-خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (9)

احمد جمعة
ahmedjuma44@yahoo.com

2020 / 5 / 12

بَزَغَ صوت أذان الفجر بعد أن صعد سلم خيط الشمس الرقيق المنبثق من طبقة الفَلاء سابقاً ولادة الشمس، اعْتَلى المؤذن المصطبة عند مقدمة السفينة التي سادها الظلام، ظل يكمل أذان الفجر حين هَرع بعض الغاصة بالنهوض مُتَثائبين ينفضون عنهم الكسل والوهن العالق بأجسادهم النحيلة كأعواد الخشب على إثر توالي الأيام والشهور وهم بقاع البحر المَسجور يشقون بَطْنَ النار ويسبحون وسط الحمم، من بينهم راشد الذي سَكَن قعر اللجة ويقتات طوال اليوم على التمر والماء والهواء، عند المساء يستهويه الصيد، حتى حين يلوذ البحارة بملاءاتهم للنوم، يغفون منذ الغروب فيما يظل نفرٌ منهم يلهون على السطح.
دأب راشد على المماطلة مع الوقت، يسرق النوم من عينيه ويستجمع شتات ذهنه بعيداً عن اليابسة، يلقي بالخيط في البحر، يسقط وسط الظلام محدثاً تموجات مصحوبة بصوت لجة الموج، ذهنه المُتقد عند حدود المنزل الصغير بفتاته المسحورة كما ظَنَ بها وأمهُ رقية الكفيفة ذات الرنين والسائرة حافيةً على بلاط السنين تحمل الصبر على ظهرها المقوس، حلمه بالدانة تزين صدر جوري، بسلم يصعد به السماء التي ظنها قادرة على نزعه من الفقر، يستيقظ اللحظة على وقع الأذان فيؤجل الحلم حتى المساء ويبدأ الغَوْص بالانحدار إلى القاع المدلهم ذي الألسنة الحمراء بالزهو وسط أشجار وحقول وغابات وأنهار كلها تسبح معه في القعر.
وجهه البنفسجي في النهار والرمادي ليلاً تعلوه شحوب صغيرة تخفي سِنَهُ البالغ عشرون عاماً أو أقل، شعره الناعم المحلوق، عيناه الجاحظتان عند المغيب وروحه الحفيفة الأشبه بحفيف احْتِكاك الشجر، يرنو تحت الماء لأكبر حفنة من المحار، يلهو مع الحظ والمخاطر، عرف كيف يدنو من شق البحر عن لؤلوة يكون له منها نصيب رغم مصادرتها منه عند الحافة.
"يا عشقي البعيد، أرنو اليكِ يا ملكتي جوري"
ظل ينزع لِلتَغني في سريرته عسى أن يهدأ وَلَه الليالي الطوال والنهارات العصية على الصبر، يردد موالاً شجياً في أعماقه ليذيب عذاب الفراق، ينسى وطأة حرمان الجسد عند الغسق كما يراه في الحلم، سيطول الانتظار لكنه عائد و"العَوْد احمد" كما يقول البحارة.
"العَوْد جوري، أنا أقول.
ابتسم في الظلام باحثاً عن نجمة في السماء تهديه لطيفها الناري المحتدم بالشهوة المعلقة في صارية شغفه لها طوال الموسم، لا يطفئه حتى قعر السفينة التي تحمله كل هذا الزمن الممتد من بداية الصيف حتى بداية الشتاء في رحلة الجحيم كأنهم أعجاز نخلٍ منقعرٍ، اشْتَق التعبير وهو يرنو لصوت أحد البحارة دأب على قراءة بعض الصور القرآنية وقت العشاء أو قبل الغطس، كانت الأيام وهي تجري تحوله إلى شيء معلق في الأعلى يفوق قمة الصارية ويهيم به حتى يكاد يسكب دمعه لولا خشية رؤية رجال البحر لأحدهم وهو يسكب دموعه ليقبع بقية عمره محفوراً في ذاكرتهم كإمراة لا حول لها ولا قوة.
بدأت الشمس بالسطوع حين أخذ يغطس مسافراً في أجواء المياه الخضراء عند سطح الأرض، في القاع وقد اسْتَدرجته المسافات فأخذ يبتعد تدريجياً حتى بلغ نهاية الحبل المعلق فيه وحبس أنفاسه لفترة ظن أنها دهرٌ مر عليه، خُيِلَ إليه جوري مر ظلها من أمامه، فكادت تختنق رِئتاه بالهواء الذي حبسه، فيعزو لخياله المدلهم بظلمة البحر الرصاصية أن تأخذه للمرأة الساحرة، لشغفه وشهوته وعشقه الذي يشبه موجةً وحشية هائلة تفطر قلبه، عمد في كل مرة هَبَط قعر البحر أن يأخذ طيف جوري معه ليبقيه مدة أطول في الغطس، كانت معه في الأعماق حتى ظن بأنها لن تفارقه، وحين يصعد سطح السفينة مستجدياً المحار أن يظفرَ بهبة من ساحرة البحر التي يتلو عليها دعاءه بقطعة نادرة من دانة البحر تغمره بالبهجة.
"آهٍ جوري"
لَفظ اسمها كسهم ينزلق فيه من فرط الوله، كزلال البحر يمضي به عطشاً كلما ارتوى منه، رأى ذاته على هذا الحال حتى ألْمَح أحد البحارة له إلى أفول نَجْمَه بين نجوم الغاصة، لم يكن يمزح به قدر ما أشار إلى تضائله وشحوب وجهه وانحسار بشرته لتبدو أكبر من سِنَه.
"متى تُفك قيودنا من سطوة البحر؟
بدت المدة المتبقية على العودة أشبه بالدهر الْمُتَجمد عند الصراط، منتظراً النار والبرد على حدٍ سواء، كانت العودة تنبئ بخوف مما جرى على اليابسة، لم يعبر البحر، كانت الأحداث تتوالى في البحر لا تصل اليابسة، والأموات والأحياء على اليابسة لا تعبر أخبارهم إلى البحر، ظل يحمل في أعماقه التوقعات والمخاوف حين يلعب الخيال بعقله حول الأم الكفيفة التي هدتها السنون بمرارتها، وزوجة جامحة تنفجر الدماء في عروقها كلما لامست يده جزءاً من جسدها، لَمحَ طائراً هائماً على وجهه في فضاء البحر قد شَتَّ عن سربه، طار معه قلبه، ظل يتتبعه بنظراته السديمية بحثاً عن أخبار اليابسة، كانت الطيور إذا ما شَتَت وبلغت بمحاذاتهم في البحر أضحت علامة على ورود الأخبار، ظل يترقب السماء والصارية لعل ريشة طائر عالقة بمكان ما على السفينة. أما إذا ما هَوى طائر وسقط على السطح فذلك إعلان سماوي بموت أحدهم على اليابسة.
مع مطلع شهر سبتمبر أخذ نسيج الشمس عند الفجر يتسلل عبر الغيوم بكسل اشارة باقتراب برودة الماء، كان الخريف إذا ما أَعلَن عن نفسه في صورة اتساع حجم موج البحر وهبوب الرياح الشمالية الدافئة تزداد رعشة الأجساد عند الخروج من الماء، ينتفخ الشراع أكبر وتهتز السفينة أكثر عندئذ تعلو البسمة وجوه الغاصة مدركين ولوج باب العودة، تتسرب الأحزان والافراح بمن عاد وبمن رحل، وابْتلَّعه البحر أو القرش أو الحمى.
"إذا اهتز البحر، اعْلَم أن الدنيا سيرتها الرياح.
قالها ربان السفينة لهم وعبر السطح باتجاه مقدمة السفينة حيث جرى غسل جثمان أحد الغاصة بعد تهشم جسده النحيف لبقايا أجزاء وشظايا. وجوه عابسة تترقب وقت الصلاة على الجثمان الذي بالكاد بدا لانسان وسط قطعة القماش البيضاء المعدة سلفاً لمثل هذه الحالات.
"الملائكة سَتُصلي عليه معنا.
قالها أحد البحارة وهو يربت على كف الصبي الذي فقد شقيقه للتو، الضوء الثاقب انْحنى على عيني الصبي وانعكس على دمعتين صغيرتين علقتا بحدقة عينيه، كان الوقت ظهراً والجميع توقفوا جامدين، خرج جميع الغاصة من الماء وجففوا أجسامهم النحيفة جميعها وكأنها أعواد نخيلٍ صُبَت من قالب واحد، الوان البشرة اختلفت بين البياض والسمار والرمادي وغلبَ عليهم طول القامة وسلبت منهم صفحة البهجة تلك التي ترافقهم عند بدء الحملة في مطلع شهر مايو فتظل الألوان تتغير مع تمدد شهور الحملة حتى تصل اللون الرمادي الذي لا تعرف من وجوههم سوى انتظار فتح الشراع للمرة الأخيرة.
"نضيع سنيناً في الانتظار، وحين نصل ندرك إن انتظارنا كان عبثاً.
همس بالكلمات وشق بها أذن صاحبه وهما يتطلعان بعينين يقطر منهما الوجع تجاه الجثمان المسجى على سطح السفينة عند المؤخرة، كان الجميع يتهيئون للصلاة على كتلة صغيرة من اللحم ملفوفة في قماش أبيض، دَنا بعضهم من بعض وتراصوا في ثلاثة صفوف وبدأوا الصلاة، كان الوقت عصراً حين هبط قرص الشمس للأسفل ومالت بوجهها للجهة الأخرى من السفينة، لم يعد البحر هادئاً كما كان عند الفجر فقد هَبَت رياح شمالية حركت الموج فازداد ارتجاج السفينة مع ارتداد صوت الموج يرتطم بالخشب محدثاً تناغماً مع الريح، كانت الصلاة قائمة والخشوع يطغى على القوم فيما صوت أحدهم يتلو آية" وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ"
وقف الرجال صفاً واجماً، رغم عبورهم المتكرر لهذه الصلاة طوال السنوات التي قضوها في البحر، اعتاد كبار السن فيهم على حبس دموعهم فيما يترقرق الدمع في عيون شبابهم مأخوذين بالموت وحيدين ما بين السماء والبحر، وقف راشد صالباً عوده وحابساً دمعه، محاوراً ذاته المسكونة على مقربة من الموت، يستشعره بين فينة وأخرى، محتمياً وراء عزائه بالعودة مع اقتراب برودة البحر.
حين، انتهت الآية تردد صوت الدعاء يعبر عما في نفوس البحارة والغاصة من شجون الوحدة والغربة"اللـهـم أدْخله الجنة من غير مناقشة ولا سابقة عذاب، اللهم آنسه في وحدته وفي وحشته وفي غُربته، اللهم أنزله منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين"
"اللهم أَرْجعني حياً عاشقاً إلى صدر جوري ودعني أسفك حبي عند قدميها"
ردد العبارة خارجاً عن السرب فيما يرددون دعاء الميت، ركب الريح وحده وحلق بعيداً عن سطح السفينة، تداعت الصور المائية أمامه على إيقاع صوت الموج يصفع جدار السفينة، سافر على ضوء الشمس والقرآن والدعاء وشجون تغمره فجأة عند حدود الصلاة والموت والعودة وجوري والأم الكفيفة، تداعت كلها واكْتَنفَته بعنفوانها وتركت روحه تحلق خارج السفينة.
"يا سيد الكون بيدك أرجع حياً، جوري تنتظرني.
***

إرْتجت تحت قدميه أرض الغرفة فبدا مثل قارب صغير في لجة ضخمة، وكاد يصرخ كأن شوكة غاصت في عنقه حين سارعت بوضع يدها على فمه ضاحكة بلا صوت، محذرة من إيقاظ رقية العمياء، كانت ترتدي قميصاً بحرياً اللون رقيقاً غير عابئة ببرودة الجو، فيما كان مرتدياً ثوبه الأبيض الخفيف كاشفاً عن شعره الأسود الفاتح مع خصلة صغيرة جانبية تدلت عند جانب من الرأس، ما زال تقي ينظر للفتاة نظرة من يشعر بوخز الشوكة ويكبت الألم.
"سقطت السماء على رأسي حين تأخرت الدورة عني، صرخت وكدت أوقظ النائمين في الدار.
هول الخبر جاءه بطنين في أذنيه غير مصدق عباراتها المتكررة حول الحمل، توقفت مجاديفه عن الحركة وجمد لسانه في حين ابْتسمت كاشفة عن أسنان صغيرة بيضاء غير عابئة بالأمر، كان الوقت ليلاً والظلام يخيم على الدار وبقية الحي والمدينة، لا ضوء قمر ولا مصابيح توشك على تسلل الضوء، إلا من شمعة بيضاء عريضة داخل إناء من المعدن تبعث بضوء خافت ينعكس على وجه جوري التي ما برحت تبتسم.
"الخوف يأكلك يا زين الشباب.
"من أين جاء يقينك مني وأنت لا تتوقفين عن مطارحة حتى الهواء.
حملت سجارة ملفوفة وأشعلتها بالشمعة ونفثت دخانها في وجهه قائلة بنبرة واثقة وهي تحك فخذها الأبيض المكتنز بظفرها وقد عمدت على استمرار سطوع الابتسامة الوقحة.
"أَنتَ الوحيد من يجرؤ على القذف بالداخل، تعرف غير مسموح لنا بذلك وإلا طُرِدنا من الدار ولو عَلِمت الكبيرة لأَصْبَحتُ منبوذة.
تنفس الهواء وهو ينهض، طرق يحوم في المكان، اقترب من فراشها وجلس عليه وسلط نظرة ثاقبة تجاهها محاولاً الوصول لقرار من دون أن يُعلن عنه، حين لاحظت نظرته لها هزت رأسها نافية ما يفكر فيه وقد أدركت ما يدور في رأسه من حيل، لوحت له بسبابتها، موحية بأنها ضد الفكرة.
"من يعلم متى سيعود؟
" أزف الموسم عليه أن يغادر، و الماء برد.
هددت بإشارة من يدها
" لن أسمح لك بلمسي بعد الآن لو كنت آخر رجل في الدنيا.
تركته يتأمل في الظلام وخرجت ومعها الشمعة تنير لها الدرب، ساد الوجوم حوله، عاثت الأفكار إرباكاً في رأسه تجادل بحثاً عما يلفلف الفضيحة، احْتدمت المشاعر وهو يقلب الأفكار بين مصدق ومكذب"لماذا لم تحمل من راشد زوجها؟" ردد السؤال أكثر من مرة، هل يعبث معها ويهددها باطلاع دلال القوادة فَتَخشى على وضعها وتعترف بأنها تتلاعب به.
"ماذا لو كانت حاملاً منه بحق ؟
شعر بصداع يتسرب لرأسه لشدة الظلمة في المكان، راح الدم يندفع بحرارة في عروقه، تحول الظلام من ستار شفاف رقيق يحميه وهو يطارحها الهوى إلى قفص أسود حالك يضيق عليه ويُمْلي عليه التصرف بغضب، خشيَ أن يخرج ويضربها ويشدها بقوة فيخلق مشكلة، أو يتركها ويهرب فَيَفْقدها وهو لا يحتمل مجرد التفكير أن تهجره رغم علمه بعلاقاتها الغارقة فيها مع رواد الدار.
"سَأتَصرف بلباقة هذه المرة وأرى النتيجة.
تحسس طريقه نحو الباب حتى خرج لفناء الدار وكانت تجلس وبقربها نرجس وطاهرة وأحد الضباط الإنجليز، خلع برنيطة الجيش وجلس يدخن سيجارته ويلهو مع الفتيات ويوزع عليهن سكاكر معلبة صغيرة، كان هناك مصباح كيروسين على الكنبة الطينية بقرب الشجرة وكان يشع بضوئه على نصف الفناء وينعكس على وجوه الفتيات والضابط، حين اقترب منها كانت تضحك على تصرفات الضابط وهو يلهو معهن، أثار ذلك غضبه وتوجه نحوها وقد عَلَت وجهه سمات الغيرة والغضب، تبدلت ملامحه ونسي ما وعد به نفسه من تصرف لَبق وقال موجهاً يده نحوها ونحو الإنجليزي بنبرة مؤنبة.
" تركتنيِ وحدي في الظلام وأخذت الشمعة كي تلهين مع هذا الحقير.
"ماذا قال؟
رد الضابط الذي بدا ثملاً وهو يقف وقد أدرك من إشارة يد تقي أنه يعنيه بالكلام، لم يعبأ بكلام الضابط وخطى خطوات مريبة أكثر نحو جوري التي نَهَضَت وقد لاحت لها سماته المريعة حين يتسلقه الغضب وتستدرجه يده المُنْفَلتة من سيطرة عقله لسلوك لا يعلم بمداه أحد، خبرت تلك الحدة في ملامحه فأسرعت تحمل الشمعة وتهم بحمله على مرافقتها للداخل، لكن الضابط عاد يستفزه بإشارة من يده وهو يكرر بنبرة آمرة.
"كوو أوت، كوو أوت.
الفتاتان نرجس وطاهرة شعرتا بالتوتر في الفناء، نهضتا وابتعدتا مسافة بقرب الباب المؤدي للصالة الداخلية، كان هناك ضوء طائش يتموج ثم ينحدر على الجدار من الطابق الآخر وقد ظهر شبحان إنعكس ظلهما المريب على الجدار المقابل وهما يطلان من النافذة لم تتضح ملامحما، يرقبان المكان، انقطعت الضجة وساد صمت لوهلة، كان خلالها تقي يتهيأ للابتعاد ومعه جوري سرحت بعقلها تتخبط الخطى تحمل الشمعة حين قفز الضابط وكاد يتعثر، أمسك تقي من ياقة ثوبه وجره صارخاً فيه بغضب.
" باسترد.
لطمت جوري صدرها بشدة، وانْطلقت صرخة من نرجس فيما قفزت الأخرى على العتبة وقد أصابها الذعر، إلتَفت تقي بخفة ومهارة فائقة فجأة أذْهلَت الوقوف حولهما، طرحه على الأرض ثم مرغهُ في التراب ودعك وجهه فيه وشَرَعَ يسدد له اللكمات المتلاحقة كمن فقد وعيه فيما ساد الصمت والترقب الموجدين في الفناء، زاد الضوء حول المكان وانْتَشر ظل الأشباح على جدار الدار المطل على الفناء، لم يكن هناك عويل أو صراخ لكن صوت أنفاس الرجلين تلاحقت وسط ضربات ضارية توالت على وجه الإنجليزي ولم يتوقف تقي حتى تدفق الدم من وجهه وانْتشَر على ثيابه وغطى مساحة المعركة، نهض وقد تلطخ ثوبه في وحل الدم، تلفت حوله فيما ساد الوجوم الجميع، لحظات وهبطت دلال وقد غطت رأسها بوشاح وعلت وجهها سمات النعاس، وقفت في خضم الهول المسيطر، بدت الصدمة على وجهها ونظراتها طَفَقت تراوح بين الوقوف بحثاً عن تفسير، تقدمت جوري بجرأة من دون وجل ونطقت بنبرة راكدة.
"الإنجليزي سبق واعتدى على تقي والله فوق رأسي يشهد.
"نعم عمتي دلال، الله يشهد البريطاني المعتدي.
قالت طاهرة عبارتها تأكيداً على كلام جوري، أثناءها تخطى تقي الجثة نحو دلال التي ظلت عيناها مسمرة على الجسد، تقدمت جوري وانْحنت عليه ووضعت رأسها على صدر الجسد المسجى في الوحل الأحمر وجست نبضه ثم وقفت تهز رأسها.
"راح.
قالتها كلمة واحدة بعدها توارت الوجوه في وجوم قطعته نبرة تقي الحاسمة.
"سأسلم نفسي للبوليس.
صرخت جوري بسرعة البرق.
"سيعدمونك الإنجليز، أهرب أنت مظلوم.
سحبت دلال تقي من يده، ثم الْتفَتَت نحو جوري وهمست على مقربة منها.
"اطفئي أضواء المصابيح في الداخل وخذيه الغرفة الصفراء وغيري ثوبه مع ثوب أحد الخدم، دعيه يذهب داره حالاً ودعي الخدم يهبطون بعد ذلك.
نظرت لساعة رجالية رصاصية بمعصهما واسْتأنفت.
"لا تعود أبداً.
حين دَلفت الفتاة الجسور تجر وراءها تقي، قالت بنبرة تطغي عليها العجلة.
" لا يمكنك العودة وحدك الليلة، تعال عندي للدار تَبيت عندي حتى الغد.
طوال الوقت لم ينطق بكلمة حتى هبطا الفناء فوجدا الجثة قد اختفت، تبادلا النظرات وخرجا مسرعين يلفهما ظلامٌ دامس.
في الطريق كان السكون والهدوء يلف المكان حتى بلغا الشارع المفتوح على سلسلة المنازل، عبرا الطريق المكتظ وقتها بالحركة، انتبهت جوري إلى أن الوقت مبكر، وحده منزل دلال غاص في الظلمة، غمرته عتمة سرية، أبْطأت الوصول للدار، دعته يسير وراءها وقد ارْتدت الملاءة على رأسها مخفيةً جانباً من وجهها، كان الهواء البارد يلفح وجهه وقد بلغا محيط المنزل وبدا المكان مقفراً من الناس ماعدا كلباً تائهاً راح يختلس النظر نحوهما، بدت واجهة المنزل المِعوزُ منتهكة على قارعة طريق خلا من المنازل وظل وحده مشيداً على رابية رمادية اللون توحي بعزلة الدار التي اهترأ جزءٌ من مقدمتها وبقي جزء آخر يشير لترميمة مؤخراً، التفت الاثنان وراءهما ثم ولجا المنزل، في الداخل قادته نحو غرفتها، أشعلت مصباح الزيت ودعته يستلقي ثم خرجت مُعَرجة على العجوز الكفيفة في غرفتها وقد تهللت قسماتها بانفعالات مكبوتة.
تماهى هو والضوء الماكر عند الزاوية، ضج رأسه بالأصوات المسعورة تجلجل فيه، لا يعرف مصدرها غير أَنَه رأى عبر غفوة مضت سريعاً، خياله وهو يسبح داخل غيمة أعلى السماء متحرراً من قفص الجسد لَهج بالشهوة، تطلع برهة حوله، مقت وحدته الضارية هذه اللحظة ود لو يقفز من مكانه يرى العجوز الكفيفة، يسألها عن مصيره، كان الحي يردد عنها أنها مبصرة الحوادث وكاشفة الأسرار وقارئة الأصوات، تعرف مصير كل فرد من سكان الحي، أعمارهم، أزواجهم وزوجاتهم، ماذا يفعلون؟ وأين يذهبون ويأتون؟ بَغَضَ شعوره بأنه في حماية امرأته العاهرة التي يعشقها ومشغوفٌ بها حتى الحضيض.
"سأهدر كرامتي حتى أدرك مصيري، لابد من لقاء الكفيفة.
هَيمَنت عليه فكرة أن يَثبَ بعيداً عن الأرض المحصور فيها، يتوارى عن الدنيا القديمة، يسافر للدراسة في بلاد ألفِرنْجةَ بحسب ما ألح عليه المرجاني الكبير فيما أرجأ هو البحث في هذا العرض، كان باطن الفكرة أن يعود من الخارج ويمسك تجارة المرجاني البدائية المتعلقة بأدوات البناء، كما رتب له عبدالرحيم زواجاً مضموناً من العواقب على حد تعبيره مع إحدى أقاربه فتاة تقرأ وتكتب وخلفها ثروة"إنها كنز يا تقي" هكذا دفعها في وجهه، لم يعد الآن بقادر على التركيز بكل هذه العروض فيما هناك جثة باردة خلف السور وفتاة حامل لا يعرف من وراء حملها وعرض بالسفر مؤجل، وإغراء بزواج مضمون، حان وقت انْتشاله من النسيان.
"هي ذاتها لم تكترث بالحمل.
أراد أن يعزي ارتباكه بحجج يستدعيها ويفلت من مسئولية الحمل"لاشك أنها تَبْتَزني للمال" واسى نفسه بهذه الحجة ومضى يستدرج فكرة السفر للدراسة هارباً وراء الضباب عن الجثة والحمل والزواج المَكْفول، والحيرة.
حزم أمره وخرج من الغرفة ينوي ملاقاة جوري وسؤالها عن الحمل والشكوى من ملاقاتها للرجال والتخلص من راشد إذا أردات أن يبقى لها ولكن من غير زواج كعشيقة، اجتاز المسافة المخيفة في رأسه عن الجثة واسْتحوَذت أفكار السفر والعشيقة والهروب عليه، ما عاد قانعاً بدور الباحث عن اللهو والمتعة الجسدية العابرة، استأثرت صورة العشيقة برأسه ورأى نفسه فجأة واقفاً في فناء الدار وسط الظلام يتلفت، لا شيء يتحرك سوى صوت حشرة محدثةً جلبةً حول الشجرة، وما عدا ذلك سكون ضارٍ يوحي بمجهول يحوم حوله.
في محيط الفناء تنشق رائحة الورق، تلاشى شبح الجثة مؤقتاً وتدفق شعور بالتحليق أزاح ثقل الحادثة الدامية لوهلة، استمر يتنشق الهواء بما يحمله من نهكة الليل، صار لا يكف عن التأمل في الحمل وتوجسه بشأنه، وفيما هو يتأبط الفناء مشياً حول الشجرة عند أطراف الجدار متحسساً بيده الفضاء خشية الإصدام بشيء في الظلام، إذ بوقع أقدام في الصالة آتية بحسب توقعه من غرفة جوري، ترك الأمر تكتشفه بنفسها وظل يسبح في هواء الليل مطلقاً أجنحته تحمله فوق بساط مجهول ينسيه لوهلة ما جرى، ملأ رئتيه برائحة بخور مفاجئة سكبت عبقها على المكان وأزاحت الرائحة الطبيعية التي تباعدت ورافقتها خطوات جوري يسبقها ضوء المصباح الصغير الأزرق وهو يشع في الفناء ظلاً محاطاً بضوء ورائحة صابون تعبق مع الضوء الشاحب إثر موجة الظلام التي غرق فيها منذ أتى الدار، خطا نحوها وطوقها من خصرها وراح يلثم شفتيها مستسلمة له بغرابة من فوجئ بجسارته بعد كل ما وقع الليلة.
"كيف واتتك حماسة الخروج في الظلام بعدما جرى هناك؟
"أعْتَبر المكان بيتي.
ضحكت ووضعت المصباح على الأرض وسحبته من يده عن واجهة باب الصالة نحو زاوية الشجرة، توقفت وتظاهرت بالاسترخاء وقالت بنبرة ودودة.
"سيعود راشد قريباً ولن تجدني لا هنا ولا عند دلال، ابحث لك عن خليلة، لا توبخني ليس الأمر سهلاً كما تراه من زاويتك الضيقة التي كلفتنا الليلة جثة غريبة لا نعلم ما ستجره وراءها.
التقط نفساً سريعاً، نظر إليها بشراهة وقال ملاطفاً شعرها البني في ضوء المصباح الشاحب وقد ترجرج محدثاً تموجات لدى هبوب نسمات هوائية عابرة.
"كيف أعرف أنه مني؟
انْكَمشت لوهلة ثم استقامت وهي تبتسم غير عابئة بالبلبة التي أحدثتها للتو، انفرجت أساريرها قائلة وهي تدور في المكان على إيقاع الضوء المترجرج.
"لا تستاء مني، سَأَتَخلص منه ولكن سيكلفني مالاً.
"لا تتأخري.
"رقية تعرف الطريق أخشى لو سألتها تشك فِيَّ
شرد فجأة بعيداً، راودته الهجرة والهروب والدراسة، لكن سرعان ما عاد وانزلق على الأرض وهو يُحَدق بجسدها يسبح أمامه ويدعوه للعبث به، لم تقفز بعد صورة الجثة حتى أعادته هي للمكان الدامي قائلة وقد ساورها الشك في أمرٍ جرى حولها لم تتمكن من سبر غوره ولكن وساوسها لاحت لها بغتة.
"الإنجليز لن يسكتوا عن فقدان واحدٍ من ضباطهم، يستحسن أن تترك المنطقة فترة حتى تهدأ الأمور مع أني أخشى أن تتصدع.
" تعالي معي.
"فقدت عقلك؟
أمسك بمعصمها وجرها نحوه، لم تقاوم واكْتفت بنظرة معاتبة من غير أن تُبْرز رغبة في التحرر من قبضته.
"أَشْتَهيك الليلة، كأن جمرة مسعورة بداخلي تريد إطفاءها.
ردت بنبرة مشككة بعد أن سحبت معصمها من قبضته.
"دعك من التهور، الكفيفة مستيقظة تتحدث مع نفسها، أسْمَع همسها، ثم أَنْيِ حامل وجسمي مازال يرجف مما جرى الليلة هناك، كل هذا ولك رغبة؟ أندهش من الرجال.
هبت نسمة باردة من هواء تيار ريح خريفية أنْعشت الاثنين، ابتسمت له وفاجأتهُ قائلة بنبرة ضامرة.
"بسرعة إفعلها وبلا ضجة.
"جوري.
"نعم.
حضنها بقوة فيما فجأة علا صوت سعال العجوز من الداخل.
"دعني أذهب، ليس الليلة.
لحق بها وسط ضحكة منها لم تسيطر عليها.
"من يصدق؟ قَتَلّت ضابطاً إنجليزياً الليلة ولك رغبة في مطارحتي.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن