة شخص من لحم ودم؟ هل قرأنا في كتب اليهود شيئا من هذا القبيل؟ كيف يمكن تبرير هذه التهمة الخطيرة جدا؟ التاريخ هو الحل، مرة أخرى السيد الصدّيق يلتجئ إلى علم التاريخ الأسطوري، ويجمع كل ما يُسوّغ لهذه الروايات الجارحة التي تُصوّر اليهود أكثر وثنية من الوثنيّين. كما فعل يوسف زيدان بخصوص المسيحية، وجد الصديق ضالته عند الفراعنة: «للإجابة أرى من الضروري معرفة واقع الحضارة الفرعونية القديمة على الجزيرة العربية»، وهكذا انهمرت الفيلولوجيا، وتحليل الأسماء، ومقاربة العربية بالفرعونية واليونانية والانجليزية، ورصّ المصطلحات الغريبة الشاذة، ولخبطة فكرية لا مثيل لها، وصلت إلى حد الهوس (انظر النص أسفله) . ثم يعيب على المفسرين العرب والمؤرخين تغييب هذه الحقائق الباهرة وجَهْلهم بـ«اختلاف التسميات من لغتها الأصلية إلى اللغة الراوية اليونانية أو اللاتينية ».
وماذا سيَحصل لو أدرك علماؤنا هذه الحقائق اللغوية؟ هل سيُغيّرون من رأيهم تجاه اليهود ويَكفّون عن اتهامهم بعبادة إنسان، عوض يهوه؟ هل سيُقلع السيد الصديق عن فعل ذلك؟ مشكوك فيه، بل مستبعد كلّيا، لأن القرآن الذي يُلقي بهذه التهمة، هو في رأيه « مُوجب التصديق التام ». تصديق تام إذن لكل ما قاله القرآن، ولا يجب بالتالي أن نُنكر منه ولو كلمة، ولو حرفا واحدا. وإمعانا في التنكيل يقول إننا يجب أن نصدق القرآن في كل كبيرة وصغيرة إذا أردنا «أن نعرف الآخر من منطلق إيماني ومن منطلق إنساني ».
إن "عزيرا" (إزِدرة) هو بالفعل ذاك الرجل الذي عَبَدَه بنو اسرائيل، كما ذكره القرآن، وكما أثبته الصدّيق عن طريق التاريخ الفرعوني، لكن هذه الحقيقة الفاقعة، غابت عن المسلمين، ولذلك فهو يُبدي قسوة لا مثيل لها إزاء المفسّرين القدامى الذين قالوا إن النبيّ لا يعرف من هو عزير: "والله لا أدري إن كان عزير ملكا أو رسولا". فانطلق الصديق في تهكّمه وادانته: هذه إجابة مضحكة ولا يقبلها العقل، وكيف لا يعرف الرسول من هو عزير؟ «ما هو دورك أيها المفسر؟ أن تأتي بالأخبار دون نقد وتمحيص؟ تنغلق على المرويّ دون غربلة؟ فتغلق علينا معرفتنا بالآخر ».
لكن هذه الحركة المسرحية لا يجب أن تنسينا أن الصديق لو اطّلع على الكتب لعَلِم أن ما يقوله ليس بالجديد، لأن اليهود أنفسهم رووا هذه الأسطورة، وهم الذين ردّوا عليها. السموأل المغربي، واحد من أحبار اليهود من القرن السادس الهجري، والذي اعتنق الإسلام، في كتابه بذل المجهود أورد هذا الخبر، تماشيا مع فكرة التحريف الإسلامية، ومشككا في صحة التوراة الحالية. وقد قدّم هو نفسه السبب الذي جعله يشك في صحّتها، وهو أنها تعجّ بتشبيهات مخلّة للذات الالهية، وبعبارات غير لائقة، من قبيل: "انتبه! لمَ تنام يا رب؟ استيقظ من رقْدَتِك". سماها هذيانات وكفريات وقال إن اليهود نطقوا بها «من شدّة الضّجر من الذلّ والعبوديّة والصِّغار، وانتظار فرَجٍ لا يزداد منهم إلاّ بُعدا». فما كان من هذا الوضع المُزري، يواصل السموأل، «إلا أن أوْقَعهم في الطّيش والضّجر، وأخرجهم إلى نوع من الزندقة والهذيان الذي لا تستحسنه إلاّ عقولهم الركيكة. فتجرّؤوا على الله بهذه المناجاة القبيحة ».
وبعد أن عرضَ أمثلة من التشبيهات الأنثروبورفية التي نعثر عليها في التوراة، (وهي موجودة في الإنجيل والقرآن أيضا)، أنكر السموأل هذه الأشياء واعتبرها كفريات مستنتجا أن الكتاب الذي جاءت فيه محرّف: «ولسنا نرى أن هذه الكفريات كانت في التوراة المُنزّلة على موسى ». ثم جاء بمعلومة غريبة، زعم فيها أن أحبار اليهود «يَعلمون أن هذه التوراة التي بأيديهم، لا يعتقد أحد منهم أنها المنزلة على موسى البتّة »، والسبب في ذلك أن موسى أخفاها عن بني اسرائيل «صان التوراة عن بني اسرائيل ولم يبثّها فيهم، وإنما سلّمها إلى عشيرته أولاد لاوي ... ولم يبذل موسى من التوراة إلاّ نصف سورة يقال لها (ها أزينو).. ». وأضاف أن هذه السورة «مُشتملة على ذمّ طباعهم، وأنهم يخالفون شرائع التوراة، وأن السخط يأتيهم بعد ذلك، وتُخرَّب ديارهم، ويُشَتَّتون في البلاد ».
وهنا يورد السموأل الحكاية التي رواها يوسف الصديق، ولكن بأكثر رشاقة وأجْوَد أسلوبا: «فلما رأى عزرا أن القوم قد أُحرق هيكلهم وزالت دولتهم، وتفرّق جمعهم ورُفِع كتابهم، جمَعَ من محفوظاته ومن الفصول التي يحفظها الكهنة ما لفّق منه هذه التوراة التي في أيديهم. ولذلك بالغوا في تعظيم عزرا هذا غاية المبالغة ». والنتيجة، من فم هذا الحبر، هي أن «التوراة التي في أيديهم، هي على الحقيقة، كتاب عزرا، وليست كتاب الله». ويؤكد مرة أخرى أن رفضه للتوراة الحالية سببه هو حضور تشبيهات مخلة بالتنزيه الإلهي، وقد اتّهم كاتبها بالجهل والكفر: «وهذا يدل على أنه ـ أعني الذي جمع الفصول التي بأيديهم ـ رجلٌ فارغ جاهل بالصفات الإلهية. فلذلك نسبَ إلى الله صفات التّجسيم والندم على ما مضى من أفعاله، والإقلاع عن مثلها ».
لكن ابن كمّونة، يهودي هو أيضا، صاحب كتاب تنقيح الأبحاث في الممل الثلاث، ردّ على ادعاء السموأل بأن التوراة كانت قد تلفت من اليهود، وأن تلك التي بين أيديهم «ليست التوراة الحقيقية، بل حُرّفت وبُدّلت ». لقد وضع أصحاب هذا الرأي في مفارقة منطقية لأنهم يستدلّون على أن التوراة «مُبَدَّلة بأنها مبدّلة»، وهذا في رأيه «لغو ودعوى من غير حجّة». قال حتى وإن لم يكن حِفْظها فرضا، فإنه لا يمكن الشك في تواتر أخبارها، جيل بعد جيل، لأنها بالنسبة لليهود «كتاب عظيم، وعنه يأخذون شرعَهم»، وبالتالي فهم مضطرّون على «حفظه وضبطه وتناقله، لا سيّما وهم يتبرّكون بقراءته، ويتعبّدون بتعظيمه». وهذا من طبيعة الأشياء، وليس بدعا من المؤلفات، والدليل على ذلك يقول بن كمونة أننا نَجِد «الكُتب التي يُصنّفها بعض الناس، إذا كانت مِمّا يَحسُن الظنّ بها وتَكثر الفائدة منها، تُنقَل نقلا مُتواترا، إلى مئين من السنين، فما ظنّك بكتابٍ يُعتَقدُ أنه كلام الله ».
والحال أن تعظيم اليهود لتوراتهم جعل منهم أكبر الحفّاظ لهذا الكتاب وأشدّهم صيانة وعناية به عبر التاريخ، فقد ضبطوا التوراة، يقول بن كمونة، وغيرها من كتب أنبيائهم «ضبطا لم نجده لغيرهم في كتابٍ من الكتب ». وهذا صحيح، فهم لم يفعلوا طوال تاريخهم القديم غير هذا، حيث أنهم كما يقول بن كمونة «عَدّوا آياته وكلماته، وحرّروا كلّ حرفٍ من حروف اللغة فيه. وكذا فعلوا في كل سفر منه، وفي كل جزء من ذلك السفر، وحتّى كل كلمة أو كثير من الكلمات، بيّنوا هل جاء مثلها أم لا. وإن كان قد جاء، بيّنوا عددها جاء في أيّ موضع، وهل هو في وسط الآية أم في أوّلها أو في آخرها، وغير ذلك من الضوابط التي يقع التّعجب منها ».
ثم يضيف اعتراضا كلاسيكيا على امتناع تبديل أو اخفاء كتابهم، وهو أن اليهود عدّة فِرَق «يُخالف بعضهم بعضا في الفروع، ولم يَقع بينهم اختلاف في نفس التوراة وكتب نبوّاتهم، وإن اختلفوا في تأويل مواضع منها، لا في ألفاظها وترتيبها. وذلك كلّه ممّا يُزيل تَوهُّم تبديلها وتحريفها ». أما التوراة التي عند المسيحيين والسامريين فهي موافقة للنسخة العبرية، ليس فيها «من الألفاظ المُختلفةِ المَعنى ما يُعتدّ به ». وإذا أردنا الدقة يواصل بن كمونة، فالاختلاف بينها «أقلّ من الاختلاف الذي يوجد في القراءات السّبع للقرآن، وقراءة بن مسعود وأُبيّ وغيرهما كثير ».
أما بخصوص عزرا الذي ينسبون إليه تجديد التوراة بعد ذهابها فإن ابن كمونة يشك في أنه أقدَم على عمل من هذا القبيل، لأن التوراة موجودة كما هي، من قبله ومن بعده، وهذا النبيّ هو «من المشهورين بالتعظيم وكثرة الخير والدين، وهو الذي يسميه المسلمون بعزير، ويدّعون، هم وبعض اليهود، نبوّته. ومن يخالف في نبوّته فلا يخالف في عظم شأنه في الدين والخير، فلا يُتصوّر أن يَستَحِلّ تحريف كتاب الله وتبديله ».
هذه لقطة سريعة مما يمكن قوله عن تصور اليهود لكتابهم، وعن الاعتراضات والاعتراضات المضادّة التي خاضوا فيها هم أنفسهم حول مدى صحة توراتهم، ومَن أراد المزيد فعليه بكتب المستشرقين، وبالموسوعة اليهودية، لا كتب الصديق الجدالية المختلّة والفاقدة للمصداقية .

7. فاصل سَلَفي
----------
الصدّيق يَصطنع مشاكل من لا شيء، يُلقي باللاّئمة على المفسرين القدامى لجهلهم باللغة الفرعونية، وبالأسطورة العبرانية التي حكاها عن عزير، والتي تؤيد ما جاء في القرآن بخصوص تهمة التحريف، ويتوجه بالعتاب لمعارضيه: «لماذا يناقشونني في قراءتي واجتهادي؟ ولماذا يريدون مني، أو يفرضون عليّ أن أكون عدوّا للآخر أو مسالما له ». إذا أراد هنا التخاصم مع السلفيين فهذه سفسطة لا تثير فينا التعاطف، لأنه واحد منهم، فهو لم يتملّص من تهمة القرآن لليهود بأنهم يعبدون إنسانا، بل إنه بَرّرها، تماما، كما يفعل السلفيون. إلاّ أن السلفيين أصدق منه، لأنهم قالوها جهارا دون التّيه في الفرعونية واللاتينة وهُبَل والعُزّى وما إلى ذلك من الحذلقات اللغوية والتاريخية الفارغة.
أما أعداؤه السلفيّون، كما يقول هو، فهُم لا يَفرضون عليه أن يكون مسالما مع الآخر اطلاقا، لأن السّلفيين هم في حرب شاملة مع البشرية جمعاء، سيّما أهل الديانات الأخرى التي أدانها القرآن، وبالتالي فهذا معتقدهم الراسخ لا يحيدون عنه، والمسالمة مع الكافرين، في عُرفهم، هي كفر جزاؤه القتل. لكن بالنسبة للإنسان المتحضّر، المُسالَمة مع الآخر هي واجب أخلاقي يَنبع من ضميره، ويدفعه إليه حبّه للبشرية دون اقصاء مسبق على أساس ديني أو عرقي أو طائفي. كُنّا ننتظر من الصدّيق، كمفكّر حداثي، أن يُرِينا بصيصا من نور المسالمة في تنظيره الفكري، لكن للأسف، عمل العكس: هاجم الجميع، وانْسَاق وراء تهجّمات القرآن على الكفار، اليهود، المسيحيين. وهو نفسه في آخر الصفحة يُفرز مكنوناته، ويبرز تناقضاته بالتظاهر بالدفاع عن اليهود، بعد أن كَفّرهم وجعلهم يُحرّفون القرآن، يأكلون أموال المسلمين، يكتبون أوراقا ويُسوّقونها للمغفّلين على أنها من عند الله، ثم يعبدون رجلا اسمه عزير، بعد كل هذا يقول: «أليس اليهود هم أقرب إلى التوحيد من المسيحيّين أصحاب الأقانيم الثلاثة؟». وهكذا سكتَ دهرا فنطق كفرا.
وهل تَخفى الأكاذيب؟ اطلاقا. القانون هو هذا: مُحال أن يكون شخص ما إسلاميا في العمق، مقدّسا للقرآن، محال أن يكون صادقا مع نفسه ومع قرائه، فتصريف الأكاذيب هو ديدنه أينما حلّ وكلّما فتح فاه أو خطّ سطرا. أكاذيب الصدّيق تتمظهر في قوله إن الرسول تعامل مع اليهود تعاملا إنسانيا: «وقد رهن درعه عند أحدهم، وابتاع اللحم من آخر بلقيطة ». رواية مختلقة تكفّل المسلمون أنفسهم بتكذيبها، لكنهم لم يُكذّبوا مجزرة بني قريظة، كما لم يكذبوا الغزوات ولا التحريض على قتل المشركين وأهل الكتاب جميعا. إن الصديق مرة أخرى يمرّ على هذه الاحراجات مرّ الكِرام، بل يُغيّبها تماما، ويَستنسخ خطاب الاسلاميين المعتدلين الذين، حينما يُضيَّق عليهم الخناق وتُوضع أمامهم آيات العنف في القرآن، يستشهدون بحديث ضعيف أو بآية "لا إكراه في الدين". والصدّيق أيضا لا يحيد عن هذا المسار، فهو يزعم، دون خجل «أنّ تراثنا زمن النبي مليء بالأمثلة الدالة على التسامح في العيش »؛ أو إنّ «التعايش بين الناس على اختلاف مللهم ونحلهم ودياناتهم كان سلسا في مكة والمدينة ». لم يجد هذه الأمثلة في القرآن صراحة، ولكن وجدها في الأحاديث، وهو الذي، طِوَال صفحات، لا يَكِلّ عن اثارة الشكوك حول التراث الكتابي وإهانة المفسرين ونكران صحة مدوّنة الأحاديث.
إن الصدّيق، مثله مثل المسلمين جميعا، في ورطة أخلاقية كبرى لن يُخرجه منها لا الحديث ولا القرآن، لأنه أينما ولّى وجهه يجد أمامه كمّا هائلا من العنف والقتل والدماء. يكفي فتح باب "الجهاد" في أي مدوّنة فقهية حتى يقرأ أشياء يندى لها الجبين، أما إذا لم يعترف بالأحاديث، وتشبّث بالقرآن فقط، فإن ورطته تتفاقم إلى أعلى مستوى. فعلا، أين يضع هذه العبارات الصريحة: (فريقا تقتلون، وتأسرون فريقا، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم). قتلٌ، وأسر، ونهب، في كتاب مقدّس، وبمُباركة من إله الكون. أنا أحاكم هذا الرجل أمام العقل والأخلاق والحس الإنساني، وأتحداه أن يتفلسف على هذه الآية ويُعطينا تفسيرا معقولا يسمح بتقريبها من مبدأ التسامح.

8. ثم جاء دور المسيحية
----------------
حسب تاريخ الأديان الذي قرأه الصدّيق بتمعُّن، انتهت دورة بني اسرائيل مع آخر أنبيائهم، وبعدها مباشرة، بدأت « دورة المرحلة المسيحية (زكرياء، يحيى، مريم، عيسى)» .
القرآن في ظرفه التاريخي كان يرى في النصارى «أمة إيجابية تماما بحكم الآيات الأولى من صورة النور (غلبت الروم في أدنى الأرض .. ويومئذ يفرح المؤمنون .. الآية)». وهذا دليل قوي بالنسبة للصديق على أن «هناك علاقة تقريبا عضوية كما يوضّح القرآن بين النصارى والمسلمين ». يا له من انفتاح ! يا له من توادد وتحابب بين أهل الديانتين ! لكن لو قَرأتم الجملة الموالية لأصِبْتم بخيبة أمل مريرة، فعلا السيد الصديق لم يجد من أقوال القرآن، لكي يُصوّر هذه العلاقة العضوية، إلاّ آية تهجّمية عنيفة جارحة للمسيحيين، وطاعنة في دينهم وعقيدتهم، وإلههم. قال إن هذا التّحابب يظهر بجلاء «في آخر سورة المائدة حين يدافع عيسى ـ وليس محمدا ـ عن أمة الناس: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنتَ قلت للناس اتّخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ. إن كنتُ قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علاّم الغيوب) ». أين يدافع عيسى هنا عن أمة الناس؟ وما أمّة الناس هذه؟
إن هذا الحوار، بالنسبة للمسيحيّن، هو صنو الإهانة لعقيدتهم، وقمّة الطّعن في مقدّساتهم. ذلك أن المسيحيين، يعتقدون أن المسيح هو الله، وبالتالي فإن "الحوار ـ المعاتبة" الذي رواه القرآن لا معنى له لأن الله لا يمكن أن يُعاتب نفسه. ثانيا: المسيحيون لا يقولون إن مريم هي إله، ولا يقدّسونها كإله، وإنما هي أم الله بالجسد، والقول بعكس ذلك هو تجريح لدينهم وطعنٌ في عقيدتهم. لكن الصدّيق لا يتفطّن إلى هذه الخروقات لأن حجاب التقديس مَسدول على عينيه، لا يرى إلاّ ما يراه القرآن، ولا يسمع إلاّ ما يتلوه. إذا عثر فيه على قول صريح يهاجم المسيحيين فهو يحرّفه عمدا، ويجعل منه خطاب دفاع يسوع عن المسلمين. تصوّروا إلى أي حد وصل التشويش الذهني بهذا الشخص.
وهذه القولة التي وضعها القرآن على فم المسيح: (إن تُعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)، أصبحت عند الصدّيق دليلا على أن عيسى «يتحاور مع الله وكأنه ندّ له ويؤكد معرفة الخالق بكل شيء ». لم يدرك فيلسوفنا أن قولة عيسى هذه هي سخرية من الله وليست تعظيما لشأنه. فعلا، هذا الإله يتصرف كالمجنون، يجازي ويُعذب ويغفر على مذاقه، فعيّرَه يسوع باعتباطيّته، وترَكَه في سكرة جنونه: افعلْ ما شأت فأنت حر.
ثم طلع علينا بفكرة جديدة، اختزل فيها يسوع، إله المسيحيين، إلى مجاز، مجرّد مجاز لغوي لا غير. وللوصول إلى هذه النتيجة الغريبة، طوّل الطريق وطاف بالقارئ في دهاليز الكلمات المشوشة: أعاد طرح تحقير القرآن للإنسان، من حيث أنه اضطلع بأمانة كبرى، ولكنه سرعان ما ظهر على حقيقته، وهو أنه "ظلوم جهول". وهذان العبارتان هما أقسى تعنيف يمكن أن يَتفوّه به شخص في حق شخص آخر: أن يقول له إنك ظالم جاهل. لكن بالنسبة لصاحبنا، أن يكون الإنسان "ظلوما جهولا" فهذه فطرة الله التي فطر عليها الإنسان ولا مبدّل لها اطلاقا. وأين عثر على هذه الفطرة؟ وكيف تجسّدت؟ في شخص اسمه يسوع المسيح . وهذه أوّل صَفعة في وجه المسيحيين. الصفعة الثانية، أن ولادته هي أيضا مجاز، ومجاز وثني «كما هو الشأن في الإلهة آرتيميس بَتُول الأساطير اليونانية التي ذكرتها الأناشيد ». لكن القرآن يقول إن المسيح هو (قول الحق الذي فيه يمترون)، هذه أيضا مَجاز، أو بالأحرى «قَفز المولود من رحم لغة البشر ليرتقي» إلى لغة الحق. لكن هذه الرّفعة، المحصورة دائما في عالم المجاز، لا تجعل من المسيح إلها، كما يعتقد المسيحيون. كلا، هذا المَقَام الذي رُفِع إليه عيسى لا يمكن أن يُخرجه «من آدميّته التي عاينها بنو جنسه من حوله ».
المسيح الحقيقي هو مسيح القرآن الذي رفعه الله إلى السماء وهو حيّ، أو بِلُغة الصدّيق «التَقَى إلى الجوار الإلهي وهو حيّ »؛ ثم مات، ثم اختفى في عالم المَجاز، يعني أصبح «فطرة الله التي لا طاقة لبشر على ادراكها ». وهكذا فإن الفيلسوف الصدّيق يدسّ للمسيحيين السّم في العسل: سمّ القرآن، وعسل الفلسفة. وكيف لا يعتبرونه سُمّا وهو يقول لهم إن مَسيحكم هو إنسان بن إنسان، في الوقت الذي يقولون فيه إنه إله بن إله؟ لن تُغريهم كلماته الفلسفية المُجرَّدة، عن المجاز والفطرة، إذا كان الغرض منها هو ضَرب ركن رئيسي من أركان عقيدتهم، ولا تَغرّنّهم أيضا تحليلاته الفيلولوجية المغلوطة، من قبيل أن كلمة مسيح مرتبطة بجذر ساح «الذي يفيد السَّفر (ويعني لغةً السيلان) »، في الوقت الذي كلّنا يعلم أن كلمة مسيح، تأتي من المَسح، على وزن فعيل، أي شخص مُسح بالزيت.
لكن جولاته الفيلولوجية وتأويلاته المعقدة تصبّ في مصبّ واحد، ألا وهو تَجريد المسيحية من روحها، وسَحب مشروعيتها التاريخية، ثم إعلان انتصار الإسلام عليها، بالاعتماد على القرآن، كشاهد وكحاكم في نفس الوقت. يسوع في الفترة المكيّة كان لا شيء تقريبا، كان مجرد فكرة غائمة «لا تضعه في أفق مستقبلي منتظر ينبئ بنهاية التاريخ »، وفي فترة لاحقة أصبح مجرّد شاهد، وفي نفس الوقت، حاكم لصالح محمد ضد اليهود: «فقط كشاهد وكحكم في النقاش الذي سيدور فيما بعد بين محمد ويهود المدينة ».
أكثر ما يمكن أن يتنازل عليه الصديق لصالح المسيحيين هو أن يسوع وُلِد وِلادَة عذريّة، تماشيا مع تصوّر القرآن للمسيح، إضافة إلى أساطير الأناجيل المنحولة من قبيل: التكلّم في المهد أو احياء الطيور ... الخ. وهي كلها أناجيل غنوصية منحولة، لم تعترف بها الكنيسة الرسمية. المُفزع في كل هذا هو أن رجلا لا يَقبل أقل من لقب فليسوف يسرد علينا هذه الأساطير دون أن يَختلجه الشك في مصداقيتها، لا بل حتى في امكانيتها الواقعية الطبيعية: أعني أن تُنجِب امرأة دون تلقيح وأن يتكلم مولود في المهد أو يُعاد إحياء الميّت.
لكن، كما قلت، الصديق لا يمكنه أن يخرج عن المسلك الذي رسمه الإسلام عبر تاريخه؛ يريد أن يضرب المسيحية واليهودية بكل الوسائل، وبالتالي كل ما يخدم قضيّته فهو صالح ومُرحّب به، والاطار المرجعي الذي لا يغيب عنه دقيقة واحدة هو القرآن. فعلا، القرآن قال إن المسيح هو عبد الله ورسوله، الصديق يَطليها بطلاء فلسفي، ويسوّقها لقرّائه: المسيح مجاز «نُزعت عنه منذ البدء كل صفة تجعل منه مُخلّصا، كتلك التي تراءت لداود في كتاب صموئيل الأول، أو كما عُرفت لاحقا في اللاهوت المسيحي كمصير أخرويّ لآلامه وموته المخلّص على الصليب ». اعتقاد المسيحيين في أن يسوع هو المخلص، اعتقاد فاسد على طول الخط، وقد أثبت القرآن فساده، هذه هي الصفعة الأخرى في وجه المسيحيين.
ثم أخرجَ المسألة من تهجّم على المسيحين، ومنازعة مباشرة لعقيدتهم، إلى صراع بين السنّة والشيعة، وهكذا زاد في بلبلة أفكار القارئ، وعلّق لبرهة تهجماته وقدحه، لكي يلتفت إلى فرقتين اسلاميتين ويتحدّث عن كيفية تفسيرهما لمنطوقات القرآن، التي ينص فيها على أن المسيح (إن هو إلاّ عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ... فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم). هذا القول الصريح الواضح في نفي العقيدة المسيحية يسميه الصديق "قولا متشابها" «اتّخذه المذهبان السني والشيعي سبيلا يمكّنهما من تصوير شخص المسيح المنتظر بوجوه متعددة ». ثم يصفه بأنه موقف محايد بين اليهود والنصارى، في الوقت الذي هو منحاز إلى أطروحة اليهود الذين عارضوا منذ البداية فكرة ألوهية المسيح، واعتبروها انتهاكا للوحدة الإلهية، وهي الرؤية التي تقبّلها القرآن من اليهود بوساطة التلمود.
وإمعانا في إهانة المسيحيين قال إن يسوع المسيح هو نقطة عبور؛ مجرّد فاصلة بين زمنين تَعيسَيْن: زمن أول هو زمن التوراة، تلك التوراة التي «أقدمت اليهود على تحريفها »، والشاهد على ذلك هو المُتَّهِم والقاضي، أي القرآن الذي أكّد على أن (من الذين هادوا يُحرّفون الكَلم عن مواضعه)، ويُحرّفون الكَلم، بالنسبة للصديق، يعني يحرّفون كتابهم المقدس. إنه لمن أعجب العجائب أن يتغاضى هذا الفيلولوجي الكبير عن تدبّر معنى هذه الجملة ويَمرّ عليها دون أن يسأل نفسه هل بالفعل "الكَلم" هنا يعني به التوراة كلّها أم شيء آخر؟ أيُعقل أن مجموعة من الناس يعمدون عن قصد وسابق إضمار إلى تحريف وتبديل وتشويه قدس أقداسهم؟ إنني لا أفهم عقلية هذا الرجل ومستواه العلمي، ولا الغاية التي يصبو إليها من خلال هذا العمل العبثي الذي لا يتقدّم بالوعي المعرفي والأخلاقي طرفة عين. ورغم اعترافه بأن التوراة «جاءت تحمل هدى ونورا »، فهو مستقر على قناعته من أن اليهود حرّفوها، وهذه هي التعاسة الأولى. التعاسة الثانية، هي أن «عيسى بن مريم قد بشّر بمحمد في إعلان وجّهه إلى بني اسرائيل »، وبقي المسيحيون في تخبّط وضلال، منذ تلك اللحظة، إلى أن جاء نبيّ الإسلام محققا لإعلان يسوع. والشاهد على ذلك، هذه المرة، هو القرآن والإنجيل معا، مع فارق دقيق وهو أن الإنجيل كلّه محرّف ما عدا كلمتين نَصَّ فيهما على نبوة محمد: «هذا الإعلان يعتمد في مرجعيّته على إنجيل يوحنا (الجزء 16، 7 ـ 18) الذي يتحدث عن مجيء الشفيع فارقليط، وهي كلمة يونانية يتطابق معناها تماما مع كلمة "أحمد" وهو الاسم الآخر الذي عُرف به محمد، والذي بشّر به عيسى في الآية المذكورة ».
ولم تخرج البشرية من بؤرَتَي التعاسة، أي اليهودية والمسيحية، ولم تر نور الحقيقة إلاّ بمجيء نبيّ الإسلام. لكن لا ضير مع المسيحيين، فقد تكفّل يسوع نفسه بتصحيح أخطائهم وذلك في استجواب أخير أمام الله، طالبا منه العفْو عن أتباعه الغاوين.
كل هذه الأفكار التكفيرية الفظيعة تمرّ أمام القارئ كأنها فلم رعب، ويسردها صاحبها، بتزويقٍ فلسفي مهترئ، وكأنها حقائق نهائية ثابتة، دون أن يَعِيَ بأن عن طريق هذه الأحكام التكفيريّة قام القرآنيون الإرهابيون بتفجير الكنائس وتحطيم الصلبان، وقتل رجال الدين، واغتصاب النساء. وهذه الأعمال الفظيعة، ليست مَرويّة عن فلان وعلاّن، وإنما موثقة بالصوت والصورة، في شبكات انترنت.
ولكن لا أظنّ أنّ شخصا مثل الصدّيق، يتهجّم على المسيحيّين، ويُعلي من شأن دينه على حسابهم، يَكترث لمصائبهم أو يهتمّ بمعاناتهم اليومية، فهو مُصِرّ أشدّ ما يكون عليه الاصرار على بثّ آرائه الجارحة المهينة للمسيحيين، وضرب قدس أقداسهم، واعتبارهم ضالّين مضلّين: «من خارج التاريخ أيضا يخضع المسيح إلى استجواب إلهي ينقله القرآن في خطاب مؤثّر، وينكر فيه هو نفسه التثليث، لكنه يسأل الله العفو عن الذين ضلّوا واتّخذوه وأمه (إلهين من دون الله) ».
كيف نَعيب على المسلم العادي، اعتقاده بأن "المغضوب عليهم" هم اليهود، و"الضّالين" هم المسيحيون، إذا كان لدينا مفكرا حداثيا يردد حرفيا نفس هذا الاعتقاد؟ أنا لا أكفّ عن التعجب من رجل يُقدّم نفسه كفيلسوف نِحْرير، علاّمة زمانه، كيف يسمح لنفسه بالتهجّم على معتقدات المسيحيّين بهذه الصيغة الفجّة، واتّهامهم بأنهم يؤلّهون امرأة وابنها؟ أليس هذا بوابة لإثارة الفتنة الطائفية، وتكفير المسيحيين كلهم، ومن ثمّ إعطاء ذريعة للإرهابيين المسلمين كي يُبيدوهم على بكرة أبيهم؟ هذه الإمكانية ليست من باب الاستيهامات الشخصية، بل هي من صلب الواقع، لأن آلاف الارهابيين التونسيّين الذين اتّجهوا إلى سوريا لذبح المسيحيّين كانوا مُحمّلين بنفس الأفكار التي يدافع عنها الفيلسوف التونسي يوسف الصديق.
فالرجل، كما قلتُ، لا يَتفكّر في استتباعات أقواله، ولا يهمّه أن يُقتَل كافر ضال من طرف مؤمن مستقيم، لأنه مهموم باستعادة وتكريس كل ما قاله القرآن حول المسيحيين. والدليل الفاقع على أنه ثابت على موقفه التّكفيري هو تشنّجه على المفسرين المسلمين لتَغْييبهم هذه المسألة المحورية حول طبيعة المسيح، وقضية الصلب، ويَعيب عليهم عدم تطرّقهم إليها بما فيه الكفاية. فهو يزعم أن الموروث التفسيري فرضَ «صمتا مطبقا على حيثيات الجدال الحاد حول طبيعة عيسى إن كانت إلهية أم آدمية أم مختلطة، وحول الصدى الذي خلّفته آلامه في الدوائر الكهنوتية. لم تُفدنا وثيقة واحدة من وثائق هذه التفاسير مثلا بأن أحد هذه التيارات القائلة بالطبيعة الواحدة، تلك التي حاربتها بضراوة البطركيتان المصرية والسورية .. وتضمّنت في تعاليمها فكرة قرآنية تؤكّد بأن "قصّة عذاب المسيح لم تحدث إلاّ في الظاهر" ».
رغم كل ما قاله المسلمون ضد المسيحيين، منذ ألف وأربع مائة سنة، ورغم كُتُبهم التي تَعجّ بالإهانات والشتائم والطّعون، فإن صاحبنا يطلب المزيد. لم يَشْف غليله منهم بعد؛ يُريد فتح الملفّ من جديد وتطعيمه بمعارفه الفلسفية والهيروغلوفية، لكي يضرب العقيدة المحورية في المسيحية، عقيدة الفداء.
وقد قادته معارفه التاريخية إلى الاكتشاف آخر، وهو أن بولس الرسول، هو المؤسس الحقيقي للعقيدة المسيحية، ولا دخل للمسيح أو حواريّيه. وبولس هذا، حسب منطق الصدّيق، هو إسلامي قبل الكلمة، إسلامي قرآني خالص، لا لأنه رجل مُشبَّع بالحكمة والورع والتقوى وحبّ القريب، وإنما من جانب الشتائم والتعنيف اللفظي، وإطلاق اللعنات ضد اليهود، وهي نفس اللعنات، يقول الصدّيق، التي تضمّنها القرآن «والتي جاء بها القديس [بولس] ضد اليهود، لاسيما تلك المتعلقة بقسوة قلوبهم التي يصفونها بالغُلف (القرآن، سورة البقرة، الآية 88، وسورة النساء، الآية 155)، انظر بولس، الفضل 7، 51، الرومان، 25 .. ».
وهذا، في رأيه، يُثبت إثباتا قاطعا أن المسيحيين يَتّفقون مع المسلمين في شَتم اليهود، رغم أن الأناجيل ورسائل بولس وأعمال الرسل، يعني كتبهم المقدسة، كلها محرّفة.
أنا أعرض الأفكار للقارئ كي يتفطن إلى خطورة هذه الشرذمة من القرآنيين، والتقديسيين الجدد، الذين يُخفون تطرّفهم خلف ضباب العبارات الرنانة والتحليلات المغرضة الفظيعة.
بعد تأنيب التراث التفسيري الإسلامي على اشكالية اختلقها هو، رغم أن كتب التفسير ومدوّنة الحديث تعج بالتهجمات على المسيحيين، فهو يعود لموضوعه المفضل ويَسْكب عِلمَه التاريخي المزوّر، كي يقول إن الخطاب القرآني «انحاز، لأسبابٍ استراتيجية واضحة، (انتشار الديانة المسيحية الواسع في الجزيرة العربية وفي البلدان التي تعتبر امتدادا جغرافيا وسكانيا لها)، لتلك المسيحية التي أرادها الإسلام موحّدة بأدنى القواسم المشتركة، أي برفض كل من ألوهية عيسى وصفته الأخروية التي قد تُمكّنه من الظهور كمخلّص في نهاية الأزمة، وهو الدور الذي يضعه في منزلة يرقى بها على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ».
لكي تُقبل المسيحية من طرف السيد الصدّيق، يجب أن تُسلخَ من لبّ عقيدتها، أن يُداس قدس أقداسها، أن يُسحَل مسيحها، وأن يُوضَع في منزلة أدنى من محمد.

9. الجزية ثمن التثليث
---------------
ولا أرى أن الصدّيق، في هذه النقطة، قد خالفَ قرآنه أو حاد عن تراثه الإسلامي ككلّ، إذ أن قراءة بسيطة للقرآن تبيّن أنه حارب المسيحية، تعدّى على مقدساتها، حوّر عمدا معتقداتها، شوّه معالمها، وعرضها في صورة مختلّة، ثم ختَمَها بالتحريض العلني على قتل المسيحيين أو ابتزازهم ماليا. إنها طامّة كبرى حَلّت بهؤلاء الناس في عقر دارهم، وهي متواصلة إلى يومنا هذا، ونراها أمامنا بالصوت والصورة في العراق وسوريا ومصر. ولقد وصل الحنق على المسيحية إلى درجة أن أتباع هذا الدين، من "ثوّار" ليبيا، لم يكتفوا بذبح المسيحيين، وإسالة دماءهم في البحر، وإنما التَفتوا إلى الموتى فهشّموا المقابر وكسروا الصلبان ونبشوا القبور. أعمال مروعة، لا يجرؤ عليها إلاّ من فَقدَ إنسانيته بالكامل ونزل إلى مستوى الوحوش، والإسلاميون هم فاقدوا الإنسانية عن جدارة، رغم أنّ مَن مَكّن لهم في الأرض هم مسيحيون، فجازوهم بجزّ رؤوسهم، وتحطيم مقابرهم واجتثاث موتاهم.
ثم يأتي يوسف الصدّيق، فيلسوف عقلاني حداثي، كي يَحصر المسألة في نقطة واحدة: «يكتفي القرآن في مُحاربته المسيحية بنقطة واحدة يراها كفرا، وهي القول بالتّثليث ».
أخير حصلنا على اعتراف من هذا "الفيلسوف" المؤمن، بأن القرآن لا يكفّر فقط المسيحية، بل يُحاربها، وهكذا ذهبت مشاعر التقارب والتّحابب والانفتاح وحوار الأديان في أدراج الرياح، وحل محلها واقع الاضطهاد التاريخي المرير. لقد عدنا إلى براغماتية أبي تمّام: "السّيف أصدق أنباء من الكتب .. في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب". ولم يبدأ المسيحون بالعداوة، هكذا يقول الصدّيق، وهذا اعتراف آخر، افتُكّ منه عنوة، لأن القرآن نفسه هو الذي يُعلن ذلك صراحة، والصدّيق لم يفعل أكثر من مُجاراته وتبريره. المسلمون إذن هم الذين بدأوا العداوة، والقرآن هو الذي انطلق في التجريح في عقيدة المسيحيين وانتصب عليهم كوَصِيّ يُعلّمهم أسس دينهم. لكن الصدّيق يُحمّل المسؤولية للمسيحيين: «لقد عمّقت مسألة التثليث (الثالوث) العلاقة الغيرية العدائية بين المسلم والنصراني». هذه مغالطة تاريخية فاقعة: المسيحية عاشت على معتقد التثليث لمدة ستة قرون، قبل أن ينزل القرآن، وقبل أن يغزو المسلمون بلاد الشرق، ويتدخّلوا في معتقداتهم ويهاجموا مقدساتهم ويهدموا كنائسهم ويحطموا صلبانهم. على من يَقَع اللوم؟ أأنا في بلدي، أعيش بسلام بين أهلي، مؤمن بديني، وملتزم بعقيدتي ويأتيني شخص من أقاصي الأرض لكي ينقضّ عليّ ويَفتِك بي لأنني أُومِن بالتثليث؟ أيُّ منطق هذا؟ أين التسامح والانفتاح والمَحبة؟
لقد تجاوز هذا "الفيلسوف" كل حدود اللياقة والأخلاق، وسمح لنفسه بالتحدّث عن "أهل الكتاب"، وعن "فَرْض الجزية"، وكأن ذاكرته توقّفت عند عصر الخلفاء الراشدين، ونَسي أنه يعيش في القرن الواحد والعشرين، في دولة مواطنة ومساواة في الحقوق والواجبات. فالرجل متمسّك بهذه التقسيمات الطائفية التي عفى عليها الزمن (عادت مع داعش)، ويردّد حتى أكاذيب الشيوخ الذين، حينما يُواجَهون بنصوصهم وتاريخهم، يزعمون أن الجزية على المسيحيين واليهود فُرضت لحمايتهم: «أهل الكتاب يدفعون الجزية حماية لأنفسهم ».
وبعد أن حسّن صورة الجزية التي جُعِلت بالأساس لنهْبِ المسيحيين والتمييز بينهم وبين المسلمين، يعود على نفسه، وربما يؤنبه ضميره: «أعتقدُ أن مسألة الجزية ظلمٌ وفيها تمييز بين الناس. الجزية في الأصل، ضريبة يدفعها أهل الذمة من اليهود ومن النصارى عن قهر وذلّ، إلى بيت مال المسلمين. ومن المفروض أن بيْت المال لا يُدفع له إلاّ من المسلمين أنفسهم ». كلام صائب وإنساني، رغم أنه مناف للتاريخ لأن بيت مال المسلمين هي بيت جباية ونهب لخيرات الشعوب، و"أهل الكتاب" هم الذين يدفعون لها القسط الأكبر من عرق جبينهم. لكن أن يقول إن الجزية هي ظلم فلا يمكن إلاّ أن نتفق معه ونزكّي قوله، إيمانا منّا بأن الدولة الحديثة هي دولة مواطنة وليست دولة دينية تتبع نهج التمييز الطائفي الذي سلكتُه في العصور القديمة، والتي يجب أن نتملّص منها ونقبرها في ذاكرة التاريخ. لكن بَهجَتنا تتلاشى، لأن هذا الرجل، إن لم يُجَنِّن قارئه بتحاليله الفيلولوجية المُلخبطة، فإنه يُجَنِّنه بتناقضاته المفزعة، وبتساهله مع أبسط قواعد المنطق والحس الأخلاقي السليم.
فعلا، بعد أن أنكر الجزية استشهد مباشرة بهذه الآية التي جَلبتْ طوفانا من المآسي على المسيحيين: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون). تحليل لغوي بسيط لهذه الآية: أمرٌ نازل من الله لمؤمنيه الأتقياء بأن يقتلوا كل أهل الكتاب، يعني يهود ومسيحيين، ممّن امتنعوا عن اتّباع دين الحق (يعني الإسلام). كلام واضح شفاف: تحريض علني على القتل. لكن لا واضح ولا شفاف، المقدمة مختلة: كيف يمكن لأهل الكتاب أن لا يؤمنوا بالله ولا باليوم الآخر؟ ألا تنطبق هذه القولة على الملحدين؟ أليس من أصول الإلحاد عدم الإيمان بالله والرسل والحياة بعد الموت؟
لكن قَتْل أهل الكتاب فيه مخاطر كبرى: أوّلا لأنك لا تستطيع أن تقتل الناس جميعا وتُقفر الأرض منهم، ولا يمكنك أن تلاحقهم إلى أقاصي الدنيا لكي تُفنيهم؛ ثانيا، لأنك لو قتلتهم لضيّعتَ عمليّا فرصة التّمتّع بأموالهم وخَيْراتهم، وبالتالي الأفضل أن تُبقي عليهم في حالة عبودية، يَشتغلون لصالحك، أي أن تجعل منهم آلات مُتنفّسة، وتستغلّ ثمار أتعابهم وتنكح نساءهم. القرآن هنا لم يُخيّر المسلمين بين هذا أو ذاك، وإنما أجاز لهم فعل هذا وذاك: القتل متى شاؤوا، والابتزاز المادي كيْف شاؤوا. وهذا ما حدث فعلا وما قام به المسلمون عبر التاريخ.
كيف تَعامل الصدّيق مع هذه الآية؟ نَسّبَها، أي رَبطَها بواقعها التاريخي، وبالتحديد « بظرفيّة الحرب ». وهذا هو الملاذ الأخير الذي يلجأ إليه المسلمون للخروج من المأزق: تنسيب آيات القتل. لكن لا تظنّوا أن الرجل سيَثبتُ على موقفه دون ينقضه في الحين؛ فهو إسلامي وهابي، ولكونه كذلك، فهو غير مستعدّ لأن يتخلّى عن قدسية النص، أو يُنكر صلوحيته الدائمة حتى إزاء هذه الآية العنيفة. فهو لا ينكر الجزية؛ بل يبرّرها تبرير شيوخ الفضائيات قائلا بالحرف إن الجزية « أصبحت أداء معيّنا لحراسة دور عبادتهم (الكنائس والبيع). لأننا نعتقد أنهم من أهل الكتاب، وأن التعايش معهم عادي »؛ لم يَتخلّ عن التسمية المهينة، "أهل الكتاب"؛ لم يتملّص من أكاذيب المسلمين في ادّعائهم أن الجزية جُعلت لحراسة معابدهم.
الرجل يتحدث عن التاريخ، لكنه لم يرجع إلى كتب المؤرخين العرب الذين رووا بالتفصيل كل الإهانات الفظيعة والاضطهاد والتهجير والإبادات الجماعية التي تعرّض لها المسيحيون طوال تاريخهم في ظلّ الخلافة الإسلامية، والتي انتهت بمجزرة الأرمن، والآن بمجزرة مسيحيي العراق وسوريا.
كل هذه المسائل المحورية لم يتطرّق إليها فيلسوفنا، ولم يعرّج عليها وإنما انطلق مُحلّقا في سماء التاريخ كما قرأه هو: «تاريخيّا تمّت هذه القطيعة بينهما [بين الاسلام والمسيحية] وتعمّقت بفعل مجمع نيقيّة سنة 352 أي بعد أكثر من ثلاثة قرون من صلب المسيح حسب ادعاء هذه الكنيسة ». مرة أخرى نحن أمام تزوير فاضح للتاريخ، وتهجّم سافر على المسيحية وبنودها الأساسية. عن أي قطيعة يتحدث هذا الرجل والإسلام لم يولد بعد؟ كيف يقول إن صلب المسيح هو ادعاء من طرف الكنيسة؟ ألم يُذكَر الصّلْب في الأناجيل الأربعة، بصريح العبارة؟
لكي يُثبت عقيدة القرآن، التي تنفي صَلْب المسيح، فقد لجأ إلى المسيحيين، دون أن يَأتي بمرجع أو دليل واحد، لأن المسيحي الذي لا يعتقد في الصّلب ليس بمسيحي. لكن الرجل مُصرّ على إهانة المسيحيين، وتهديم مقدساتهم، بكل الوسائل، حتى الكاذبة منها: «إن بعض الدراسات الجديّة ومن المسيحيين أنفسهم تعتقد أنه لم يكن هناك صلب، لأن الصليب لم يكن معروفا بل كان شيء يشبه الخازوق عند الأتراك (pilori)، أما الصليب فقد جاء متأخرا جدا في تاريخ النصرانية ».
هذه آخر موضة استحدثها المسلمون: فقط لأن الصليب لم يُعرف في عصر المسيحية الأولى فإن يسوع لم يُصلب، وبالتالي القرآن صادق، والمسيحيون إلى الجحيم.

10. المسلم آريوس والكافر المسلم
---------------------
ولإتمام مهمّة القضاء على المسيحية، واعطاء ذريعة ايديولوجية لتهجير المسيحيين أو الفتك بهم؛ ولِطَرح الإسلام كبديل نهائي، ثم تَصْفية الحسابات مع العلمانيين واللادينيين في البلدان العربية، فقد توجّه الصدّيق إلى الراهب آريوس. وهو الشخصية المحورية التي اكتشفها الإسلاميون في المدة الأخيرة، وقدّموه كمخلّص لهم من الورطة التي ورّطهم فيها القرآن. آريوس والأريوسيون، من هم؟ الصدّيق يتوسع في الشرح، ويغتبط باستعراض علمه الغزير، مُوفّرا للقارئ معلومات تاريخية قيّمة: «إن مَن عَادَى محتوى مجمع نيقيّة الحائر في طبيعة المسيح: هل هو من طبيعة إلهية؟ هل هو إله واحد أو مجموعة أقانيم؟ هل هو ابن الله؟ هو شخص يُدعى أريوس اعتقد في بشرية المسيح وأنه شخص بَشرٌ إنسان. وكانت أفكاره منتشرة في جنوب البحر الأبيض المتوسط والتفّ حولها كثيرون. عادى أريوس بموقفه هذا مجمع نيقية الذي قرّر أن للمسيح طبيعة إنسانية وطبيعة إلهية وهو ابن الله (التثليث) وتأسست المسيحية التي ستصبح بعد ظرف قصير الكاثوليكية التي نعيشها وحاربتْها في ما بعد البروتستانتية مع المتديّن الألماني لوثر .. ».
هذه هي عُصارة فِكْره التاريخي الجديد، وفحوى سرديّاته العلمية الدقيقة التي يتباهى بها في كتبه وحواراته الصحفية. إنه لمن العجب حقا أن يسرد بهذه الطريقة السطحية جدا، مسألة عقائدية، تخص المسيحيين فقط، أعني ألوهية المسيح، وهم المسؤولون عنها، وهم سَعِيدُون بها، ولا دخل لنا فيها، ونَتمنّى لهم حظا سعيدا وإيمانا مقبولا. لكن المسلم، اسوة بقرآنه، يتدخّل في كل شيء، ويزجّ بأنفه في عقائد الآخرين لكي يُغطّى على نقائص دينه وكتابه. صوتٌ في الصحراء لراهب ليبيّ عاش في القرن الرابع، أصبح بالنسبة للمسلمين قارب نجاة، لكي يبرهنوا على أن الإسلام سابق على الإسلام، وأن القرآن حق، وأن كل ما يعتقده المسيحيون باطل وضلال.
بعد أن استقرّ له التهكّم على المسيحيين والاستهانة بدينهم، بقي عنصر آخر يجب الحسم معه: المُرتدّ، يعني الإنسان الذي يعيش في بلد عربي ووُلد على دين الإسلام ولكنه اختار أن يُبدّل دينه أو يهجر الأديان كلها ويَعتنق الإلحاد. في دولة حديثة دستورية، كل فرد حرّ في الاعتقاد، وفي عدم الاعتقاد، والمواطنون مُتساوون في الحقوق والواجبات، ولا يعاقب أي شخص على نقده للدين أو الكفر به علانية.
القرآني يوسف الصدّيق يتعجّب من إصرار المسلمين على قتل المرتدّ، فهو لم يجد هذا الحكم بتاتا في القرآن، والدليل على ذلك هذه الآية (مَن كفر بالله من بعد إيمانه إلاّ مَن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم). وإذا غاب الحكم من القرآن فالمبدأ إذن هو أن لا حدّ على المرتدّ، ولا حدّ على من يكفر بالله، ولا عقاب لمن ينسلخ من الإسلام وينكر نبوّة محمد ويمزّق القرآن. فالإنسان حر في اختياره الكفر، وكمواطن حر يعيش في دولة مدنية، له نفس حقوق المؤمن. من المفروض أن يكون هذا رأي الصديق، لكن في ثنايا أقواله بدأت الدائرة تضيق، وأخذت المبادئ تُنَتَّف هباءات، وتَتَناثر في الهواء. أوّل تَضييق هو هذا: «لم يقتل الرسول المرتدّين إلاّ في حروب ». وهذا أول خرق للمبدأ. الخرق الثاني يمس العلمانيين واليساريين والملحدين في أرجاء العالم العربي الاسلامي. والذريعة هي المحافظة على السلم الاجتماعي، وقد استعملها راشد الغنوشي، رأس التكفيريين في العالم، للتضييق على حرية الفكر، باعتبار الملحد أو المجاهر بنقده للإسلام، أو المُفطر في شهر رمضان، هو شخص يهدّد السّلم الاجتماعي، وبالتالي وجب حبسه أو جلده أو قتله.
إن المواطن الملحد، في تشريعات الصّديق، نتسامح معه فقط إذا كان إلحاده مَكتوما في صدره، وبين أربعة جدران، يعني إذا كان مُنافقا، يتظاهر بالإيمان في الخارج، ويَكبت كفره في قرارة نفسه، أما المؤمن فلا ضير عليه في إظهار إيمانه والصلاة في الساحات العامة، كما فعل الاسلاميون بعد ما يسمّى بالربيع العربي: «إن الإيمان شأن مكتوم لا يظهر للعيان إلاّ إذا كانت المسألة ذات علاقة بالسلم الاجتماعي والأمن القومي فيتبجّح بعضهم على الملأ بأنه كافر بالله ورسوله ويُعادي الإسلام». لقد قصّ علينا الصديق سيرة حياته ومغامراته الفكرية في فرنسا مع كبار مفكريها وفلاسفتها المشاهير، وعاش في مجتمع علماني، عرف عاداته وتقاليده وتراثه الفكري والروحي، أنا أسأله: هل أن مواطنا فرنسيّا، أعلن أمام الملأ أنه كافر لا يؤمن بالله ولا بيسوع ويعادي المسيحية، يُعتبر فعله مسّا بالسلم الاجتماعي؟ هل يُسجن لأجل كفره؟
إن هذه التّخريجة الغير حصيفة تُثبت إثباتا قاطعا أن الصدّيق هو اسلاموي، دخيل على الفلسفة، يتبنّى معتقدات السلفية الوهابية الأكثر تطرّفا وعنفا وتخلّفا، والتي جلبت الدمار للعالم العربي؛ إنه يُسرّبها في ثنايا كتاباته على جرعات متفرّقة، بين انفتاح وانغلاق، بين عبارة يونانية وأخرى لاتينية، بين خرافة وأخرى. وإلى كل من يشك في رأيي هذا فليَقْرأ العبارات القبيحة التي وصف بها ناقدي الإسلام أو المجاهرين بالخروج عنه. إنّ نقْدَ الدين الإسلامي بالنسبة إليه هو فعلٌ «لا يأتيه إلاّ شاذّ قريب في تصرّفه من تصرّف الأحمق أو المجنون ».
بدل أن يقول "كافر"، "مرتدّ"، ويُقرّ بما يُفتي به السلفيون وشيوخ الإسلام كلهم، من وجوب إقامة حدّ الردة عليه، فقد اقترح سِجنه المؤبد في مصحّة عقلية، لأن من يُنكر الإسلام ويعاديه، هو شاذ وأحمق ومجنون. في دولة الصدّيق، المرتدّ لا يُقتل في الساحة العامة أمام كامرات الصحفيين العالميّين، كما يحدث في السعودية، المرتد يجب أن يُقتل اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وفكريا، بالموت البطيء، في زنزانة انفرادية بمستشفى المجانين. لست أنا من يقول هذا بل الصدّيق نفسه: «إذا صرّح أحدهم على رؤوس الملأ بأنه يُفاخر بكفره ويتحدّى المجموعة المسلمة، فهو مجنون وجب أن يُعالج ».

***
لكي يَتجرّأ شخص على التفوّه بشيء من هذا القبيل يجب أن يكون دماغه مُعَتّما كليا بالتّعصب. إنّ دينا يلجأ إلى المحاكمات، إلى المشانق والمحرقة، بدل الأسوة الحسنة والتسامح، يثير الرعب أكثر من أيّ نظام استبدادي دموي. فالمستبدّ له، على الأقل، مَزيّة عدم المراوغة ويقدّم نفسه كما هو، لكن الدين يتظاهر بالدعوة للخير بينما ينشر الارهاب. إذا كان العالم هو مَسْكن يقع بين الشر والجنون، حيث أحدهما يحكم والآخر يأمر، الدين برهن على أنه كلاهما معا .
لِمَن لا يزال مُغتَرّا بيوسف الصديق، ويعتبره مفكرا عقلانيا حداثيا، أو حتى إسلاميا منفتحا، فإن هذا الرجل يتكفّل هو نفسه بتَسْفيه أحلامه والقضاء على آماله قضاء مُبرما، ويُظهر له وحشيّته التي تتجلّى في تفسيره لهذه الآية الوحشية هي نفسها: (واقتلوهم حيثُ ثقفتموهم..). وهذا أمر إلهي بقتل كل من يُعثَرُ عليه من الكفار في طريق المسلمين. بماذا أوحت هذه الآية للفيلسوف الصديق؟ لا شيء. لا شيء إلاّ أن «المقصود مِن "ثقفتموهم" ليس القوم الرّحَّل الذين لا قرار لهم، بل المقصود أولئك الذين يُقيمون في مجالس، أي المستقرّون ».
لن أعلّق ولو بكلمة واحدة. أترك التعليق والحكم للقارئ.

--------
مدير مركز القانون العربي والإسلامي http://www.sami-aldeeb.com
طبعتي العربية وترجمتي الفرنسية والإنكليزية والإيطالية للقرآن بالتسلسل التاريخي وكتابي الأخطاء اللغوية في القرآن وكتبي الأخرى: https://sami-aldeeb.com/livres-books



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن