عناد ينكسر

محمد الدرقاوي
saad44saoud@hotmal.com

2020 / 5 / 21

وكأنهما على موعد، أو كأن أحدهما يضبط خروج الآخر على ساعته ليلتحق به .. يلتقيان كل صباح ،يرفع لها اليد بالتحية ، فتبادله الحركة بعينين ضاحكتين ، وقد تغمزه بإحداهما أحيانا ، ويدها على فمها بريد قبلة من شفاه سخية ، تتجه نحو سيارتها وعنقها يشرئب الى الخلف ، هل سيفتح لها نافذة أكثر من التحية أم سيركب سيارته كعادته ثم يترك الحي ؟ ..
مليكة
حين ترفع راسها تجد مليكة زوجته تراقب وبدقة ،من الطابق الرابع ما يروج من تحت نافذة غرفة نومها ، وحتى تذيب أي وسواس قد يطرق صدر الزوجة ، ترفع اليها يدا كتحية صباح عادية ؛تستدير الزوجة وتتوارى دون ان ترد عليها بمثل ،وقد تأكدت أن سيارة زوجها قد غادرت الحي ، فهي تدرك طيبة زوجها ادراكها وبصورة أعمق لعبة الجارة القذرة والتي مذ سكنت الطابق الأول من العمارة وهي مثار شبهات وقيل وقال بين سكان العمارة ..امتنعت عن السكن في الطابق الثالث أو الخامس وبهما شقتان أحسن وأكثر اضاءة وتعرُّضا لنور الشمس ، وأصرت على الطابق الأول بحجة أنها تخاف استعمال السلم الكهربائي ..
تعرف جارتها حسناء معرفة دقيقة ، فهما معا من خريجات معهد واحد كما اشتغلتا معا في نفس الإدارة بعد التخرج ، وقد استطاعت حسناء أن ترتقي بسرعة ، لأنها تمتلك من وسائل المرونة والسخاء والاغراء ما يجعل أكثر من رئيس يهلل بعدها بمدح وثناء ،
و تستطيع ان تبذل جهودها والقيام بمهام أخرى خارج إدارة العمل تلبية لرغبات رئيسها ، أو السخاء بساعات إضافية تتنازل فيها عن عطلة أسبوعية لتكون رهن إشارة الرئيس ، وقد تنقلت في أكثر من إدارة ، فهي صيت ذائع ،في جبر أثر الزمان على شيوخ الإدارات الذين خلدوا على كراسي االإدارة الى أن يموتوا فوقها أو يمرروها الى ذوي
القربى ..
حسناء تدرك مليكة جيدا ، قدرات عملية ،وغربال ذكي لسلوكات الناس ، ولا يقفز جدي خلف ظهرها ،لهذا كانت تحاول ان تبتعد ما استطاعت عن مواجهتها، لكن الاحتراس منها لم يبعدها عن تصويب اهتمامها لزوج مليكة ، وقد سددت سهام اغرائها الى الزوج الطيب ، الحمل الوديع ، فلئن استطاعت ان توقعه ففي ذلك كفايتها انتقاما .. ولتنفيذ فكرتها الانتقامية اكترت شقة في نفس العمارة التي تسكنها مليكة ، وفضلت ان تكون قريبة من مدخل العمارة .. فحسناء لن تنسى أبدا كيف تم توقيفها عن العمل من آخر إدارة عملت بها، فضاعت منها امتيازات مادية كبيرة بعد تبليغ من قبل مليكة ، فتربصت الشرطة بحسناء وقد تم ضبطها مع رئيسها في وضع مخل بأحد الشاليهات خارج المدينة ، ورغم انها تمكنت من الخروج بلا متابعة لموقع الرئيس سنا وسمعة وصيتا وأبعد الى إدارة أخرى بترقية معتبرة ، فقد تم توقيف حسناء عن العمل كذر الرماد في العيون ، ثم ما لبثت أن خرجت من تحت رمادها ،فاشتغلت في القطاع الخاص بتوصية من رئيسها السابق خوفا من لسانها السليط في الأوساط الإدارية ..وها هي تشرق من وراء الضباب مترصدة مليكة ،تلهث بحرث قد يوقع الزوج وفي ذلك كفايتها ...
تأخر زوج مليكة عند الزوال ،وبعد أن أبطأ منه خبر ،هاتفته مليكة فاعتذر أنه في اجتماع مع زوار أجانب ولا داعي لانتظاره للغذاء ..
تناولت مليكة غذاءها منفردة ،ثم شرعت تستعد للخروج الى عملها ..
وهي في الطريق صدرت إشارة ضوئية من هاتفها ، فمليكة لا تحتمل رنات الهاتف وهي خلف قيادة سيارتها ، لهذا فهاتفها دوما على الوضع الصامت ،"رقم لا تعرفه ،" أهملته ،كما تهمل كل مكالمة يخفي صاحبها هويته ..
دخلت مكتبها ، اقبلت الكاتبة بالملفات التي أنجزتها صباحا ..
كانت الكاتبة تتحرك في مكانها بغير قليل من التوتر، كأنها تريد أن تبلغها أمرا او تستفسر عن أمر ، ودون ان ترفع ملكة رأسها عن إحدى الوثائق سالتها :
مابك ؟ هل بك شيء أم تريدين قول شيء ؟
تلعثمت الكاتبة قبل أن تنطق :
لا ..ظننت أنك ستتغيبين هذا المساء !! ..
استمرت مليكة في قراءة الوثيقة وقد احست أن بين طيات السؤال خبرا تريد الكاتب تبليغه ، قالت للكاتبة :
خير ان شاء الله ، أتغيب !! .. لماذا ؟
ترددت الكاتبة قبل ان تخرج هاتفها من جيب سترتها ، فتحته على اليوتيوب ،ثم قدمت الهاتف الى مديرتها ..
رفعت مليكة راسها تسلمت منها الهاتف وقرات :
مدير شركة الجواهر يقضي نحبه في حادثة سير مع عشيقته ..
حدقت مليكة في الصور، لم تتوضح لها أية صورة تتأكد منها أن المعني هو زوجها رغم الشبه الكبير ..
اهتزت مليكة من مقعدها وعيناها قد طفقتا بخوف ، تذكرت ومضات هاتفها وهي في الطريق الى عملها ، أخرجت الهاتف طلبت زوجها ، الهاتف يرن وزوجها لا يرد ..ارتفع وجيب قلبها أكثر ..
ضاق صدرها وصارت تتنفس بصعوبة ، ادارت الرقم الذي كان يرسل إشارات وهي في السيارة ، مشغول ،لا يرد ، ادارت رقم الهاتف الثابت لعمل الزوج ، ردت الكاتبة : سالتها مليكة عن زوجها فقالت الكاتبة :
شيء ما حدث هذا المساء و السيد المدير مع رئيس مركز الشرطة في المكتب المجاور خرج وترك هاتفه على مكتبه
هل انت من هاتفته من لحظات ؟
اطمأنت مليكة أن زوجها حي يرزق وان في الامر شيء ، طلبت من الكاتبة ان تبلغ مديرها ان يتصل بعد نهاية اجتماعه ..
بقيت مليكة رغم رزانتها كانها قطعة لحم في سفود على النار ،تترقب مكالمة من زوجها ، بعد ازيد من ساعة كلمتها الكاتبة وأخبرتها ان زوجها في الطريق الى البيت ويطلب منها أن تلحق به ، استغربت ..لماذا لم يكلمها من هاتفه ؟
في الطريق الى البيت رن هاتفها ، غير معروف ، ردت الهاتف الى حقيبتها وتابعت القيادة ..
وجدت زوجها في باب العمارة يترقبها ، اركنت سيارتها ،وقبل ان تصل اليه كانت حسناء أسبق منها اليه ؟ لا تدري من اين خرجت ، ارتمت عليه و كأنها تتعمد ذلك ، حاول أن يبعدها ويتجه نحو مليكة التي تركتهما معا وولجت باب العمارة ، قبل ان يلحق بها الزوج كان المصعد الكهربائي قد تحرك فانتظر عودته ..
وجد باب الشقة مفتوحا فدخل ، ثم صفق الباب خلفه ، قصد مليكة التي كانت تجلس على حافة السرير في غرفة نومها ..بسرعة بادرته :
أنهيت غرامياتك ؟
رد عليها في قلق :
أية غراميات والله لا اعرف لماذا تتصرف جارتنا بتلك الطريقة كأنها تتعمد غيضك والإساءة اليك..
قالت في حدة ونوع من السخرية :
هي تعرف لماذا ؟ لكن أنت ألا تعرف ؟ ورغم ذلك تشجعها ، تبعث في نفسها أملا بلقاء مرتقب ،أليس كذلك ؟ هي ملوثة ،نعرف ماضيها ، لكن انت ألا تفكر في صيانة كرامتك وكرامة بيتك والجيران من حولك ؟
كان يحاول ان يدافع عن نفسه ،كونه لايريد الدخول في عداوات جانبية مع أي كان من سكان العمارة ، وقد سبق ان شرح لها هذه الأمور ، فحسناء تبدو أنثى عنيدة ،وهي تريد ان ترد الصاع صاعين لمليكة ، وهو لا يريد أن يركب لها خاتم على قد اصبعها ،لهذا فكل امرئ يصنع قدره بنفسه ..
مرة أخرى تسأله وكأنها تريد تجاوز حديث حسناء : لم تجبني ماذا وقع هذا المساء ؟
والله اقلقتني اتهاماتك ، أنا نفسي لا ادري ما وقع ، ومن نشر الخبر الزائف الذي روعنا وروع الناس من حولنا ..
قالت : ولذا لم تبادر الي بهاتف ؟
قال وكانه يستدرك كلامه ، هاتفي اخذه معه رئيس قسم الشرطة ،
غيرت مليكة ثيابها واتجهت نحو المطبخ ، لحق بها ، وضمها من خلف ، وضع راسه على ظهرها وقال:
ــ مليكة عزيزتي، انت تعرفين حبي لك، ولا أحد يستطيع أن يحول مجراه، ونحن عقلاء ذوو مسؤولية ،يلزم أن نتصرف بعيدا عن طفالة الصبيان ..
هي تدرك حبه لها ، ادراكه لذكائها وحرصها على بيتها ، لكن دوما تخشى حسناء ، سحلية في ظاهرها ، افعى من باطنها ..
قبل عنقها فاقشعر جسمها ، وقد أدخلت راسها بين كتفيها ، فبادرته :
غير ثيابك ريثما اعد العشاء ..
لم
تتغير عادة حسناء مع زوج مليكة ، فكأنها معه على موعد صباحي
لكن ماشغلها أنه لم يرفع لها يدا بتحية، وأنه قصد سيارته وكأنها غير موجودة ، كما أثارها أن مليكة لم تكن في مكانها كالمعتاد . ماذا وقع ؟ اين راحت ؟ ابتسمت باستخفاف وسخرية وكأنها لم تبال لا بالزوج ولا بمليكة ، حركت حاجبيها الى أعلى ثم دخلت سيارتها ..
خرجت مليكة من المصعد الكهربائي الى سيارتها مباشرة ، وبدل ان تتجه يسار ا الى مكان عملها دارت يمينا الى الإدارة العامة للامن ..
جلست الى رئيس دائرة الامن ،بعد تقديم نفسها ، شكر لها الرئيس قدومها لانه كان على وشك استدعائها ، بعد حديث ليس بالقصير كان رئيس الدائرة يدون كل ما تقول ..ثم وضع أمامها لائحة بأرقام هاتفية وطلب منها هل تعرف أصحابها ؟
قالت لرئيس الدائرة :
أولا أنا وزجي لا نرد على ارقام مجهولة الهوية ولا على مكالمات غير معروفة ، ثانيا أن رقمين من هذه الأرقام أظنها قد وردت منهما إشارة أول أمس لم ارد عليهما ..لحظة من فضلك ..
أخرجت هاتفها من حقيبتها فتأكدت ان الرقمين حقا موجودان ضمن مكالمات سابقة ؛ تبسم رئيس الدائرة وقال :
ــ هنيئا لك ذاكرة قوية ..
انتبه أن هاتف ملكة قد ومض بسرعة ثم غاب الوميض، تسلم منها الهاتف ، ظل يتنقل عبره بعد أذن منها ، أدخل رموزا ، فاكتشف ان أحدهم قد اخترق اللحظة هاتفها ، استدعى احد معاونيه وقدم له الهاتف بعد أن شرح له ما وقع ، تسلم المعاون الهاتف ،غاب قليلا ثم عاد ..
قال رئيس الدائرة لمليكة ، هاتفك صار تحت المراقبة ، تصرفي عادية وردي على جميع المكالمات بدون تمييز وبهدوء ، وحاولي شد كل متكلم لا تعرفينه قليلا باي شي ء ..
لاحظت مليكة وهي في عملها ان هاتفها يرسل ومضات بين حين وآخر دون أن يرن ، لم تنشغل بذلك ما دامت تعلم أن هاتفها مراقب ..
بعد أربعة أيام زارها رئيس دائرة الشرطة في البيت ومعه مساعده ..
طلبا أن يدخلا البيت لان الحديث قد يطول ..
ضحك الرئيس وقال لمليكة بعد ان استقام ومساعده على اريكة جلدية : لماذا طلبت الطلاق من زوجك ؟
فاجأها السؤال وقد استغربت أن يكون هذا قد صدر منها أو مر بخاطرها يوما
قالت : أعوذ بالله أن أكون قد فعلت !! ..
قال الرئيس وهو يضحك :
عندي الدليل ، كما لي دليل أن لك علاقة غرامية مع رئيس أحد الادارات قولي الحقيقة ...
اهتزت مليكة في مكانها فأحس الرئيس انها رغم قوة شخصيتها وتعقلها قد تحجرت الدموع في عينيها وعلى وشك أن تنقض عليه ،وان زوجها ينظر اليها مشدوها في استغراب ، فبادر الرئيس الى القول :
ـ أطمئنا لا شيء من هذا قد وقع ،فمن اخترق هاتف السيدة هو من يقوم بذلك عبر هاتفها الى هاتف الزوج ..
حين ستتسلم هاتفك غدا ستعرف كيف يتم تخريب البيوت بالكذب والمغالاة والتلفيق ...
تنفست مليكة بعمق وكأن اتهام الرئيس قد حركها بزلزال في قيمها وعفتها ، ضحك واعتذر ، ثم أشار الى مساعده وقال :
تمم انت صاحب الاختصاص ..
قال المساعد :
من هذا الحي تخرج المكالمات عبر خمس هواتف بأرقام مختلفة؛
وما دونه السيد الرئيس من معلومات أمدته بها السيدة مليكة جعل الاحتمال مؤكدا ان تكون المسماة حسناء هي صاحبة ما يقع .
نظر الزوج الى مليكة وكأنه يستفسرها عما أخبرت به الشرطة ؟
ولماذا أخفت عليه هذا الامر ،؟ لاحظت مليكة اضطرابا شديدا يعتري زوجها الذي وضع هاتفه بغير قليل من الانفعال والتفت اليها كأنه يستنجد بها !! ..
قبل أن ينصرف الرئيس ومساعده أوصيا مليكة وزوجها الا تصدر عنهما اية إشارة قد تنبه حسناء ، وان يتصرفا كما كانا معها من قبل ، والا يستعمل أي منهما هاتف المنزل لاي غرض كان ..ثم اخبرهما أنه سيكون في انتظارهما على الساعة الثامنة صباحا بمكتبه ..
حين
خرجت مليكة وزوجها من المصعد الكهربائي قبل الثامنة صباحا بقليل كانت الشرطة تطوق مخرج باب العمارة ،وكانت حسناء ومعها رجلان وامرأة أخرى يصعدان سيارة الشرطة ..
شيعت مليكة حسناء وهي مقيدة اليدين بأسف جعل مدامعها تشاركها الأسف ،تمتمت مع نفسها : "الى متى سيظل الانسان عدو نفسه ؟ التفتت حسناء فرات مليكة تشيعها فحولت وجهها الى الجهة الأخرى بنوع من التحدي وكأنها لا تريد أن تظهر ضعيفة أمام مليكة ." أتمنى أن افقأ تلك العينين ،أو أحرق ذاك الوجه الذي يعلن انتصاره علي " فكرت حسناء . غادرت سيارة الشرطة الحي ,انتبهت مليكة أن زوجها ينتظرها بباب سيارته ركبت بجواره وانطلاقا الى دائرة الشرطة ..
اكتشف الزوجان ان حسناء تستغل منزلها لأغراض أخرى غير السكن ،وبعد أن تسلم الزوج هاتفه قال له رئيس الدائرة :
أنت من كان السبب في اختراق هواتفكما ، فقد اتصلت بحسناء وطلبت منها أن تكف عن مضايقتك في باب العمارة وتحت أنظار زوجتك ، وكأنك تتوسل اليها بوحي عن بإمكانية اللقاء خارج الحي ..
قفز الزوج من مكانه :وقال :أعود بالله ان كان ذلك قصدي ..
طلب منه رئيس الدائرة أن يستكين فهو يعلم قصده النبيل لكن ربما هي أولت غير ذلك ثم تابع حديثه :
وهي لم تكن تنتظر أكثر من هديتك لتمسكك من رقبتك ولست َالأول بالنسبة لها ، اخترقت هاتفك أولا وانت تكلمها ثم بدأت تستغل كل معلومات الهاتف عن طريق مساعدين لها ،هما من وجدا في بيتها مع امرأة أخرى ..
أنت أكبر من أن تعتذر لحسناء ومن هن مثلها ، أو تطلب منها الكف عن سلوك هو من طبيعتها ، ويجب أن تحمد لزوجتك صرامتها في تعاملها مع الموقف فأنقدتك من ورطة كانت ستأتي على عمرك المهني والاجتماعي..
في الطريق الى البيت كان زوج مليكة يحاول أن يبرر موقفه .. لكنها ظلت صامتة وكأنها تتعمد أن تحسسه بذنبه ،هي تعرف طيبته ، متأكدة من وفائه، لكنها لم تكن تتصور أن يتلبسه الغباء فيعتذر لواحدة مثل حسناء وهو يعرف عنها مايعرف ..قالت له قبل أن تغادر سيارته:
ــ انت يا زوجي العزيز في حاجة الى تغيير برمجة أبويك العاطفية في نفسك، أنت في حاجة أكيدة الى برمجة حديثة تزودك بالقوة ، تجفف ماضيك السائل فيك الى حاضر يغير من نظرتك الى الناس .. افكارك يلزم أن تظل تحت سيطرتك أنت ولا أحد غيرك يمكن أن يوجهها ببسمة مزيفة أو مظهر مشبوه .. مثل فرنسي يقول : طيب جداغبي جدا



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن