-خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (15)

احمد جمعة
ahmedjuma44@yahoo.com

2020 / 5 / 22

ساد الفزع الحي المعزول، واسْتَعرَّ الخوف لدى تفشي الحرائق من جهة وإشاعة اختفاء الفتيات الصغيرات من جهة أُخرى، جُلّ المختفيات من بنات الهوي وقد أشاعت هذه الظاهرة تساؤلات سكان مدن وقرى البحرين كلها، ذاعَ الخبر من المنامة العاصمة حتى قرية الزلاق، ومن الرفاع حتى سترة، بنات يَخْتفَيّنَ فجأةً، تركز سؤال الأهالي، أين ذَهبْنَ؟ أُلصِقَ السبب بقوات الاحتلال البريطاني، وشاع هذا الخبر، حتى نفته إدارة المستشار الإنجليزي، وظل السكان حتى بعد النفي يتداولون الخبر، حُبكت قصص وأساطير حول الموضوع ما اضطر أحد مستشاري المقيم السامي في البحرين لإرسال مندوب عنه للقاء سكان الحي المهجور والذي من كبده انْدَلقَت الإشاعة، تدحرجت الوجوه كأنها وجوه أسماك مُسممة عمداً لصيدها من شدة البؤس الذي أصاب سكان الحي أكثر من غيرهم، كان الناس يعيشون في فاقَة حرمتهم حتى شم الهواء وزاد حصار الجنود الإنجليز من عسر الحياة، فقد نكد الجنود عليهم عند الدخول والخروج، وتم تفتيش الرجال منهم بمهانة والنساء بخزي جلب الذل لبعضهم ممن رأى في بيت دلال سبباً لتردد جنود الاحتلال لتفريغ نزواتهم، كان الحي في نظر الأحياء المجاورة محل هِجاء. بعدها جرى اسْتملاك فتيات الدار، صحيح كانوا يدفعون نصيب متعتهم ولكن هم من يقدر السعر وهم من يفعلون ما يشاؤون بالنساء، كانوا يستعمرون جسد فتاة الهوى باعتبارها سلعة يمضغونها بطريقتهم دون اعْتراض حتى لو سال الدم من الفتاة نتيجة نوبة عنف من جندي ثمل، لا توجد جهة للشكوى سوى تَبَرُّم من دلال التي تلقت ذات مرة صفعة من ضابط أطاح بهَيْبتها قبالة فتياتها ومن يومها تجنبت الاستياء أمامهم.
جاءت الإشاعة عن اختفاء البنات صفعة على كاهل الجنود الذين كانوا وقتها بحاجة ضارية لسمعتهم وهم يخوضون الحرب، انْتَشرت الإشاعة في أرجاء البلد حتى بلغت مستوى القيادات وجرى عقب ذلك تحقيق ثم نفي ثم تحرٍ، شغلت الإشاعة قوات الاحتلال ودفعهم ذلك لفك الحصارعن الحي والابتعاد عنه والتوقف عن زيارة بيت دلال وحتى المرور حوله تجنباً لمزيد من الإشاعات، حين زارت نرجس جوري في منزلها إثر انقطاع الأخيرة لفترة طالت منذ عودة راشد من الغوص، صُدِمَت الفتاة وكادت تسقط من طولها حين علمت من جوري أنها وراء نشر الإشاعة للتغطية على التحقيق في مقتل الإنجليزي ونجحت الإشاعة التي وراء ابتكارها تقي.
"نور الشمس يفضح المستور، ونور القمر يضفي عليه الرومانسية، الله عليه تقي.
قالت نرجس عبارتها بإعجاب واستدركت وهي تمسك معصم جوري وتنظر لها وقد بدت مهلهلة الملابس، كَثة الشعر، رثة الهيئة وراحت تبتسم بعد اعترافها بمصدر الإشاعة وبدا عليها الخُيَلاء.
"نرجس، هذا سرنا، تقي معرض للموت لو عَلِموا، أَنتِ تعرفين ماذا جرى ذاك اليوم.
"ومن ينسى؟
رَدَتْ نرجس ثم اسْتانفت وقد غيرت دفة الحديث مصحوبة بنظرة اسْتنكار بعد أن أفلَتَتْ يدها من معصم جوري.
"ماذا أَلَمَّ بسحْنَتكِ التي كانت فاتنة ومغرية؟ أين جاذبيتكِ جوري؟
فيما ابتسمت جوري واصلت الأُخرى التوبيخ بصوت كمن تُرَّتل الكلام في صيغة سؤال اسْتنكار.
"أين نَضارَتكِ التي طالما اجتذبت الرجال كالذباب؟
بدا التجهم على وجه جوري وانفصم شعورها عن واقع معاناتها، لم تَر نرجس بعد راشد، ولم تعلم بمِحْنَتهِ التي حَلَتْ به، ولا ضمور العجوز وهَبَلها، لم تر شيئًا مما حاكه القدر لها، لا تنوي الشكوى لها ولا فضح كُرْبَتها وما لحق بها من صروف الدهر، لا تنوي ذلك، حجبت مشاعرها داخل خزانة محكمة وأقفلت عليها، غيرت سحنة القنوط بابتسامة فاترة، وقالت بنبرة من لم يهتم بمظهره.
"أجمل ما في أجسادنا تلك الأجزاء التي نمقتها لأنه ببساطة، لا تراها عيوننا، وأَنْتِ لا تَرينَ سوى وجهي.
كانت فيما مضى وقت الرغَدْ حينما كانوا في بحبوحة الدار وغَضَارَة العيش وسعة الحياة، أُولِعَت كل منهما بالأخرى بشغف غير مفضوح تكتمتا عليه، لولا غريزة دلال الاستباقية، عَرْقلت افتتانهما ببعض، أو على الأقل جوري التي هامت بها في البدء ثم لَمَحَتْ الأخرى ذلك الهيام.
" لا تلوم الآخرين على انتقادك ما دمت تهتم بانْتقاداتهم.
قالت نرجس عبارتها مغيرةً دفة الحديث، فيما دفعت جوري صحن البسكويت الدائري نحو الأخرى التي أخذت قطعة فيما راحت جوري تسكب الشاي في الكأس.
"ماذا عن تقي؟
"ينوي السفر للدراسة حسبما ذكر لي.
رشفت نرجس الشاي وقد سكبت بعض قطرات منه على ساقها وقالت وهي تجفف الرطوبة.
"إذن أَنتِ ترينه؟
"من وقت لآخر؟
ردت نرجس بفضول متسائلة وكأنها تتحرى عنها.
"وراشد؟
"الرياح مجانية سواءً أنْعَشت ذاكرتك أو مسحتها، كل شيء بوقته يا حبي، دعيكِ من راشد وتقي آنَسْتِيني، ما أخبار الدار؟
قبل أن تفتح نرجس فمها تناهى صوت رقية العجوز وهي قابعة على العتبة عند حافة الفناء من الخارج.
" الحكيم تَعرفه من صمتهِ والأحمق تعرفه من لسان حاله.
أطْلَقت جوري عبارتها ونهضت، أَغارت على الفناء مُخَلفةً وراءها نرجس تحتسي الشاي، فوجئت براشد يستند على كتف والدته التي أوشكت على السقوط فيما شارف هو الانهيار، ركضت تسنده وتَحْفَظ في الوقت ذاته توازن الاثنين، سارت تضعه على الكنبة الخارجية الملاصقة للشجرة، فيما حَطَّت العجوز كيانها على الأرض، وقفت جوري تتأملها بنظرة حائرة انحسر عنها الاستغراب وعلت ملامح التوبيخ التي سرعان ما ظهرت في السؤال تجاه راشد.
"لم أُعانِ من الشقاء يوماً رغم كوني عشت فيه دهراً، عمري لم لا تَطْلبنيِ لأَدْعمك؟
قَهْقَهت رقية الكفيفة وقالت بنبرة افْتقَدت التورية وعيناها توجهتا للأعلى ويدها اليمنى راحت تعبث بعود خشبي في التراب على الأرض.
" كثير منا يعتقد أنه يخدع الآخرين وهو لا يعلم بأنهم يخدعونه وهو لا يعلم.
خرجت نرجس إلى الفناء عَقِب سماعها الأصوات في الخارج، حين وقع بصرها على راشد، انْتَصبت جامدة في مكانها، فيما يَبِسَتْ جوري عند قدم الأم الكفيفة حين رأت نرجس تقف مذهولة أمام العجوز وابنها المبتورة ساقه، شعرت بأنها كانت تخفي سراً وافتضح، كانت نظرات راشد ساهمة في المكان، يتلفت في الاتجاهات كلها بغموض ينم عن الإحساس بالمجهول الذي يقارعه في هاوية عالمه الذي تعرف هي ذاتها دَرَكْه المظلم الذي رَوى لهاَ قعره، تمثلت الفضيحة في شعور جوري رؤية نرجس لحالة سكان المنزل، تجسد ذلك في النظرات الساهمة المُقْتَضبة وهي تتنقل بين الحضور بمن فيهم راشد ذاته الذي غافَلَ الجميع وباغتهم حين قال بعبارة محبوسة طمست معالم صوته الذي تعرفه نرجس عندما كان يحييها الشتاء المنصرم.
" لا تَحبِسَ المرأة رغماً عنها وإلا وجَدتَ نفسك سجينها.
تفاقمت نظرات نرجس التي رأت في عبارته تجلياً لا يصدر عن حالة كالتي هو عليها، ردت بصوت انحسر عنه الازْدِراء الذي بدا على وجهها.
" لا اله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
داهمت الدموع عيني نرجس، تبادلت نظرة هِيام كالأيام الخوالي مع جوري، رمقتها الأخرى بنظرة اافْتتان، تبادلا المشاعر، ورغم الهَوى الذي تَجَلَّى بينهما ظلت عينا جوري حبيسة دمعها، في غضون اللحظة التي سادها الصمت واحتباس الأنفاس، طوقت نرجس صاحبتها وحَضَنتْها، انْبَجَسَ صوتها رَهِيفاً.
" كفّي عن تَصْحِيح أخطاء غيرك، لأن أخطاءك ذاتها بحاجة لتصحيحها.
قالت عبارتها وافترقت عنها، سحبت يدها من معصم جوري وبَرحَت المنزل مخلفةً وراءها صمتاً ساد الفناء، تقدمت جوري من العجوز رقية وأخذتها من يدها ونظفت عنها التراب العالق في كفيها وأسفل ثوبها، وضعت على كتفها دثاراً قديماً كان مركوناً على زاوية من عتبة الفناء، أسندتها وراحت تسير معها نحو غرفتها، ثم عادت تحمل دثاراً آخر وضعته على كتف زوجها وحملته على النهوض بمشقة وسارت به هو الآخر متكئاً على عصاة ذات رأس دائري ملفوف بقطعة قماش حتى لا تدمي يده، ظل الصمت مطبقاً عليهما حتى بلغا غرفتهما، وضعته على الفراش الأرضي، ولكنه أَعْرضَ أن يستلقي، أسند ظهره على الحائط وأغمض عينيه كما لو كان يَمِيل للنوم جالساً، تأملته برهة واستدارت تنوي الخروج، أدركها صوته الشَجِي.
"جور.
دارت حول نفسها وهي تلتفت نحوه وقد باغتها صوته الواجم مشوباً بنبرة كَرَبْ.
" من هو تقي المرجاني؟



****


رَذاذ لم يَتَبين منه إن كان مطراً أو ندى كثيفاً كسا الأفق ولَفَّه بستار من الضباب غشى المنطقة الممتدة من حزام الساحل الجنوبي الممتد عند مدخل المحرق البحري حتى الرقعة المهجورة بقرب المنزل الكبير المُنْدثر والذي أضْحى خرابة تعبث فيها الكلاب والقطط الضالة، على طرف الساحل عند السفينة الجانحة على اليابسة تربع تقي وجوري وجهاً لوجه على بسطة خشبية قديمة، كانت الشمس تستسلم للغروب بأشعتها الناعسة، الباردة بفعل النسمات الوافِدة من على سطح البحر مشبعة برائحة الأعشاب البحرية الجاثمة على حافة اليابسة، كان مساءً غائماً والرطوبة شديد الوطأة، ولم يكن أمامهما سِوى هذه البقعة من العالم يلتقيان فيها كلما أرادا الاختلاء، اعتاد تقي أن يصحبها معه للعاصمة يختلي بها في بيت سائق الجَدْ القديم ولكنها اليوم اسْتَهجَنت عبور الجسر بعد إفصاح زوجها عن اسمه لها.
"فضح المستور، العمياء، هي من سربت الاسم، لا أعلم متى الْتقَطتهُ؟ كَتَمتْ الأمر حتى لاحت لها الفرصة عجوز النار.
كانت تحدثه وهي ترجف من البرد، أمسك بيديها وراح يفركهما، فيما استطردت وما زالت نبرتها محتدة.
"من قال "الحب الأول يعلمنا السباحة والحب الثاني نغرق فيه؟
"أَنْتِ.
"لا، أَنْتَ.
بدا قرص الشمس في الأفق ما بين البحر والسماء من بعيد أكبر مما تَتَخَيلهُ العين، كان برتقالي اللون وقد انعكس على سطح البحر وتكسر على ظهر الموجات التي تَحَرشَ بها تيار الهواء البارد، مازال ماسكاً يديها ولكنه توقف عن فركهما.
"ماذا أفعل الآن؟
طرحت سؤالها كما لو كانت تستجدي فجوة لا تُشْقيِ زوجها القابع في كهفه المظلم، ولا تفقد تقي العاشق الوله، قبل أن يرد عليها، إستطردت.
"لا أقدر على النظر في عينيه، تعرف؟ أرى فيهما نَكد وضَنْك الكون كله.
إستدار للجهة الأخرى حين شعر بالهواء البارد يأتي منها، ليصده عن جوري، رد عليها حين اكتفت من الكلام.
"الحياة كالسفينة الشراعية إن فهمت دورك فيها كبحار ستصل بك لميناء السلام.
ردت بعفوية.
"تذكر البحر، هو من أوصلنا لهذه الحافة.
حدق في الأفق وَهْلة، حين لامسه رذاذ المطر، كانت تلك إشارة سماوية تنبئ بولوج الشتاء، شهر فبراير أوشك على الرحيل وبانَتْ السماء متجهمة بتكتل الغيم، كانت الشمس عند الظهيرة ساطعة بلون باهت وأصبحت عند المساء تومض بالرذاذ، تلفتت حولها، رأت المنزل الكبير على بعد وهناك من حوله إثنان من الاطفال راحا يتقاذفان شيئًا ما، عادت ونظرت نحوه.
"ستمطر، عَلَيَّ بالذهاب.
رد مبتسماً
"بَغْش، رذاذ حتى لا يبلل.
"أوْقاتاً لا أَفْهَمُكَ.
"ماذا تقترحين؟
عندئذ بدأت السماء تمطر، نهضا من حول السفينة الجانحة، وهرولا نحو المنزل الكبير المهترئ والمهجور، تسارع المطر خلال ركضهما، كانت تضحك وهي تردد مشيرة أمامها.
"سِنَنفَضْح أمام الأطفال.
رد عليها مقهقاً ويده فوق رأسها، والهواء يحرك الملاءة على جسمها، كانت تركض وظهر ساقاها يلمعان مع آخر ضوء سلبته الغيوم وحولته لشعاع أحمر داكن، بدد العتمة رغم هبوط الليل.
"الأطفال خير من يكتم الفضيحة، بعكس النساء.
لكزته في كتفه حينما بلغا الدار المهجورة، وقفا أمام طفلين بنفس السن تقريباً، بين التاسعة والعاشرة من عمرهما، ظهرت ملابسهما مهلهلة، ووجه أحدهما تكسوه البثور مع بشرة سمراء فاتحة، والآخر ذو بشرة بيضاء تميل للاصفرار، نحيلين، ظهرا حافيين، بدا من هيئتهما مطرودين أو منبوذين، هذا ما لاح لتقي وهو يتأملهما حينما باغَتهُ ذو البشرة الصفراء متودداً.
"تبللت زوجتك.
ضحك تقي وتبادل نظرات ذات دَلالَة مع جوري مؤداها اطْمَئنِي "فإنتِ زوجتي"
ظل المطر يتساقط بين مدرار ورذاذ، تبادل تقي الحديث مع الصبيين، تعرف على خلفيتهما الآتية من أبوين متوفين ووالدتين فقيرتين، شعر بأنهما بالغا في إظهار صورة شقائهما حينما أنهيا الكلام معه بطلب روبيتين، عندما غادرا يجريان تحت المطر، التَفَت إليها وقال باسماً.
"تُشْعلينَ هياجي عندما أُحدق بكِ وملابسكِ مبلّلة، ترغميني على الإثارة كعادتك حينما تتوترين. دنا منها، انتزع عنها الملاءة وراح يعصرها ويجففها، فيما بدا جسدها من تحت الفستان الأبيض القطني وقد التصق بتضاريس جسمها الذي يَحْفظَّ تضاريسه كلها، كانت ترتجف من البرد ولم يجد وسيلة لتدفئتها سوى الالتصاق بها ومحاولة احتضانها، لكنها أحْجَمَت عن الاستسلام له، وتَفادَت يديه، قالت وهي تتحاشى النظر في عينيه متظاهرةً بالصدود.
"أرجوك، مَنْ يده في النار ليس كمن يده في الماء، أَرْجعني للمنزل، لم تساعدني حتى في رسم طريقي مَعَكَ أو مَعَهُ.
"هل أنت مستعدة للتخلي عنه؟
"لا.
رد وهو ينظر للخارج للتأكد من توقف المطر، كان هناك ضباب ورطوبة قاتمة تخيم على أفق النظر من على بعد، عاد يتطلع في وجهها وأردف.
"إذن أنتِ تبحثين عن حجج، أنا لن أتخلى عنك لكن لا أستطيع الارتباط بكِ.
قالت بنبرة استهزاء بدا منها سِيما التهكم.
"لأني عاهِرَتكْ، من يتزوج عاهرة؟ لا تَبخْس ذاتك، ما أنا إلا وعاء وقت الذروة تَمْلَؤه ثم تلوذ بالفرار.
رد معاتباً بنبرة من يَصُون هدوءه.
"أَنتِ من فَرَ ولست أنا، هل أُذكرك؟ لو كنت أخْتارَ التخلي عَنكِ ما وجدتِني الآن أمامك.
"لا أَنْكر وجودك معي، لكن من أجل متعتك، لو فَقَدْت نضارتي هل ستبقى؟
سارا في الظلام صامتين، حينما بلغا منعطف طريق الدار انحنى عن وجهتها، وافترقا بعد أن وضع في يدها مبلغاً من المال، ظل يراقبها وهي تخطو مسرعة باتجاه منحنى الطريق المعزول المؤدي للدار، ثم سار مردداً.
"كم هي نَضْرَة، كم هي بائسة.
كان طريق العودة للدار يمر بعبور الجسر عند حدود المساء، بداخله رغبة شنيعة لمطارحتها، لم يكن أمامه فرصة يستغلها وهي تقف على مشارف حافة قد تهوي بها لحفرة ما لم يتحدد رسم طريقها بينه هو وبين الزوج البائس، هو الآخر شعر في قرارة نفسه بالإجْحاف تجاهها لشدة تعسفه، لكنه عاد وبدل شعوره حينما أقنع نفسه بأنه منحها ما لم يقدمه أي زبون رغم كونها تطارح الآخرين، شعر ببرودة الضمير تمتزج مع برودة الجو الليلي وهو يقترب من محطة سيارات العبور حيث لا توجد سيارة واحدة تلك اللحظة، انزوى بجانب مقهى صغير بقرب الواجهة البحرية أضاءته مصابيح زيت وظهر بعض الرواد جُلَهم من البحارة راح البعض يدخن النارجيلة، وقف ينتظر، ثم دلف المقهى المكشوفة وبَرَكَ على طرف أول مقعد خشبي طويل تاركاً مسافة بينه وبين بقية رواد المقهى، فاحت رائحة احتراق التبغ مع رائحة دهان السفن العفنة، لم يكن هناك بينهم من هو في سنه، أغلبهم كانوا بسن الخمسين والستين من البحارة، حين راح بعضهم يحدق فيه، نهض وغادر المكان حانقاَ وقد تملكه سخط على ثيابه المبللة وغياب سيارات عبور الجسر للعاصمة، وزاد من غيظه معاودة شعوره بأنه تعسف تجاه جوري.
****
دلفت الغرفة العبقة برائحة البخور الصاعقة، تلك التي أشاعتها في الدار رقية الكفيفة، رأت رجلاً نحيفاً ضامراً ممدًا على ظهره ووجهه للسقف، كان مضطجعاً ساهماً حينما وقفت تنظر إليه وقد أغمض عينيه حالما لمحها تدخل، اسْتَبدَّ بها الإحساس بالضياع، تبقى؟ ترحل؟ تترك الدار وتهرب؟ أم تظل معه كقسط عليها أن تدفعه، هل من الإنْصاف أن تضحي بحياتها من أجل البقاء راعية له مدى العمر؟
"أين الإنصاف في الانْصهار معه ومع والدته المقعدة العمياء؟"
لاذت مسرعة بالفرار من الغرفة حين شعرت بأنها توشك أن تخنقه لا كراهية، بل شفقة عليه، لا تتحمل لحظة يفتح عينيه ويرمقها بنظرة خاطفة تلمع فيها صورة تقي الذي تأمل ألا يراه، كَذَبتْ شعورها بالرحمة تجاهه، لم تكن رحمة بَل مُواساة تخفف من وطأة عذاب الضمير، لتبرئ ذمتها من الشعور الدَنيء وهو يهبط بها من حين لآخر نحو حافة السقوط في أي من الحفرتين، راشد أم تقي.
في المساء عندما أضاءت الفناء بمصباح الزيت وانْتهت من إعداد وجبة رقية الكفيفة، ودت لو تهرب من الدار وتترك مصيرها للرازق، وبدلاً من ذلك راحت تلملم شتات أفكارها في كيفية التصرف حيال مصاريف الدار التي تضاعفت مع غَشَيَان الشتاء وإقبال الناس على شراء البطانيات والفحم والزيت والملابس القطنية، كما صادف ارتفاع أسعار المواد الغذائية وقت اشتداد وتيرة الحرب، وسقوط بعض القذائف في مناطق قريبة.
في الداخل اشتد الطقس في الغرفة، تغلغل البرد في عظم الرجل وجعله يرتجف من دون صوت، كان قد استفاق للتو من كابوس قبض على أنفاسه وهو نائم، صحا على رعشة في ساقه المبتورة، وجد نفسه في بركة من العرق رغم البرد، أسفل فخذيه لشدة وطأة الكابوس الذي بدأ بفتاة حورية فائقة الجمال، ماجَنَةْ راحت تداعبه فوق فراش من الحرير وحوله بركة ماء تسبح فيها طيور وورود وأوراق شجر صفراء، كان الوقت مساءً حين صحا منتفضاً وقد وجد نفسه مُحْتَلِماً في يَمٌ رَسَبَ في قاع من شهوة تاق عبرها للجسد المَسْجى أمامه لكنه عجز عن الوصول لهُ واقتحامه، كانت تفصله عن الجسد الأبيض الناصع كالحليب خطوتين أخفق في بلوغه، ظل يحاول انتزاع خطوة نحوه لكنه أفاق من الحلم وهو مازال منبطحاً على ظهره ووجهه للسقف ظل عالقاً لوقت لا يعرف كم إستمر إلى حين وَلَجَت جوري عليه مع أذان المغرب، لتجده يَرْتَعد من البرد ومن شيء آخر، ربما كانت وطأة الحلم الذي غاص فيه بعد تناوله وجبة الغداء الغَلِيظة، لكنه اخْتَلجَ أكثر حالما طَرّ عينيه لتسقط نظرته الساهمة لوهلة على وجه جوري وكأنما يراها من بعد زمنٍ طويل، هرعت خارجاً ثم رجعت ومعها بطانية ثقيلة بها كل الألوان ومطرزة في الذيل، جَثَت مُنْثنية تغطيه فوقعت خصلة من طرف شعرها على وجهه وفاحت رائحة بدت له زكية، رغم كونها طوال اليوم تطبخ وتكنس وتغسل ولم يتسنَّ لها وقت حتى للاغتسال، رآها في وجه امرأة بدت له كواحدة من حوريات البحر، بل تفوقهن رَوْنَقاً، انهَمر خلال ومضة سيل من أحاسيس انْبجَست معه كل أشواقه الملتهبة طوال شهور الغوص في هذه اللحظة التي جثت فيها عليه، كأنما اندلقت كل نضارتها عند فوهة أَنفه، رفعت رأسها بعد أن دَثَرتهُ من دون أن تعلم ما تركته وراءها من افتتان بها ولد من تلك الومضة السريعة العابرة التي انثنت تغطيه "لو تَبينَتْ فورة إحساسي وصراخ عظامي وحرقة شهوتي الآن، لو عَلِمَت؟"
كانت عيناه تصرخ برغبة فيها مكبوتة منذ بداية الصيف، في آخر ليلة قضاها معها قبل الإبحار كل تلك الشهور من الفراق الضاري، كان يعد الأيام منذ أبحر لهذه الوطأة من الشغف، قلبه يخفق بشوق كالسعير، ها هي مُلْكَهْ ولا يَمْلكها.
"أتشعر بالجوع؟
ود لو يصرخ ويقول"نعم أَشعر بالجوع منذ الصيف، منذ آخر ليلة تذوقت فيها طعم شَهْدكِ، كان سؤالها بمثابة إبراء ذمة قبل أن تتركه وتلوذ بالفرار، كان يحرث النظر في عينيها ويرى أفكاراً تقول "لا أقْدر على النظر إلَيكَ، لا لأني لا أُطيقك، بل لا أستطيع وحسب" أوجد عذراً لها وفسر نظراتها الغافية عنه بأنها طبقة تخفي وراءها الألم والشفقة في ذروتها.
رأت في عينيه لغزاً زاد من غموض نظرته إليها وهي توشك أن تُبْرح مكانها، توجست منه سؤالاً لكنها وجدته يغمض عينيه ككل مرة ويهرب.
"جور.
في كل مرة منذ اقْترانه بِها، يَخْتزل اسمها إلى جُوْر، تُدرك بأنه يَزْف نبأً يوشك أن يصعقها، الْتفتت نحوه، واقتربت منه، حين رأت في عينيه وَمِيض رغبة ما، إنْحَنت عليه من دون أن تعلم بأنها تُضْرم ناره.
"ضاجعيني.
كسراج مْتَصَ الضوء زيته وراح يضيء ببقايا رذاذ أنفاسه، طارت الكلمة من فمه كسهم حاد الشفرة، خطف منها الوعي، هز الأرض تحتها وسحب الدم من عروقها، رأت أمامها أشلاء جسد يمتلكه الهوى ولا يملك من الهوى إلا هشيماً، حفر طلبه منها مطارحته وهو راقد ووجهه لسقف الدار خدشاً غائراً شَجَّ روحها وانتزعها من أي رغبة في البقاء حية ترزق، تراءت لها الدنيا كمُسافِر عبر الزمن وتوقف بها عند خاتمة الرحلة، ساد الصمت، نظرت إليه، لمحت عينيه ترصد الأشياء، أكتشفت غيرة مخبئة من أمدٍ طويل ربما زرعتها العجوز العمياء أو التقطها من سائح فضولي، أو من شبحٍ في المنام خرج من كهفٍ مسحور، أو من ملك الجن الذي رآه مرة في قاع يَمّ أسَرَ بحكايات خيال.
"طارحيني، أَسْتَحق مرة أَخيرة.
لا تعلم من أين ولكن السماء انزلقت على رأسها من حيث لا تعلم كلاماً تناهى لها كليلة مات فيها جميع الناس على الأرض وولدت من خارج الثُقب الأسود، ربما في زمن آخر لم تعشه وقفت حائرة أمام أشلاء جسد، عظمٌ على جلد يحدق بها ويطلب المستحيل" أي رب في السماء؟ ليته يقتلعني من هذه الأرض "رأت في تلك اللحظة موتها تحريراً لها من الإثنين، تقي وراشد، وعادت بها الذاكرة المثقوبة بأبيات قالها من كان في حكم خالها، كما لقنتها والدتها قبل أن ترحل.
[ أضحــي التنائي بديلاً مــن تدانينا وناب عـــن طيب لقيانا تجافينا ألا وقـــد حان صبح البين صبحنا حيــن فقام بنا للحيــن ناعينا، مـــــن مبلغ الملبسينا بانتزاحهم حزنا مــع الدهـر لايبلي ويبلينا، أن الزمان الذي مـــازال يـضحكنا انسا بقربهم قــــد عاد يبكينا، بنتم وبنا فمــا ابتلت جوانـــحنا شوقاً اليكـــم ولاجفت مآقينا، نكاد حيــن تناجيكم ضــمائرنا يقضــي علينا الأسى لولا تأسينا، حالت لفقدكـــم أيامنا فـغدت سوداً وكانت بكـــم بيضاً ليالينا]*
بِصمت وسُكُون ووُجُوم، مَشَت نحوه كأنها قطعة صحراء قاحلة، إاجْتَثّ ملابسها، تعرت وانسلت فوقه، أطبق الصمت عليهما، أغمضت عينيها بشدة حالما شعرت بأن شبح تقي بدأ يَتَجَلَّى.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن