2 -الفساد ... هل يعني أن أموال الدولة مستباحة ؟

نور الدخيل

2006 / 6 / 7

الجزء الثاني :
ويتضمن العوامل التي أدت إلى ظهور وتعميق ثقافة ( استباحة أموال الدولة ) هذه الظاهرة التي تعتبر أهم أركان الفساد في مجتمعنا .
أولاً : الاستعمار
عانت منطقتنا العربية قروناً طويلة من الاستعمار القديم والحديث , وعلى مدى هذه الفترة الطويلة لم يهنأ لها بال ولم تذق فيها طعم الحرية , مع افتراضنا أن العصور السابقة كانت غير ذلك , إلا أن من يكشف الغطاء عن تاريخنا دون الخوض في تواريخ الأمم يجد فيه أفلاماً من الرعب لم تشهدها أو لم ترتق إليها السينما الهوليودية حتى الآن بدءاً من حرب البسوس ولم تنته بالعراق ....
هذه الحقب من الاستعمار ماذا ستخلف في نفس الإنسان غير الحقد والكراهية والأنانية والخوف و.... ؟
ماذا ستخلف في نفس الإنسان غير التوق إلى الحرية واستعادة الكرامة المسلوبة والتخلص من العبودية والاستبداد والتحرر من الظلم والقهر والاستعباد ... ؟
ماذا ستخلف في نفس الإنسان غير حب التملك والتسلط وحب المال ... ؟
ماذا ستخلف في المجتمع غير الجهل والفقر والمرض .... ؟
لن نعود طويلاً إلى الوراء ولنبدأ بالاحتلال العثماني للوطن العربي وما فعلته السلطنة العثمانية على كافة الأصعدة وسعيها الدؤوب لاستغلال الدين غطاء لاحتلالها البغيض للنيل من ثقافة الشعب العربي وفكره وتراثه وتاريخه وهويته , ولدينا شاهد حي وما زالت فئة غير قليلة تؤمن به ومنهم أساتذة كبار في الجامعة يعتبرون أن الاحتلال العثماني ( فتح ) لهذه المنطقة وقد درسناه في مناهجنا وكنا نراه شيئاً عظيماً حسب عقيدة مدرسينا , وكان يدرس حتى فترة قريبة في المدارس والجامعات وما زالت المؤلفات تذخر بهذا الفتح وتتمجد به وتدافع عنه , وشتان ما بين الفتح والاستعمار !!
( منذ أيام وبعد مضي عدة سنوات من دخولنا القرن الحادي والعشرين تطالعنا يافطة بالخط العريض تدعوا لحضور ندوة بعنوان ... العهد العثماني !!.. ) .
هذا هو أثر التربية في المجتمع , أن يقتنع الإنسان بملء إرادته أن الاستعمار فتحاً , كما يحاول الغرب حالياً أن يقنعنا أن احتلال العراق تحرراً !!
إن نبش التاريخ يزعج الكثيرين ويقض مضاجعهم فالأفكار التي زرعها الاستعمار في عقولهم يصعب انتزاعها , يريدون العيش على أمجاد الماضي المقدس ! وهذا حتماً ما يهدف إليه الاستعمار أن نعيش الحاضر في أحلام الماضي بدون مستقبل أن نغلق عقولنا ونعمل وفق غريزتنا , فالتعليم كان من المحرمات وأول مدرسة ثانوية تأسست في دمشق وهي الوحيدة في سورية عام 1878 باسم (مكتب عنبر ) التي أصبح اسمها فيما بعد مدرسة التجهيز وكانت جميع المناهج تدرس فيها باللغة التركية حتى أن منهاج اللغة العربية كان يدرس فيها باللغة التركية , وقد تم تأسيسها بأمر من السلطان العثماني ليس حباً بنشر العلم والتعليم في هذه المستعمرة وإنما جاء في إطار حملة التتريك الواسعة للقضاء على اللغة العربية واجتثاثها من جذورها , كانت الدراسة فيها حكراً لأبناء الطبقة الأولى المقربة من الفئة الحاكمة , ومع ذلك لقد أسست مجموعة من طلاب هذه المدرسة ممن أحسوا بالخطر الذي يداهم بلادهم وعروبتهم وثقافتهم , أول حركة سرية تنويرية تنادي بالعروبة تحت اسم (جمعية النهضة العربية ) التي ما لبثت أن بدأت نشاطها حتى تعرض أعضاؤها للمطاردة والملاحقة فنقلت مقرها إلى الآستانة عام 1906 لكنها لم تسلم من بطش السلطان العثماني الذي أمر باعتقال معظم أعضائها , وفي صبيحة السادس من أيار عام 1916 تم إعدامهم شنقاً في دمشق وبيروت , هذه هي سياسة الفتح العثماني التي ما زالت تسيطر حتى الآن على عقول وتفكير الكثيرين !.
فالاستعمار بكافة أشكاله القديم والحديث هدفه الأساسي الهيمنة المطلقة , هذه الهيمنة كانت في الماضي تتمثل بالاحتلال العسكري المباشر لمنطقة أو بلد ما ليصبح كل شيء ملكاً للمستعمر بما فيه الأرض والبشر يتصرف به كيفما يشاء , أما الاستعمار الحديث فإنه أكثر خطراً على الرغم من أنه لا يعتمد إلا نادراً على القوة العسكرية ,والهيمنة أخذت أشكالاً مختلفة وذات أبعاد مستقبلية تشمل بنى المجتمع الأساسية جميعها بما فيها الهوية الفكرية والثقافية , والهدف الأهم دائما هو العقل الإنساني .
فالاستعمار عندما يستطيع تخريب العقل في مجتمع ما فإنه يستطيع أن يعيد بنائه من جديد وفق مصالحه ليكون تابعاً له ينفذ أوامره كأي جهاز الكتروني من مقتنياته وبالتالي فأن تكاليف هذا الغزو أقل بكثير من الاحتلال المباشر وخاصة الخسائر بالأرواح والمقاومة وما ينتج عنه من عداوة وكراهية وأحياناً معارضة الرأي العام العالمي والمطالبة بالحرية والاستقلال ..
فسياسة الاستعمار المتشعبة ولّدت معها في البلد المستعمَر أنواعاً متشعبة من الفساد كردة فعل لا بد منها وأصبحت على مدى قرون طويلة جزءاً من الثقافة العامة وتغلغلت بالفكر والعقل والتعليم والتربية ولهذا لا يمكن التخلص منها بين ليلة وضحاها وتحتاج إلى عمل دؤوب في كل الاتجاهات وعلى كافة المستويات للتخلص من هذه الآفة الخطيرة ,وإن معالجة حالات منفردة لا يغير من سلوك أو ثقافة المجتمع في شيء إلا إذا اعتمدت سياسة البطش والترحيل والتنكيل بالفاسدين وهنا سنصل إلى مرحلة تصبح فيها البلاد بلا شعب ولا سلطة !!
إن ثقافة استباحة أموال الدولة نشأت وتراكمت عبر عدة قرون فرضتها طبيعة العلاقة بين المواطنين والدولة المتمثلة بالاستعمار والعداء المطلق بينهما ,وإن القضاء على الفساد يجب أن ينطلق قبل كل شيء من تصحيح هذه العلاقة وترميم ما تم تخريبه وبناء ما تم هدمه بالعودة إلى تاريخ هذه الأمة وإعادة صياغته من جديد بأمانة ليكون منطلقاً ومرتكزاً لنهضة شاملة ترتقي بالمجتمع وتنقذه من غفلته على أيدي سواعد أبنائه المخلصين وعقولهم النيرة التي حاولت دوماً أن تكون شموعاً تحترق في سبيل الوطن وتنير له الدرب نحو الحرية والتقدم والازدهار فتسقط تحت أقدامها كل عوامل الفساد والمفسدين .
...... يتبع .....



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن