من يفكك الأزمة؟ ومن يؤزم الواقع؟ ح4

عباس علي العلي
fail959@hotmail.com

2020 / 2 / 14

كل تلك المقدمة نريد من خلالها التركيز على عوامل أستمرار الأزمة وديمومتها بهذا الشكل المرعب، الذي أصاب بالفعل مفاصل الحركة الأجتماعية السياسية في العراق وألقى بتأثيراته إنعكاسا ونكوصا في خيارات الشخصية العراقية عموما، أما الآن نبحث في ماهية الأزمة وجوهر ما تحمل من تداعيات وأثار مدمرة، منها ما هو نتيجة وسبب ومنها ما هو مقدمة تنتظر نتائج على المديات القصيرة والبعيدة.
الأزمة التي نتكلم عنها وببساطة هي إشكالية صنع الوعي اللازم للتغيير وتفعيل هذا الوعي ليكون خصيصة ذاتية في الشخصية العراقية، البعض يرى في الوعي متلازمة بالواقع وأحداثه بمعنى أن الوجود المحض هو المسؤول أولا وأخير بخلق وتصنيع الوعي كما يطرحه البعض بمقولة (كيفما تكونوا يولى عليكم)، البعض الأخر يرفض الإستسلام لهذه القاعدة ويرى أن الوعي هو نتاج عقلي متعلق بالمعرفة والتجربة وبالتالي فمن لا تجربة له لا وعي حقيقي له، وإنما ينخرط في دائرة الوعي الواقعي، وبذلك فهم يؤسسون مفهوم الوعي على الفعل الإرادي للفرد والمجتمع.
لا ننكر أن الواقع هو الحاضنة الطبيعية للوعي كما أنه المجال الحيوي لإظهارها فعليا، لكن بالمقابل الإنسان ليس عنصرا أفتراضيا متلقيا سلبيا فيه، فهو يملك الأدوات اللازمة لكل شيء بما فيها حالية التغيير والتحول، وبالتالي لا يمكن إعفاءه من التقصير والنكوص للخلف بحجة قوة الواقع وتجذر تأثيراته عليه، هذا يقود إلى مسخ الشخصية البشرية والإستهانة بدور العقل فيها وعليها.
من مشكلات الفكر البشري والتي عرقلت تطوره بنفس التعجيل الذي تتطور به الموضوعات الطبيعية هي الأنتماء له والتخندق الأعمى الغير واع لهذا الأنتماء، الفرض العقلي يقول أن الفكر الإنساني وليد عوامل ومعطيات صاغها الوجود الإنساني فهو مرتبط بنفس تلك القوانين التي يصوغها الزمن وبفرضها على الوجود، بالتالي فليس هناك خلود لفكرة معينة وليس هناك أنتماء حقيقي لزمن مضى وانتهى، الأنتماء الحقيقي هو الأنتماء لقانون التطور والتجديد المستمر الذي لا بد له أن يكون في فهم الوعي الإنساني المتمثل بصورة تخيلية تشبه قطار لا يتوقف أبدا إلا لتجديد السكة بأسرع منها، السلفية العقلية الفكرية هي العصا التي توضع في عجلات التطور الفكري نحو الغد، ومهما كانت هذه العصا متينه لا بد أننا سنشهد تكسرها وتشطي مكوناتها عندئذ نكون قد خسرنا كثيرا من الزمن الذي لا يمكن تعويضه أبدا إلا بنسبة ما يمكن لنا في تجاوز الأزمةومفاعلاتها .
الفكر البشري وإن كان فيه القلق من حالية التغير تؤثر عليه وقد تجرفه خارج ما هو غير طبيعي وحتمي لا يمكن أن يكون هو القانون الطاغي بقوة، دون أن تمهد له المعطيات الحقيقية للتحول والتطور بما يتناسب مع حالية الواقع مقارنة بتطور مفهوم الزمن وتأثيرات هذا التطور على العلاقات الفكرية بين أفراد المجتمع، وما ينتج من هذه العلاقات من معرفة متجددة بعيدا عن التقليدية والسلفية، فالتسليم بقوة الواقع وروابطه وقوانينه ومعطياته معها لا يمكن مع للعقل الإنساني أن يستمر متراجعا، أو يتخلى عن أسلحة الصراع الفكري على الساحة، وقد نشهد له إنزواءه وتقهقر بما قد تتحول إلى ردة فكرية تعزز الأنحياز للماضي وشروطه، مما يسبب نكسة حقيقية للمعرفة الإنسانية لأنه أعطى مفهوم خاطئ ومضلل عن أثر الزمن وبصمته في تطوير الكمال البشري.
التركيز على جوهرية فعل العقل وقدرته على صنع الوعي بالذات والوعي بوجوده المحض، هو الطريق الحقيقي لكل التحولات الكبرى والمتغيرات الكونية على حد سواء، وبدون هذا الوعي ومع إقرارنا بقوة الواقع وتأثيراته تبقى المعادلة منقوصة وبحاجة إلى التجديد الذي يعني الوعي بالزمن أيضا، فسر الأزمة الذاتية العراقية شخصية ومجتمعية هو إلتصاقها بالواقع أكثر من ملاحظة قوانين الوعي الثلاث، وهي قانون الحتمية وقانون أستحالة البقاء واقفا والقانون الثالث والأهم أن العقل وليس سواه هو القائد والرائد في نحت الوجود بالشكل الذي يجعله ممكنا وقابلا للتغيير.
الفكر الحداثوي والحامل لروح التجدد قادر أن يفهم ويستعلم عن مشاكل عصره وعن الإشكاليات التي تنتاب المجتمعات نتيجة أستحقاقات التطور، هذا بالطبع ليس أفتراضا خياليا ولكنه من صميم طبيعة الفكر الخارج من ربقة الزمان والمكان والمتحرر من التخندق الشخصي أو الأنتماء لمحدد أخر غير العقل والزمن وعلاقتهما الديالكتيكية، عندما تحرر الإنسان من علاقته بالمكان وأصبح على جرأة أن يكتشف الأفق الممتد من حوله تعرف على مساحة لم يألفها من قبل حملت له الكثير من المعطيات الفكرية، أولها أن الكون الوجودي أكبر من حدوده التي رسمها بوعيه أو بعقله الواعي، حتى جاءت المحاولة الثانية أن يسحب هذا الاكتشاف على كل وعيه الجديد فاتسعت الرؤية لديه وتنوعت ونقلته إلى ما هو أوسع من حدود التفكير السالف، فالحداثة الواعية أو الوعي بالحداثة بالمجمل هي نتاج القوانين الثلاثة السالفة ومن حصادها على الواقع، وحيث يفهم العقل البشري هذه المعادلة الأفقية يتحول وعيه الخاص من النمط الأفقي إلى نمط عمودي يرفعه عن مجاراة الواقع ويتغلب عليه.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن