لا تُعر الكتب أبدًا

خليد البرنوصي
k.elbarnoussi@yahoo.fr

2020 / 5 / 22

"لا تُعر الكتب أبدًا، فلا أحد يرجعها، والكتب الوحيدة التي أحتفظ بها في مكتبتي هي الكتب التي أعارني إياها الآخرون."* ليس هناك من نصيحة أفضل وأجدى من هذه، لا شك أن صاحبها مرت عليه تجارب عديدة، ليختصر الأمر في هذا الدرس البليغ. ومع أني افتتنت بها، فعلى غير عادتي في مقاسمة النصائح المهمة مع معارفي وأصدقائي، فإن هذه بالذات أخفيها عنهم. خططتها بالحرف العثماني، ووضعتها في إطار مذهب خلف أحد أبواب خزانة كتبي. صارت تنبيها محسوسا لي عند كل حالة سهو ما، قد أفقد بسببها واحدا من كتبي، بالإضافة أنها تشعرني بالطمأنينة حين أجد فيها مسوغا حكيما لما أحتفظ به من كتب غيري. إنها ما يشبه صك براءة مع نفسي لنفسي.

صار لي مع القراءة والكتب علاقة وطيدة. ها أنا أتوفر على مكتبة تليق بشخصي، وبطموحاتي التي لا حدود لها. تشكلت عبر سنين، وفضاءات مختلفة. أتذكر من بدايات عشقي للحرف أن طلبت من أستاذي بعض الكتب، خاصة وأنه كان يشجعنا كثيرا على البحث والقراءة. دعاني مرة بعد ألحاح مني إلى مكتبته، وقال: لك أن تختار ما تشاء، حين تنهي قراءتها، يمكن لك أن تستعير أخرى. أخذت بضعة كتب قيمة، وانصرفت على أمل أن أعود سريعا.
ولم أعد أبدا...

مسارات الدراسة قادتني بعيدا، لم يكن أمامي وأنا أحمل معي رزم الكتب حيثما ارتحلت من مسكن إلى أخر، إلا أن أسجل في أعلى الصفحة الأولى من الكتب إسمي الثلاثي، وأدمغ أسفله توقيعي. توقيعي الذي تعبت من صباي على رسمه على الطاولات وأغلفة الدفاتر، حتى صرت مدمن على خطه الآن على أي بياض تصله أصابعي بأريحية، ما عدا بياض الشيك فلا زال يرعبني.

أيام الجامعة كنت شغوفا بالكتب. أقرأ كل ما يصل يدي من عند رفاقي وصديقاتي. وكان كل كتاب جديد لا يفارقني إلا وقد ملأت معظم فقراته سطورا، وبالهوامش على حواف الصفحات، حتى يكاد متنه يغيب بين تعليقاتي. وما أن أقترب من إنهاء قراءته، وبدون شعور أدمغه بتوقيعي، فيصير كما لو أنه جزء مني، ويحوي قدرا من كينونتي.
إنه لي وجزء مني، فكيف لي أن أتخلى عن بعضي.

لا أحد يمكن له أن يقنعني بغير ذلك، صديقاتي كن أكثر تفهما للوضع .
- لا بأس.. سأخذ نسخة أخرى، دع هذه لك.
في الغالب الى هنا ينتهي أي جدال مع الصديقات، إنهن لطيفات حقا، وأكثر تفهما.

بالنسبة لرفاقي، وإن كان الوضع يختلف قليلا، وحدث أن احْتدّ الجدال، والأخذ والرد، فغالبا ما ينتهي الأمر من جهتهم بقسم على أن لا يعيرو لي أي كتاب، ومن جهتي بمكسب لي أسر به كثيرا. كتاب جديد يضاف إلى مكتبتي.

لا شيء أغلى من أن تكسب كتابا. أوليس "خير جليس في الزمان كتاب".*

لاحقا في العمل مع رفاقي وزملائي، بسرعة تأقلموا مع طباعي، وصفها أحدهم مرة دون خجل بالسيئة. وصاروا يأخذون حذرا واضحا من إعارة الكتب لي، صحيح أني تهذبت كثيرا، وحاولت أن أتجاوز هذا الوضع المربك لي ولهم، فاهتدينا الى ما يشبه المقايضة، كتاب مقابل كتاب. ولكن لا أخفي عليكم أني كنت ذكيا في إنهاء ما يشبه تلك التجارة البدائية بمكاسب لي مهما بدت لهم بسيطة، تتعلق تحديدا في أهمية تلك الكتب التي أفوز بها، في تجويد مهامي الوظيفية وتعزيزها، أو بقيمتها المعرفية. لقد كنت تحت تأثير الطباع السيئة هذه، خبيرا في تعظيم قيمة الكتاب الذي ارتأيته أضحية للحصول على غنيمة أفضل، وأجعل صاحبها يتخلص منها وهو في كامل سعادته.

هذه التجربة التي وصفها أحد أصدقائي باللاأخلاقية والبعيدة عن الروح الإيجابية، كنت أحاول دائما وضعها في سياقاها، وفهم دوافعها، التي غالبا ما كنت أستسيغها، لأصل إلى ما يشبه رضى نفسي عن تصرفاتي.

يحدث أحيانا إن صادفت كتابا عندي، وتذكرت وقائع مؤلمة حدثت بمناسبة حصولي عليه مثل قطع صداقات كانت جميلة، أو خصومات عنيفة أو شابها سب أو شتم. في حالات كمثل هذه، أعترف أن ندما حادا يعتريني، لكنه ما يلبث أن يتبدد ليتحول فجأة إلى غضب جارف على الذين تمكنوا من كتبي إعارة، فخسرتها.
ورغم ما كان يحدث من مشاحنات فإن الخسارة بالنسبة لي واضحة وبسيطة: أن تخسر صديقا أفضل من أن تخسر كتابا.

مرة دعاني زميل، جلسنا في الصالون، كان واسعا، حسدته على نوع الأثاث الذي ينم عن ذوق رفيع لصاحبه، كما وضع رفوفا أنيقة على جنباته ليشكل مكتبة رائعة وغنية، كم تمنيت أن يكون لي مثلها. إنه محراب قراءة فعلا.
ما إن بدأت أتصفح بعض العناوين حتى انتبهت إلى لافتة كتب عليها بخط جميل:

"ألا يا مُستعير الكُتْبِ دعني
فإن إعارتي للكُتبِ عارُ
محبوبي من الدنيا كتاب
وهل أبصرتَ محبوباً يعارُ"*

"يا بن الكلب" قلت في نفسي، شاغلته حتى أخذت كتابا أثارني عنوانه "تاريخ القراءة"**، دسسته تحت معطفي وراء ظهري، انتشيت فعلا، وأنا أتأكد من أنه أخذ مكانا آمنا.
وضعته في رف يليق به بمكتبتي، إنها مكتبة حقا، ولكل كتاب تاريخ فريد في طريقه ليصل إلى هنا، حتى صار لي."إن كل هذه الكتب هي ملكي، إن مجرد وجودها يبدو وكأنه يغدق علينا الحكمة حتى دون قراءتها"*

لا أنكر أن اللحظة الوحيدة التي احسست فيها ما يشبه العار، وتمنيت لو شقت الارض وابتلعتني وكتبي، هي مناسبة زيارتي إلى برشلونة حيث قادتني خطواتي الى مكتبة «دير سان بدرو»، يوما واحد قبل إعلان حالة الطوارئ الصحية. وأنا داخل أروقتها بدت لي لافتة مميزة: "من يسرق كتاباً، أو يحتفظ بكتبٍ كان قد استعارها، عسى أن يتحول الكتاب الموجود في يده إلى أفعى رقطاء، وعسى أن يُصاب بشلل ارتجافي قاهر وأن تُشل جميع أطرافه، عسى أن يصرخ عالياً طالباً الرحمة وعسى ألا تنقطع آلامه إلى أن يتحول إلى رمّة متفسخة، وأن تعشعش الديدان في أحشائه مثل دود الموتى الذي لا يفنى، و عندما يمثل أمام يوم الدين لتلتهمْه نار جهنم إلى الأبد."*
وأنا أقرأ، تحسست أطرافي كانت ترتجف.
___________________________________

* مقتبسة من نصوص قرأتها، ولا أنوي نسبها لأصحابها.
** عنوان كتاب ل آلبرتو مانغويل.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن