أنا وجدتي وكورونا

جلال الصباغ
a.marzouq@yahoo.com

2020 / 4 / 20

أتذكر وجه جدتي جيدا برأسها الراعش، وعينيها الصغيرتين وهي تحكي لنا نحن الصغار ما حل بها وعائلتها أيام انتشار الجدري، وكيف أنها فقدت إحدى عينيها بسبب الجدري، الذي اخذ منها شقيقها الوحيد.

 أتذكر جيدا قصتها التي روتها عشرات المرات دون كلل، حتى حفظناها عن ظهر قلب وفي كل مرة كانت تضم اقرب واحد منا إليها عند الوصول إلى المنعطف الأكثر إيلاما  في قصتها عندما تصل إلى حجر أخيها وضاح في غرفة الطين التي تقع بعيدا عن غرفتي البيت الذي كان مسكنهم، وعدم السماح لأحد بالتقرب منه سوى أمها التي تركتها بعد سنة من رحيل وضاح، وكانت وصيتها الوحيدة هي دفنها بالقرب منه.

يصادف اليوم الذكرى العشرون لرحيل جدتي، بينما اجلس وحيدا في غرفتي متصفحا ما تجود به الأخبار عن انتشار كورونا عبر الموبايل.

 كنت اعتقد ان العلم والطب الحديث قد تجاوز الأوبئة التي تحصد الآلاف والملايين من البشر، لكن حساباتي كانت غير صحيحة فهذه أمريكا والصين وأوروبا وكل العالم يودعون المئات من الأحباب والأصدقاء بسبب هذا الوباء. 

لم اعد أتقبل المكوث في البيت، فمنذ أربعة أيام وأنا لم أخرج إلا لجلب بعض الحاجيات والطعام، وعندما أقرر الخروج لأمر طارئ أحاول قدر إمكاني تجنب كل من يلتقيني في الشارع أو عند البقال ،ابتعد عنه قدر الإمكان، أحاول أن أتجنب لمس وجهي أو عيني لكن، دون جدوى، فمهما حاولت أن أبقى يقضا إزاء حركاتي، أنسى مرة أخرى.

 قررت الخروج في يومي الخامس وما إن فتحت باب المنزل حتى ناداني أبو صفاء.

-         طارق... طارق هل لديك غاز؟

-          أجبته بنعم ، ثم استدركت عندنا اسطوانة وحدة والأخرى فارغة... ابتسم وقال:

-          تحتاج  استبدال الفارغة لان أسعار الغاز تضاعفت.

 أبديت موافقتي، عندها انزل أبو صفاء الاسطوانة من عربته التي يدفعها بيديه وهو يتصبب عرقا وانزلها على الأرض... تناولت اسطوانة الغاز وأدخلتها المنزل وجلبت الاسطوانة الفارغة ومبلغ المال المطلوب وعندما سلمته المال ابتسم وقال لي:

-         هل تعلم لم احصل اليوم الا على ثلاث اسطوانات... الزحام شديد على المحطة.

-         لا تهتم أبو صفاء ستنتهي الأزمة عما قريب، ونحن متعودون على الأزمات.

 نظر إلي وهو ينفث دخان سيجارته التي أشعلها بعد أن تسلم المال وهو يحدق في وجهي.

-         أي أزمة التي ستنتهي؟ هل تعلم بأن عمري أصبح خمسة وستين عاما ولا أزال أبيع الغاز.

 أخذني من يدي وأنا أحاول تجنب لمسه قدر الإمكان وقال:

-         يبدو انك الآخر تخاف من كورونا، لا تصدق هذا الكلام كله عبارة عن دعاية .

تركت أبو صفاء وذهبت إلى أم فاضل بائعة الخضار في المنطقة، كانت كعادتها مبتسمة وقالت لي:

-   أهلا (طارق) يبدو انك خائف من كورونا؟ وهي تضحك وقد رأيت للمرة الأولى شكل أسنانها المهدمة وغير المرتبة... أخذت بعض الخضار وعدت إلى المنزل وأنا احرص على تجنب أي شخص في الطريق.

 في المنزل فتحت التلفزيون وتنقلت من محطة إلى أخرى، الجميع يتحدث عن كورونا وكيف غزا هذا الفيروس أوربا وانتقل إلى أمريكا، هنالك تقارير تتحدث عن إصابة  ثلث او حتى نصف سكان الكرة الأرضية بكورونا، وأخرى تتحدث عن كيفية الحماية من الفيروس وأخرى تعرض مدن العالم وساحاته الرئيسية الفارغة وكأنها مدن أشباح.... فكرت بيني وبين نفسي هل نحن نعيش حقا في القرن الحادي والعشرين! هل يعقل أن العالم الذي يصرف مليارات الدولارات على السلاح والحروب غير قادر على مواجهة هذا الوباء؟

 بعد ثلاثة أيام كانت الإصابات في الحي الذي اسكن فيه قد تجاوزت الخمسين والرعب وصل إلى أعلى مستوياته ففي أيام حظر التجوال الأولى كان الأطفال يلعبون في الشوارع إما اليوم فلا احد هناك.

 أم فاضل بائعة الخضار  نقلت إلى المستشفى بعد نوبة سعال حادة، وقد أغلق محلها. كل شيء بدا كئيبا لا شيء في الأخبار غير كورونا الجميع يتحدث عن خروج المرض عن السيطرة وأسواق العالم تخسر المليارات، والملايين من العاملين يسرحون من أعمالهم الكل يتحدث عن كارثة تعصف بالكرة الأرضية، وان عالم ما قبل كورونا هو ليس عالم ما بعدها.

 وأنا مستغرق في التفكير سمعت طرقا شديدا على باب المنزل ... اللعنة من الذي جاء؟ أيعقل ان يأتي ضيوف في هذا الجو الماطر المليء بالفيروسات؟ ... فتحت الباب وإذا به سيد علي.

-         أهلا بك سيد تفضل ...

-         لا شكرا، لم أطفئ محرك السيارة، وأنت تعرف الأوضاع جيدا فالكورونا في كل مكان.

بدا هو الآخر قلقا للغاية وقد ارتدى قفازات من البلاستك وكمامة .

- بصراحة اشعر بالخجل منك، لكنك تعرف ان موعد دفع الإيجار قد مضت عليه عشرة أيام، وبصراحة اضطررت لإخراج أربعة مؤجرين لأنهم لم يدفعوا للشهر الثاني على التوالي، لكنك شخص جيد... لك من ألان وحتى نهاية الأسبوع.

تركني وركب سيارته وأغلق الباب... تخيلت أن رأس سيد علي قد تحول إلى اللون الأزرق وفيه الكثير من الزوائد.

دخلت إلى المنزل وقد تحول وجهي إلى اللون الأحمر وربما الأزرق وأنا خجِل وغاضب... كيف ان سيد علي هذا الوحش الكاسر  الذي يعيش على دماء الفقراء والمساكين لا يزال يتمتع بصحة جيدة بينما ام فاضل فارقت الحياة بسبب الفيروس، وأبو صفاء ذلك المسكين الذي يعاني من القلب قد هرب من المستشفى بعد الاشتباه بإصابته هو الآخر.

مرت عشرة أيام أخرى وأنا لا اعمل شيئا سوى متابعة الإخبار محاولا قدر الإمكان قراءة بعض الكتب الموجودة لدي، وغالبا ما ابحث في الإنترنت عن الأوبئة وتاريخها في العراق وكيفية التعاطي معها... الغريب أنني وجدت نفس الظروف تتكرر فقبل مئات السنين والآن يموت الناس في العراق بذات الطريقة، الفرق الوحيد ان الوباء اليوم يضرب ما يسمى بالدول العظمى ويقتل الآلاف.

في العراق وبعد الخلاص من اي وباء يكون من بقي حيا عرضة لمزيد من الفقر والتشرد وحتى العبودية. 

العبودية ذاتها فحتى في زمن الديمقراطية والخلاص من الإقطاع الذي سرق أحلام جدتي لا نزال عبيدا عند سيد علي وأمثاله فهو يملك العقارات والسيارات والمال، ونحن نعمل ليأتي هو نهاية كل شهر ويتقاسم معنا الأجر الذي حصلنا عليه.

 كما كان الخليفة في السابق يسيطر هو وحاشيته على أموال الدولة يسيطر رئيس الوزراء وحاشيته وأصدقاؤه والتجار المرتبطون به على كل شيء اليوم، ولا يتركون لنا سوى الفتات.

لست أعرف كيف اصف مشاعري تجاه وفاة سيد علي بالكورونا فقد سمعت انه حجر في المستشفى الخاص في المنطقة، ورغم العناية الشديدة من قبل الكادر الطبي  المخصص للأغنياء إلا انه توفي في نهاية الأمر وأخذوا جثته ليلا إلى الصحراء ليدفن مع الذين توفوا في ذلك اليوم، رغم أنه استمر ما يقارب العشر سنوات في مقاسمتي لراتبي الا إنني لحظة سماعي خبر وفاته شعرت بالحزن.

 جدتي التي اخذ الجدري منها أخيها وإحدى عينيها وأخذ منها زوجها وهي في ريعان شبابها كانت تقول لي دائما ان هذه الحياة ليست عادلة( يمه طارق) حينها كنت اعتقد، أن الحياة ليست عادلة معها هي فقط، لكن ما إن كبرت حتى عرفت ان العالم أجمعه غير عادل، ليس فقط في العراق وإنما في جميع أنحاء الأرض.

 من الذي بإمكانه تحقيق العدالة للبشر؟ ومن القادر على تخليص الناس من الأوبئة والأمراض والفقر والاستغلال؟ عندما قرأت التاريخ في المدرسة كنت اعتقد إن الثورات التي تسعى لإنصاف المظلومين وتحقيق العدل في العالم، قد وصلت إلى ما تبتغيه لكن الحقيقة غير ذلك تماما، فلا يزال الفقراء والمسحوقين والمرضى هم الأكثرية.

 كانت جدتي متيمة بجدي الذي عمل خلال فترة زواجهما التي لم تتجاوز الخمس سنوات، على العمل الشاق الذي سلبه حياته في نهاية المطاف، من أجل توفير لقمة الخبز لها ولطفليها،

ترك الواقع المر الذي عاشته جدتي وعيا لا يمتلكه الكثير من منظري اليوم وكانت تلخصه على الدوام بجمل مكثفة (نعم يا صغيري نحن نعمل ونتعب ونمرض ونموت لكي يعيش الإقطاعي وصاحب المال والجاه) لم تتزوج جدتي بعد وفاة مبروك رغم أنها لم تتجاوز العشرين عند رحيله، كانت دائما تقول أنها ستلتقيه في الجنة... كانت جدتي شاهدة على استغلال الإنسان في زمن الجدري وهي إحدى ضحاياه ونحن اليوم ضحايا لنفس الاستغلال والعبودية لكن بطريقة أخرى.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن