فنجان قهوة

جميلة شحادة
jamilla.3@hotmail.com

2020 / 4 / 29

بعد أسبوع تزاحمتْ فيه الأحداث العامة، وزادت فيه ضغوطات العمل عن حدها المعتاد، كان لا بد من لمّة صديقات وجلسة فضفضة في نهايته. جلستُ وصديقاتي حول طاولةٍ مستديرة الشكل أنيقة الفرش في مطعم من مطاعم ساحة العين في بلدتنا الحبيبة، الناصرة، لاحتساء فنجان قهوة في صباح يوم، تسيّدت الأجواء الخريفية عليه. كنتُ بصحبة اربع صديقات، كلهن يمتهن مهنة التدريس ما عدا أماني، التي اختارت الصيدلة مهنة لها. أماني؛ هادئة بطبعها، ومصغية جيدة، هكذا عرفناها دوما. في ملتقانا هذا، شعرتُ في مرحلةٍ ما، بالشفقة عليها؛ لا لأنها تضطر لفكِّ شيفرات ووصفات الأطباء خلال عملها، أو لأنها تضطر الى تسويق منتج تجاري لا يمتُ لدراستها بصِلة؛ وإنما لأنها اضطرتْ في جلستنا هذه الى أن تستمعَ لكل ما يدور بمدارسنا ومؤسساتنا التربوية، بدءاً من الطابور الصباحي، وحتى الى ما بعد انتهاء الدوام الدراسي وزيارات بيوت الطلاب، التي أصبحت في السنوات العشر الأخيرة ملزِمة لكل من يعمل في حقل التربية والتعليم؛ هو على أي حالٍ، فعلٌ يكرهه المربون والأهل بذات القدر، وكلٌ لأسبابه؛ وما بين هذا وذاك، لم تنسَ أيٌ منا أن تعرِّج على كل غرفة من غرف المدرسة؛ لتصورَ المشاهد، وتصف الأحداث، وتسرد السناريوهات.
تجاذبنا في البداية أطراف الحديث عن أحوال الطقس؛ وهو عادة الموضوع الأسهل تناوله للبدء بأي حديث كان؛ لكن هذه المرة كان الحديث عنه له وزنه وقيمته؛ فبسبب الرياح الشرقية الشديدة التي هبت لعدة ايام خلال الأسبوع المنتهي، اجتاحت معظم أرجاء البلاد الحرائق، وكانت أحراش الكرمل ومنطقة حيفا المتضرر الأكبر؛ لكن السيد نتانياهو، رئيس الحكومة، وآخرين من رجاله ووزراء في حكومته؛ كان لهم رأي آخر، حيث ادعوا بأن المواطنين العرب يريدون أن يحرقوا البلاد وراحوا يتهمونهم بافتعال هذه الحرائق. يا للسخرية! العرب في اسرائيل يريدون أن يحرقوا البلاد؛ بلادهم وبلاد آبائهم وأجدادهم؛ يريدون أن يحرقوا الأشجار التي زرعها أجدادهم، ويشوهوا جمال الطبيعة والأرض التي يعشقونها أكثر من أرواحهم. على أي حال؛ ما أن أدلت كل واحدة منّا ما بدلوها عن الموضوع وافرغت ما بداخلها من غضب؛ حتى أخذ الحديث منحى آخر وتحول الى نقاش في موضوعات تتعلق بمهنة التربية والتعليم. دار النقاش حول طرق تقييم الطلاب وتحصيلاتهم، عدم اهتمام الطلاب بالدراسة والبحث، تحديات المربين وتربيتهم للقيم في ظل مجتمع مادي، تنافسي... وتوقفنا كثيرا عند أنماط الإدارة السائدة في مدارس القرن الواحد والعشرين لحدِّ أننا لم نشعر بأنه قد تمادينا بالحديث عن هذا الموضوع، إذ أطلقنا العنان لتذمرنا من بعض سلوكيات مديري المدارس، وكيفية تعاملهم مع الأمور والقضايا التربوية، حتى جاب وجال نقاشنا كل أرجاء المكان؛ ولربما ما بعد جدران المكان؛ وغاب عنا إقصاؤنا لأماني، صديقتنا الصيدلانية، ونسينا الهدف الذي من أجله تجمَّعنا.
فجأة؛ اقتحمت أماني نقاشنا بعدما ارتشفت رشفة سريعة من فنجان قهوتها، وكأنها تخشى أن تفوتَها اغتنام فرصة الحديث، ووجهت كلامها لإحدى الصديقات التي أبدت تذمرها من المبنى التنظيمي في مكان عملها ومن كثرة أصحاب الوظائف فيه وجاهرت بتساؤلاتها عن عمل المدير ومدى تأثيره على العملية التعليمية والتربوية في ظل مبنى تنظيمي بيروقراطي كهذا، وقالت:
- حديثكِ هذا، يذكرني بقصةٍ سمعتها من جدتي، رحمها الله، عندما كنت صغيرة. ثم تابعت اماني كلامها قائلة: "كنت في الصف الثاني عندما قصتْ عليّ جدتي قصة " الفلاح وأصدقائه"، وما زلت أذكرها حتى اليوم؛ أما مغزاها، فلم أتوصل اليه الا عندما كبُرتْ؛ وتأنت أماني قبل أن تتابع حديثها، فتنبّهنا لوجودها بيننا. بادرت إحدى الصديقات ودعتها لتخبرنا بقصة جدتها؛ فراحت اماني تقص علينا ما بجعبتها وقد انفرجت اسارير وجهها؛ وكيف لا؟ وقد أتتها فرصة من ذهب لتثبت وجودها بيننا وكأن حالها يقول: " أنا موجودة معكم ولي مكان بينكن".
بدأت أماني بسرد حكاية جدتها ونحن نصغي لها بتشوق لمعرفة تفاصيل القصة؛ فقد كان مهما لنا أن نعرف ما وجه الشبه بين قصة جدتها وبين نقاشنا عن أنماط الإدارة في مدارسنا. وما أن انتهت أماني من حكايتها حتى تجدد النقاش، بل احتدم بيننا؛ فمِّنا مَن أيدت ودعمت مقارنة أماني بين عمل مدير المدرسة وبين عمل الفلاح في حكاية جدتها؛ ومنّا من عارضت ورفضت هذه المقارنة ليقينها أن عمل مدير المدرسة لا مجال للمقارنة بينه وبين عمل الفلاح الذي كان ينام تحت اسفل الجبل ويرتاح كل النهار ويوهم أصدقاءه بأنه يقوم بعمل جبار ، لأنه يمسك بالجبل ويمنعه من الانهيار والسقوط عليهم وهم يعملون في الأرض.
أماني، صديقتنا الصيدلانية، استطاعت بقصتها، وحكمتها، أن تتحول الى معلمة تدير نقاشا مع طالبات، في حصة خارج جدران الصف.
******************************************

ملاحظة: كُتب النص بتاريخ 26.11.2016



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن