الانتفاضة العراقية ومأزق الدولة الريعية

ناجح العبيدي
nagih.al-obaidi@dw.com

2020 / 2 / 21

"نازل آخذ حقي!": يخفي هذا الشعار الرئيسي للحراك الشعبي المستمر منذ أكثر من 4 أشهر معانٍ وأهدافا متنوعة. من جانب تُلخص شريحة واسعة من المنتفضين في هذا الشعار مطالبها بمزيد من الحقوق الديمقراطية والمدنية وسعيها لإصلاحات شاملة للنظام السياسي الفاشل. لكن من الواضح أيضا أن الكثير من الشباب الغاضب في بغداد والبصرة والناصرية وغيرها يقصد بـ"حقي" حصة معينة في الثروة النفطية، أو بالأحرى الحصول على وظيفة حكومية تؤمن له مصدر رزق لائقا. كثيرا ما يردد المحتجون في ساحة الخلاني وقرب جسر السنك وعلى مداخل المنطقة الخضراء وسط أزيز الرصاص ودخان قنابل الغاز شعار "فتح باب التعيين" آملين بالانضمام إلى قطاع الدولة المتضخم أصلا. ولا يتردد بعضهم من التصريح بمطالب شخصية كالقدرة على الزواج مثلا. وفي العادة يضيفون أيضا مطالب أخرى بضرورة توفير الدولة لخدمات الكهرباء والماء والصحة غيرها، وكل ذلك مجانا بالطبع! كما يتجسد حلم نيل قطعة مناسبة من الكعكة النفطية في المحاولات المتكررة في البصرة والناصرية لاقتحام حقول النفط والتهديد بتعطيل الانتاج فيها ما لم تقم شركات النفط بتوفير وظائف للشباب العاطلين عن العمل بغض النظر عن وجود حاجة لهم أم لا. ولا يستبعد أن مثل هذه المحاولات تؤدي إلى نتيجة معكوسة لأنها ستدفع الشركات الأجنبية للتفكير ألف مرة قبل المغامرة بالاستثمار في العراق.
تعكس هذه الشعارات المطلبية شعورا طاغيا بالحيف والظلم جراء انعدام العدالة في توزيع الثروة الوطنية نتيجة استئثار فئات معينة بالامتيازات المادية والمناصب والوظائف السخية، بينما خرج مئات الآلاف من خريجي المدارس والجامعات خالي الوفاض. لقد ترسخ هذا النهج بشكل خاص أثناء ولايتي رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي. بعد عام 2005 وظفت الأحزاب والكتل المشاركة في نظام المحاصصة الطائفي والإثني الارتفاع غير المسبوق في أسعار النفط ومعدلات إنتاجه من أجل تعزيز نفوذها وكسب المؤيدين عبر توزيع الوظائف والمناصب الحكومية بلا حساب على الأقارب والأعوان والمقربين بالدرجة الأولى. لم تؤدِ المحسوبية وسياسة "الأقربون أولى بالمعروف" إلى تضخم صفوف جيش الموظفين الحكوميين الجرار وتبديد المال العام وتفشي الفساد فحسب ، وإنما أيضا إلى اتساع مشاعر الغبن والغضب والحسد لدى قطاعات واسعة من الشباب الذين رأوا بأن زملاء لهم في المدرسة أو من أبناء الجيران يرفلون بـ"نعيم" الوظيفة الحكومية لمجرد أنه يملكون الواسطة أو دفعوا الرشوة التي "أهلتهم" للانضمام إلى حماية المسؤولين السياسيين أو إلى صفوف الشرطة والجيش، أو أضعف الإيمان الحصول على وظيفة مكتبية لدى كتائب حزب الله وعصائب الحق وغيرها من المليشيات الشيعية. هكذا باتت الوظيفة الحكومية العنوان الوحيد تقريبا للعمل بحيث أصبح الكثيرون من عمال القطاع الخاص يعتبرون أنفسهم عاطلين عن العمل على الرغم من أنهم يمارسون فعليا أنشطة إنتاجية هامة وضرورية . في الوقت نفسه أقرت الحكومة زيادات متتالية في المرتبات في القطاع العام. كما تمت المصادقة على قانون للتقاعد يعتبر من بين الأكثر سخاءً في العالم. وهذا ما زاد من مغريات العمل لدى الدولة.
وصلت هذا السياسة إلى طريق مسدود في منتصف عام 2014 مع انهيار أسعار النفط إلى قرابة الثلث والتراجع المريع في العائدات النفطية وارتفاع النفقات العسكرية بعد استيلاء تنظيم داعش الإرهابي على ثلث البلاد. كما لعب الانفجار الديموغرافي المتمثل في استمرار معدلات نمو السكان العالية على مدى عقود طويلة دورا لا يستهان به في دخول سياسة توزيع الصدقات في مأزق يصعب الخروج منه. إزاء الإفلاس المحدق لجأت حكومة حيدر العبادي إلى صندوق النقد الدولي للحصول على قروض ميسرة مقابل الموافقة على برنامج للإصلاحات الاقتصادية، وبما فيها إعادة هيكلية القطاع العام وإيقاف التعيين في معظم الوزارات وإصلاح قطاع الكهرباء. ومع أن معظم الإصلاحات بقيت حبرا على ورق في ظل عجز الطبقة الفاسدة ، إلا أن الصراع على "الكعكة النفطية" ازداد حدة، وهو ما صب في نهاية المطاف في تفاقم النقمة الشعبية واندلاع موجة الاحتجاجات الأخيرة. ولهذا بدا من المنطقي أن الانتفاضة بدأت كحركة محدودة لما يدعى بحملة الشهادات العليا الذين تظاهروا في مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2019 للمطالبة بتعيينهم في مؤسسات الدولة وكأن الوظيفة الحكومية حق دستوري لا جدال فيه. ويُنذر هذا التوجه بأن الانتفاضة لن تساهم في إيجاد مخرج من مأزق الدولة الريعية، بل ستزيده تعقيدا.
من الواضح أن العامل الاقتصادي كان حاسما في اندلاع الحراك الشعبي واستمراره. صحيح أنه اكتسب بمرور الزمن أبعادا أكبر ورَفعَ شعارات أكثر جذرية، ومنها إسقاط النظام ورحيل الطبقة السياسية أو إجراء انتخابات مبكرة أو إلغاء الأحزاب والبرلمان ومجالس المحافظات وغيرها، إلا أن الصراع على الريع النفطي بقي حاضرا بقوة في ساحات الاعتصام. وهذا ما أشار إليه بوضوح د. مظهر محمد صالح المستشار الاقتصادي لمجلس الوزراء ونائب محافظ البنك المركزي السابق في مقال بعنوان "من صراع المكونات إلى صراع الطبقات" حيث أكد بحق على أن الكتل المتنفذة تحولت "إلى قوى تتكالب على انتزاع الريع النفطي بنزعة الثراء"، فيما بقيت فئات واسعة "بعيدة عن تحصيل الثورة العادل وتقاسم مصالح الدولة الريعية". ويغذي هذا الصراع الضاري بين الطرفين هيمنة عقلية "دولة الصدقة" في المجتمع العراقي حيث تنظر الأغلبية الساحقة إلى الدولة كبقرة حلوب مهمتها الأولى هي دفع "العطاء" إلى الرعية على شكل وظائف مجزية وخدمات مجانية. وهو تصور يعاكس تماما مفهوم "دولة الجباية" في الدول المتقدمة حيث يقوم المواطن الراشد والشركات الخاصة عادة بدفع الضرائب للدولة لكي تتمكن من أداء وظائفها. ومما ساعد في انتشار هذه التصورات الخاطئة والساذجة هو قناعة أغلبية العراقيين بأسطورة "العراق الغني"، وأن كل ما يحتاجونه هو رئيس نزيه للبلاد لكي يعيشوا برفاه ونعيم ويحصلوا على الدخل والوظيفة والبيت والخدمات دون بذل أي جهد. يتجاهل هذا التصور حقيقة أن العراق هو في أحسن الأحول بلد نامٍ ذو دخل متوسط وأنه لا يختلف كثيرا عن السودان ونيجيريا والكونغو وهي بلدان تتمتع بثروات وموارد طبيعية هائلة ولكنها فقيرة نتيجة لعدم وجود نظام اقتصادي كفوء وقادر على استغلال هذه الثروات بطريقة عقلانية.
غير أن التأكيد على دور المطالب الاقتصادية الفئوية في تحريك الشارع العراقي لا يعني أننا إزاء صراع طبقي بالمفهوم الماركسي، كما يروج لذلك بعض الباحثين الاقتصاديين والاجتماعيين، وفي مقدمتهم مظهر محمد صالح وفارس كمال نظمي. ففي مقاله المذكور يرى الاقتصادي البارز صالح أن فشل عملية التنمية والاعتماد الوحيد الجانب على الريع النفطي قد أشعل "وجها متفجرا محتملا من أوجه صراع الطبقات التي يواجهها النظام السياسي الراهن" وأن هذا "الصراع الطبقي أنتج عقلا وطنيا جمعيا عفوي المسار" وقادرا على "خلق تحالفات وطنية منسجمة طبقيا وعابرة للطوائف والقوميات". وهكذا يصل مصلح إلى الاستنتاج بأن الانتفاضة التشرينية نجحت في نقل "صراع المكونات (أي الطوائف والإثنيات) إلى صراع الطبقات". نفس النتيجة يتوصل إليها أيضا فارس كمال نظمي في مقاله "فقراء الشيعة وإعادة بناء الوطنية العراقية". هنا ينطلق نظمي بحق من دور الفرد في كفاحه من أجل "استعادة حقوقه في أن يكون مشاركا في الثروة الاقتصادية والمكانة الاجتماعية والهيبة الوطنية، بعد أن جرى تهميشه واستبعاده طويلا". لكنه هو الآخر يبشر بـ"الانحسار المستمر في الطابع الإثنوسياسي للصراع واشتداد طابعه الطبقي العابر للتمركز حول المذاهب". وهو تحليل متحيز لنتيجة محددة سلفا وتخلله نبرة التفاؤل والحماس لدور التحولات الثورية في تطور المجتمع. كما يفترض وجود كتلة ثورية متجانسة داخل الحراك في تجاهل واضح لطابعه العفوي وغياب برنامج واضح له. فالحراك جاء في نهاية المطاف من رحم مجتمع يعاني من تشظٍ سكاني واجتماعي ومذهبي ومناطقي خطير.
لا يتوقف كل من مصلح ونظمي كثيرا أمام مغزى تركز الاحتجاجات في المناطق ذات الغالبية الشيعية، فيما يتبنى "المكونان" السني والكردي موقفا يغلب عليه التوجس والحذر بانتظار ما يسفر عنه الصراع المحتدم داخل الشارع الشيعي. وهذا موقف طبيعي تماما لأن هاتين الأقليتين الكبيرتين تحرصان على الدفاع عن حقوقهما السياسية المكتسبة مقابل الأكثرية الشيعية، وتشعران في الوقت ذاته بالقلق من احتمال قلب المعادلة السياسية جذريا، لا سيما وأن محتجين كثيرين رفعوا في بداية الانتفاضة شعارات تدعو صراحة للاستبداد أو ضمنيا لدكتاتورية الأغلبية، ومنها الدعوة للنظام الرئاسي وإلغاء مبدأ اللامركزية في إدارة الدولة العراقية. من دون شك نجحت الانتفاضة في رفع لواء الوعي الوطني وفي تحجيم دور الانتماءات المذهبية لدى جماهير واسعة، ولكن التلويح بالأعلام العراقية والهتاف بشعار "نريد وطن" بكثافة في ساحات الاعتصام لا يكفي لوحده لتجاوز مبدأ المحاصصة والتخندق الطائفي المتجذر في المشهد السياسي. كما يجب القول بوضوح بإن امتناع المناطق السنية والكردية عن المشاركة في الانتفاضة ينطوي على خطر إعادة إنتاج صراع المكونات بدلا من تجاوزه.
على الرغم من هذه الوقائع يحاول مصلح ونظمي إسقاط نظرية الصراع الطبقي الماركسية على الانتفاضة الشعبية بطريقة تعسفية، ولا تأخذ بنظر الاعتبار الانتماء الاجتماعي والفكري للجماهير المنتفضة. على الرغم من الصدام الدامي والعنيف بين المحتجين من جهة وقوات الأمن والشرطة ووحدات مكافحة الشغب ومن ورائها المليشيات من جهة أخرى، لا يوجد فرق كبير في الانتماء "الطبقي" للطرفين. كلا الطرفين ينتميان في أغلب الأحوال إلى فئات شيعية تشعر بالحرمان والقهر والتهميش وتعاني من النمو السكاني المفرط. إن الفرق الأهم بينهما هو أن الحظ حالف الطرف الثاني في نيل حصته الموعودة، بينما يأمل الطرف الأول مشاركة الطرف الآخر في هذا "الامتياز". من هنا نشهد هذا التداخل الغريب بين صفوف الطرفين. ولعل انسحاب التيار الصدري، الذي يمثل قوة أساسية للحراك، من ساحات الاعتصام، ومشاركته لاحقا في قمع المحتجين هو أبرز مؤشر على هشاشة فرضية الصراع الطبقي. من جانب آخر شابت موجة الإضرابات التي رافقت حركة الاحتجاج، مفارقات غريبة تعكس حقيقة ان الانتماء الطبقي ليس العامل الحاسم في تحديد سلوك الفئات الاجتماعية المختلفة. لقد اقتصر الإضراب عمليا على قسم من موظفي القطاع الحكومي، بينما حرص عمال القطاع الخاص على مواصلة أعمالهم لأن اي إضراب سيعني ببساطة قطع مصدر رزقهم. في المقابل يُلاحظ تحمسُ الكثير من الموظفين الحكوميين للإضراب على الرغم من أن قسما واسعا منهم يندرج تحت ظاهرة البطالة المقنعة. لهذا - وباستثناء النتائج الكارثية على قطاع التعليم - بقيت تداعيات ما وصف تجنيا بالإضراب العام محدودة، لا سيما بعد فشل محاولات تعطيل الإنتاج النفطي. ولتجاوز هذه الورطة يضع د. مظهر محمد صالح كل آماله على ما يدعوه بـ"الطبقة العاملة المعطلة" التي "بلورت وعيا أيديولوجيا حرا شديد التماسك وهو يضرب بقوة عمق النسيج الاجتماعي" على حد تعبيره، معربا عن خيبة أمله إزاء الطبقة الوسطى. صحيح أن البطالة تشكل قاسما مشتركا لمن يعانون من هذه المشكلة الخطيرة في العراق، ولكن الحديث عن "طبقة عاملة عاطلة" لا ينطوي على تناقض لغوي فحسب، وإنما يتجاهل أيضا أن الانتماء الطبقي يعتمد على معايير ثابتة نسبيا بعكس البطالة التي تكون في كثير من الأحيان حالة مؤقتة.
لا غرابة في أن هذا التحليل غير الواقعي يؤدي إلى اقتراح حلول خاطئة والتي تصب علميا في تأبيد ظاهرة الدولة الريعية بدلا من تفكيكها تدريجيا . يؤكد المستشار الاقتصادي لمجلس الوزراء صالح مثلا أن "الاقتصاد العراقي في ظروفه الريعية المعقدة هو أحوج ما يكون إلى دور اقتصادي للدولة"، وكأن الاقتصاد العراقي لا يخضع عمليا لسطوة الدولة في جانب الإنتاج والإنفاق والتوزيع والاستثمار، علاوة على دورها كأكبر رب عمل. وفي الحقيقة فإن الحكومة العراقية ليست بحاجة لمثل هذه النصائح لأنها بدأت فعلا بتطبيقها على نطاق واسع. فتحت ضغط الشارع تخلت حكومة عادل عبد المهدي على الإصلاحات الحذرة لحكومة حيدر العبادي وقررت إعادة توظيف عشرات الآلاف من عناصر الشرطة والأمن الذين تخلوا عن واجبهم أثناء اجتياح داعش لمناطق واسعة من االبلاد. وفي محاولة لامتصاص النقمة الشعبية واحتواء الحراك أعلنت حزمة من القرارات غير المدروسة ومن بينها فتح باب التعيين مجددا على مصراعيه وتخفيض سن التقاعد إلى ستين عاما وغيرها.
لا تخفى على أحد النتائج الحتمية لمثل هذه القرارات التي ستعني إنضمام مئات الآلاف من العاملين الجدد، الذين لا يحتاج إليهم أحد، إلى الملايين من الموظفين الحكوميين الأمر الذي سيعني مزيدا من التبذير في المال العام ومن البيروقراطية واتساع العجز في الموازنة العامة وتصفير النفقات الاستثمارية وبالتالي تعميق الاختلالات الهيكلية للاقتصاد العراقي.
لن تحل هذه الإجراءات المتسرعة مشكلة عدم العدالة في توزيع الثروة الوطنية لأن حصة الأسد من نفقات الموازنة العامة ستذهب لصالح مرتبات الموظفين والمتقاعدين وعلى حساب القطاع الخاص والاستثمارات في عملية التنمية. كما أنها ستضع عوائق إضافية أمام أي جهد لاعتماد إصلاحات سياسية واقتصادية جذرية تهدف لمكافحة الفساد ومحاربة تبديد المال العام والهدر في الموارد البشرية وإعادة هيكلة القطاع الحكومي وتفعيل المبادرة الخاصة.
من الواضح أن الطبقة السياسية الفاسدة ترمي من وراء هذه الحلول حماية امتيازاتها أمام الشارع الملتهب، ولكن تأثيرها سيكون مؤقتا في ظل تعمق مأزق الدولة الريعية. كل عام تزداد نفوس العراق بأكثر من مليون نسمة . وعاجلا أم آجلا سيخرج بعضهم إلى الشوارع رافعين من جديد شعار "نازل آخذ حقي".



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن