ما عاد الصمت ممكنا (1) : إحذروا التخوين وإلا ستجنون ندما ما بعدة حسرة

عبدالرحمن إبراهيم محمد
aabduhu@hotmail.com

2020 / 2 / 13

هـذا موضوع هام أريد أن أفيض فيه وهو بداية لسلسلة من المقالات تحت نفس العنوان "ماعاد الصمت ممكنا" تعالج واقع الوطن وما يمر به من أمور معقدة تحتاج إلى الصراحة والوعى بأبعاد المشاكل والواقع. ومثالا لذلك فإن مقالى هذا ناتج ليس فقط بحكم دراساتى ومحاضراتى وكتاباتى فيما يمتزج فيه علم النفس الإجتماعى مع التواصل الإدراكى والفلسفة السياسية وممارساتها أو فى الحياة الإجتماعية المطلقة التى نعيشها كل يوم بتعقيداتها وتداخل الأمور فيها وتشابك المصالح والتضادات فى مسارها مع أثر التاريخ ومساره على الواقع والدروس المستقاة منه. وذاك أمر هام لأن نظريتى ومنهجى التحليلى نتج عن دراسات معمقة تختلف تماما عن النظريات الغربية التى لا تمت لواقع مجتمعات الدول فى الجنوب القارى أى آسيا وأميركا الجنوبية وإفريقيا مع النظر إلى السودان كنموذج لا تنطبق عليه مفاهيم ونظريات ومناهج العلوم المبنية على واقع الغرب أو بنظرة دونية لما غيره من المجتمعات التى يسمونها متخلفة. وهو الخطأ الجسيم الذى يقع فيه الأكاديميون ومن يشار إليهم بالخبراء بتقمصهم لواقع غير واقع بلادهم وأسلوب تفكير يبعد عن حقيقة مجتمعاتهم. ولكنى فى هذا المقال أريد أن أبدأ بمعالجة مأساة ثورية عشت كثيرا من فصولها من قبل فى عدد من الثورات والتغيرات السياسية والإجتماعية. وكانت قد هزتنى بعنف مفرط واحدة منها أكثر من غيرها مما سآتى على ذكرها لا حقا لأبين جسامة جرمها وعمق جراحاتها. ولكنه يتحتم على أولا أن أورد بعضا من الخلفيات الهامة.

فقد حفزنى لكتابة هذا المقال هجوم شرس ضارٍ شن على واحد من شباب ثورة ديسمبر السودانية الأخيار المناضلين الذين ذاقو الأمرين من بطش النظام السابق لسنين عددا، لا لذنب إرتكبة سوى إجتهاده فى إلقاء الضوء على حادثة فض الإعتصام التى راح ضحيتها مئات الشباب ومورست فيها أبشع أنواع التعذيب والإغتصاب والقتل وربط الجثث بالأثقال ورميها فى النيل. ورغما عن تحليلة الممنهج والرصين ورغما عن أنه أورد تفاصيل غابت على سطحية وإنفعال كثير من الناس فى تفسيرهم لظواهر الأمور دون النظر إلى خساسة الدس وتعقيدات التآمر والتضليل السياسى الممنهج؛ ورغما عن أنه أورد أسماء وأدلة تشير إلى من قام بذلك العمل والهدف من ذلك، والذى فى تقييمه هو أنه قد قصد به إلصاق الجريمة بغير مرتكبيها. وهو إجتهاد لا يرقى لمستوى الخيانة أبدا. ولكن الخيانة للثورة هى فى تخوين الثوار لبعضهم البعض لمجرد إختلاف فى وجهات النظر وبلا سند يخالف تفاصيل ما أورد هو بالأسماء والأدلة والرتب وإستراتيجيات التحرك وتكتيكات البطش لمرتكبى ذلك الجرم الحقيقين.

وتضاعفت ضرورة كتابة هذا المقال بعد الحملات المحمومة خاصة ممن كانوا فى خندق الثورة وهم يكيلون السباب والإتهامات بالتخوين للحكومة المدنية ويطالبون بإسقاط مكونات قوى الثورة من تجمع المهنين إلى قوى الحرية والتغيير، كأنما هم الأعداء لثورة الشعب واصفين أياهم بالخونة. وكل تلك الدعوات الإنفاعلية أو المغروضة ناتجة عن إحساس مقدر بالإحباط وجهل بأبجديات العملية السياسية وتقييم إنفعالى لأخطاء يمكن تصحيحها بالنقد البناء بدلا عن هدم كل ما أنجزته ثورة الشباب التى جادوا فيها بدمائهم وعرقهم وأرواحهم. فمن المنطق أن يسأل المتذمرون أنفسهم كم من الوقت يحتاج إصلاح بيت مُخَّرب؟ فكيف يتوقعون إصلاح بلد كامل فى ظرف شهور قليلة بعد دمار دام ثلاثين عاما؟ وأستفحل أمر هذه الدعوات فى حملة مسعورة تدل على الجهل والغرض بعد أن طلب رئيس الوزراء من الأمم المتحدة إستبدال قوات حفظ السلام تحت الفصل السابع من ميثاقها الذى وضع السودان تحته أبان الحكم البائد، وهو فصل يبيح استخدام القوة والتدخل العسكرى وإستبداله بطلب من رئيس الوزراء من الأمم المتحدة بإستبدال قوات حفظ السلام بفرق بناء السلام وفقًا للفصل السادس من ميثاق المنظمة التى يتوجب عليها تقديم المساعدة للسودان الدولة العضو. فمن الجهل مهاجمة الطلب وإتهام رئيس الوزراء بالخيانة فى الوقت الذى نزع فيه فتيل إمكانية الأعمال العسكرية لقوات حفظ السلام مستبدلا أياها بعمليات دعم بناء السلام ونقل وتوطين اللاجئين العائدين والإسهام فى عمليات التنمية التى ترفع العبء عن الوطن المأزوم وإقتصادة المنهار. ورغم هذا الإنجاز الموفق إرتفعت الدعوات إلى إسقاطه وحكومته متهمين أياهم بالعجز والخيانة مع إيراد أسباب واهية حول مظهر هذا الوزير وشكل تلك الوكيلة.

والسؤال الذى تجب الإجابة عليه هو ما علاقة نقد سفاسف الأمور كعمر وزيرة متمرسة أو شبابية وكيل بتحقيق أهداف الثورة؟ وما البديل بعد إسقاط الحكومة المدنية؟ وكيف يتم سد الفراغ بعد أسقاطها؟ فإسقاطها لا شك يصب فى مصلحة من كنت أول من أسماهم من اليوم الأول بـ"اللجنة الأمنية" لنظام المخلوع . وكنت قد حذرت من الوقوع فى فخ تسمية اللجنة الأمنية للمخلوع، التى كانت تخطط لإجهاض الثورة ويقرر أعضاؤها فض المظاهرات بالقوة وبقتل الثوار، والإشارة إليها بالإسم الخادع الذى سمو به أنفسهم "المجلس العسكرى الإنتقالى" وهم فى واقع الأمر ظلوا يخططون لإنقلاب يعمل على تغيير واجهة النظام فقط، مما تأكد من تخطيطهم لفض الإعتصام ثم قتل المعتصمين وإلغاء كل الإتفاقات مع ممثلى قيادة الثورة. فكيف يمكن الوثوق بهم وإعتبارهم فصيلا من فصائل الثورة؟ وفى مقالى القادم سأبسط وأفيض فى تحليلى للعصابة العسكرية التى تعيق كل إنفراج ممكن لزيادة إحباط الجماهير وتغذية الدعوة لإسقاط الحكومة المدنية، إعتمادا على سيطرتهم الفعلية على كل مفاصل الدولة ومؤسساتها الأساسية وعبر ولاة الأقاليم العسكريين. فهل سأل أحد مهاجمى الحكومة المدنية نفسه عن تلك الهيمنة ودورها فى تأزيم الأوضاع تطابقا مع القوى المضادة للثورة من بقايا النظام السابق؟ فلا شك أن للحكومة أخطاؤها وقصورها عن تطلعات الجماهير، ولكن إسقاطها لن يورث إلا الندم وسيقع الوطن مرة أخرى تحت براثن نظام لن يرحم تدعمه قوى خارجية متعددة. فيضيع الوطن مرة أخرى.

لذا أريد أن أستنجد بذاكرتى لأبسط قليلا مما حوت من معارف هضمتها ودرستها وتجارب محسوسة عشتها. وفى ذلك أفى بوعدى لعدد من أبنائى وبناتى الذين ألحو على بأن أبدأ بالتوثيق لكثير من ما عايشت من وقائع وأحداث وما حصدت من معارف وتجارب. وفى ذلك وفاء لمبدأ ديمقراطية المعرفة والوعى الجماهيرى الضرورى لأحداث أى تغيير فى واقع السواد الأعظم من الشعب. فقد تقاصر العمر وما تبقى إلا القليل منه.

فقد شاءت الاقدار ان تعدنى لمهام ما كنت أدرى أبعادها ولا أهميتها فى حياتى وحياة الشعوب ومسار الأمور فى العالم وترابط المصالح وتشابكها وإختلافها وتضاربها. فقد جئت إلى جامعة الخرطوم وإتحاد طلابها كان قد أنجز دورا محوريا فى ثورة الحادى والعشرين من أكتوبر عام 1964 وصار رقما فاعلا فى أمور الوطن ومرجعا للإتحادات الطلابية والشبابية حول العالم. وكان لدوره الطليعى فى إحتضان حركات التحرر الإفريقية إجلالا حاز به على مرتبة رفيعة فى تصدر قضايا التحرر فى إفريقيا. وكان شرفا لى أن أكون صوتا لذلك الإتحاد العتيد فى عدد من المحافل الدولية. ولإنتمائى لذلك الصرح تم إختيارى مفوضا لحركات التحرر الإفريقى للمنظمات الطلابية والشبابية العالمية فى سبعينيات القرن الماضى. فتوثقت علاقاتى بعدد من قيادات وأعضاء تلك الثورات الفاعلين. فأتاح لى ذلك أن أطلع على كثير من دخائل وتفاصيل قضايا تلك الثورات وما يعتورها من أزمات وقصور وفتن. فتشابهت أمور أغلبها.

ولما تعمقت دارستى الأكاديمية لكل المجتمعات النامية – دولة دولة -- والتحولات السياسية والإقتصادية والثورات والتغيرات الجذرية فى دول إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط تلك، وأطلعت على أبحاث ورسائل الماجستير والدكتوراة لعدد مقدر من طلابى عبر السنين والذين كانوا يمثلون 91 دولة، خلصت إلى قناعات ومبادئ نظرية أثبتت الأيام أهميتها فى تفسير كثير من الظواهر والمعضلات التى تعتور المجتعمات المتحولة خاصة فى مراحل نضالاتها ضد ظلم النظم الجائرة وفى خضم ثوراتها. فصغت كل ذلك فى قناعات نظرية متكاملة ومتلازمة مع منهج تحليلى يجافى الخضوع للنظريات والمناهج الغربية التى لا تتلاءم مع حقيقة وواقع المجتمعات فى الدول غير الغربية. وقد أثبت أختبار تلك القناعات النظرية والتحقق من فرضياتها، خاصة بواسطة دراسات طلابى فى الدراسات العليا لمجتمعاتهم، قيمتها النظرية وفعالية منهاجها التحليلى. لذلك حينما أحدد رأياً فإننى إبنيه دوما على يقين.

ومن أمثلة ذلك اليقين المبنى على صواب منهجية الإستقراء التحليلى أننى صرحت لعدد من الأصدقاء فى حوارات مختلفة فى شهر إبريل من عام 2018 أن نظام البشير حتما إلى زوال فى مدة لن تتجاوز السبعة أشهر. ومن ضمن من ذكرت لهم ذلك أخى الاصغر العقيد مصطفى يوسف مصطفى التنى والذى أقاله نظام زميلة البشير. وكررت نفس الفرضية لبعض الإخوة الأفاضل اللصقاء الذين نصحونى بعدم نشر تحليلى حتى لا أعطى لأجهزة الأمن مؤشرات قد تساعدهم فى أجهاض الثورة التى توقعتها. ولم يكن ذلك التحليل الصائب عبقرية منى ولكنه نتيجة لتحليل موضوعي لنبض وروح الجماهير التى يغفلها المحللون الذين يهملونهم و يركزون دوما إهتمامهم على إمكانيات وقدرات من يمسكون بالسلطة من أشباههم من المتعلمين - دون إحساس صادق بالغالبية المسحوقة. لذلك حينما كتبت مقالى "أعـظـم إمـرأة فى تاريـخ إفـريـقـيا على الإطـلاق ومجـدنا الآتى" فى العاشر من يناير عام 2019 كنت كامل الثقة فى إنتصار الثورة رغما عن حدة التشكيك فى مسار الثورة ونجاحها. فقد كنت مهدت لتلك الحتمية فى عدد من مداخلاتى ومقالاتى فى العام السابق فى بعض المواقع والفيس بوك والمجموعات. فمنهجى يعتمد على قياس مواقف الجماهير وروح أنفاسها وتوجهاتها ومدى تعبئتها ودرجة إلتزامها بما تسعى اليه دون مراعاة لمواقف السلطة التى هى دائما ما تكون فوقية لا تشعر بنبض الشارع ودرجة إحتقانه، وحتمية إنتصاره متى ما كانت هناك الإرادة الكامنة فى حتمية التغيير. ومهما كان بطش الأجهزة الأمنية فإنها لا محالة تفرغ من قدرتها على القمع والقهر بمجرد وصول الثورة درجة النضوج. لذا كنت متأكدا و واثقا ثقة مطلقة فى إنتصار الثورة منذ ذلك الوقت الباكر.

وفى هذا المقام أود أن أركز على واحدة من تلك القناعات الهامة جدا فى هذا الوقت من ثورة الشعب. فلتخصصى فى علم التواصل الإدراكى والدراسات الإنمائية متعددة المساقات وتدريس قضايا التخلف والتنمية والتحولات الإجتماعية ومواد الرأى العام والدعاية السياسية والتحولات الفردية والجماعية ودراساتى المعمقة لواقع الدول وتاريخها، أدركت بعض أسباب التخلف والفرقة والأنقسامات العنيفة والدموية فى أغلب الدول النامية. فمن مميزات علم التواصل الإدراكى أنه يدرس القدرات والعمليات التفكيرية التى تمكن الإنسان من التفكير فى نفسه وواقعه ومحيطه والآخرين وكيفية التعامل معهم بوعى ومقدرات؛ وكل ذلك يعتمد على إستيعاب الواقع وظرفه التاريخى والإنتباه لمجريات الأمور فيه من الموقع والموضع الذى يجد الإنسان نفسه فيه مع إعمال الذاكرة دوما فى التفكير والتقييم ومحاولة إيجاد الحلول. ومن كل ذلك تتنمى المقدرة على التفكير نيابة عن الآخرين والأحساس بمشاعرهم وما يمكن أن يقدموا عليه من أفعال.

وقد كان من أهم تلك الخلاصات التى بنيت عليها تلك القناعات أنه حينما تتم المواجهة وتحتدم العداوة تحدث عملية إستقطاب لمعسكرين رئيسيين متضادين تتلاشى فيهما الإختلافات التفصيلية والقضايا الفرعية داخل كل واحد من المعسكرين. ومع إشتداد المواجهات يزداد الترابط داخل المجموعتين وتقوى أواصر التضامن وحدة التفانى من أجل القضية والموقف أو المصالح. ولكن بمرور الزمن وعدم إحراز نجاح يذكر تبدأ الإستقطابات الفرعية والإنقسامات داخل كل معسكر وتتزايد مع مرور الزمن وعدم حسم المواقف والقضايا الأساسية. فتتزايد الإنقسامات ومواجهات التخطئة والتذمر من أخطاء قليلة الأهمية ولكن يتم تجسيدها كأنما هى أكبر الآثام. ثم تتزايد الشروخ وتكال الإتهامات ببيع القضية أو الخيانة والعمالة. فتتشظى الجبهات وتضعف المقاومة وتنهار المشاريع وتضيع القضية الأساسية وسط الخلافات الفرعية والشخصية. ولما كنت أدرى نظريا وعمليا خطورة هذه الظاهرة، خاصة فى المراحل الحرجة فى تاريخ الأمم أو مفترق طرق توجهات مستقبلها، رأيت أن أبادر لأطرح ما يسرت الظروف للإحاطة به. ولأختصر كثيرا من نماذج تلك المعارف نركز هنا على فهم ظاهرة الإستقطاب والتشظى.

ولنفكر فى ذلك معا أدعو القارئ لأن ينظر إلى القضية الفسلطينة مثلا وكيف كانت المواجهة بين منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الإسرائيلية. فحينما طالت المواجهة ولم تحسم لأعوام طالت تقسمت المنظمة فى النهاية إلى عدد من المنظمات والجبهات كثيرة حتى بلغت درجة الإقتتال. وكذلك كان حال التشظى فى الداخل الإسرائيلى. وليس بعيدا عنا ما حدث فى احزاب الأمة والإتحادى والشعب الديمقراطى والشيوعى والأحزاب الأخرى بما فيها الإسلامية وماحدث حتى للحركات المسلحة طوال مواجهاتها مع نظام الإخوان الذين لم يسلم حزبهم ولا حركتهم من ذلك الإستقطاب والتشظى الفرعى. لذلك يجب على الجميع فى هذا الظرف من عمر الثورة التأنى فى التفكير وعدم القفز إلى التخوين والإتهامات والمطالب العدمية. فما معنى أن تقوم لجان المقاومة فى الأحياء بالدعوة إلى أسقاط تجمع المهنيين دون التفكير فى آثار ذلك والمتوقع من إسقاطه وبعده؟ وما هو البديل الممكن أن يحل محله ويقوم بالدور المطلوب فى غياب أى مجموعات أخرى منظمة يمكنها أن تؤدى دوره ما عدا أعداء الثورة من القوى المضادة لثورة الشعب وإنتهازييهم واللجنة الامنية العسكرية لنظام البشير؟

لذا يجب التذكير يإن من أعدى أعداء الثورات هو عدم صبر الثوار وإنفعالهم وتهورهم فى إتخاذ القرارات دون تفكير أو روية . وضرورة الحوار دون عدوانية حتى ترتق الفجوات وتصحح الهفوات وتتوحد الصفوف لإنجاز أخطر المراحل التى تمر بها ثورة. وأورد هنا بعض ذكريات النضالات التحررية الإفريقية وجسامة الإنفعال المؤدى إلى الإقتتال والفشل. لأن الجهل وعدم الإطلاع على تجارب الآخرين الذين سببوا لأنفسهم وأوطانهم كوارث تجل عن الوصف، أخطر ما يمكن أن يحيق بالأوطان، كما فى موزمبيق وحرب الدمار والتدمير الدائرة من مطالع الستينات فى القرن الماضى، والتى ما زالت مستمرة إلى اليوم منذ أكثر من نصف قرن. ويضاف إلى الجهل كره الذات الذى يوهم القيادات الجاهلة والأفراد المغيبين الذين لم يعبأوا التعبئة الثورية الحقيقية بتوعيتهم وتثقيفهم قبل شحنهم بشعارات ثورية طوباوية أو إيداع البنادق والطلقات فى أياديهم، أو شحنهم بأضاليل وأوهام ليصبحوا أدوات جذب للزناد قاتلين بعضهم بعضا؛ وكانهم يقتلون فى عقلهم الباطن أنفسهم إنتقاما لفشلهم وإحباطهم، وهو ما يسمى فى علوم التواصل الإدراكى بـ"التقمص الإنعكاسى". ومن ثم تصفية لتلك السواعد التى كان لها أن تسهم فى بناء الوطن بدل تدميره. وما أنجز أدعياء الثورية عندنا، طوال ربع قرن، إلا الدمار والفرقة والشتات وقبر المستقبل وإراقة دم مئات الآلاف من الشباب الذين هم أمل المستقبل للبلاد، ونفَّروا منهم من كان من المفترض فيهم أن يكونوا العمق الثورى الحاضن. ويستوى فى تلك الجرائم مجرمو السلطة وأدعياء الثورية. وكلما بذل لهم الناس النصح إستكبروا وتواروا خلف شعارات فارغة عن "الحسم الثورى" و"متطلبات المواجهة النضالية"؛ إلى آخر قائمة الشعارات الخطابية الممجوجة. وهم عالمون بأنهم يخدعون أنفسهم قبل الناس. فينتهى الأمر بآلاف القتلى من خيرة أمل الوطن من الشباب، فى حروب عبثية ظلت تدور فى حلقة مفرغة، من التطبيل الفارغ لإنتصارات لا تقدم ولكن تؤخر يوم الخلاص من آثار نظام فاسد باطش.

ففى واحدة من تلك المفارقات حول حتمية الإستقطاب والتشرذم وإعادة التفتت الإستقطابى نتيجة الفشل فى الإنجاز لغياب التخطيط وتحديد الأهداف ورسم البدائل، مما ينجم عنه التفتت الإستقطابى وإطلاق تهم التخوين والعمالة، كنت قد وجهت ملامتى للمناضل قورا إبراهيم أثناء حوارى معه فى دار السلام وقد كان العقل الواجهة للموتمر الشعبى الإفريقى الذى كان قد إنشق عن المؤتمر الوطنى الأفريقى، ومانديلا قابع فى سجنه. فأنتهى الأمر بين التنظيمين بمعارك دامية وتمت تصفيات ومصارع رجال أفذاذ، وكل من النظامين العنصريين فى جنوب إفريقيا وروديسيا طرب جذل. وكان ذلك نفس الحال فى المستعمرتين البرتغاليتين أنقولا و موزمبيق وفى زمبابوى حينما كان إسمها تحت الحكم العنصرى روديسيا. لذلك واجب على أن أورد وأذكر بتلك الكوارث الثورية حتى نتعلم من أخطاء الآخرين ونركز على أبجديات ثورتنا. وفى ذلك نصح حتى للمتأسلمين أو الأتباع عن عمى لنظام فاسد ظل يخادع الناس بكذب حول إسلام أختلقوه ليضللوا به الناس، لانه يجب أن يعوا خطورة التفلت والتصرف الأحمق دون روية.

وهنا تحضرنى فاجعة ثورية أشرت إليها فى بداية هذا المقال وقعت لصديق مناضل من زمبابوى إبان إشتداد الخلاف بين معسكرات القوى التى كانت تناضل ضد نظام الفصل العنصرى فى روديسيا. فرغم وحدة الهدف فى إجتثاث النظام العنصرى إحتدم الخلاف بين المناضلين وإنشقوا بين معسكر جشوا إنكومو وأندباننقى سيتثولى والعسكرحملة البندقية تحت قيادة روبرت موقابى حتى بلغ الخلاف حد الإقتتال والإغتيالات والتصفيات المتبادلة. ففى منتصف السبعينات حدثت الكارثة التى أشرت إليها مما أدى إلى التمثيل بصديقنا المناضل الزمبابوى "ماتأُورى" الذى نما إلى علمى أنه دفن حيا لشك إتضح فيما بعد، بعد التدقيق والتحقق، أنه لا أساس له من الصحة، كما علمت من صديقنا السفير بوزارة الخارجية التنزانية، المرحوم كريس لابانى لاحقا عند زيارته للخرطوم أبان إنعقاد مؤتمرالقمة الأفريقى. ومثل هذا البلاء فى التصفيات هو ما قامت به وبحذافيره جماعات فى السودان، تدعى الثورية والتقدمية أو الإسلامية وهى تصفى رفاق الفكر والسلاح قبل أولئك الذين يحسبونهم أعداءهم الأساسيين! وما علموا أن قياداتهم خانتهم، وأنهم يقتلون أنفسهم فى كل سودانى آخر يصرعونه. عليه واجب علينا التخفيف من حدة المواجهات وإلقاء التهم جزافا حتى لا يتم تصعيد الخلافات إلى مواجهات كارثية الوطن فى غنى عنها.

ولأدلل على فظاعة التخوين ومرارة الإتهامات وعمق الجراح أورد قصيدة كنت قد كتبتها نوحا ثوريا فى رثاء صديقنا متأُورى والتى كنت قد كتبت نصا منها باللغة الإنجليزية:

خــيانــة الــثـورة والـثــوار
-------------------------
جاء رفقة ُ السلاحِ
وفيهمو العدوُ والصديقُ
وكان جمعُهم مُعبأً مُزمجرا
وقد أجمعوا بأنكَ العميلُ
والخؤونُ غادرا
وأنتَ كنتَ فيهِمو
الأبىَّ والنبيلَ
والمصادمَ الصدوقَ دائما
مقاتلاُ وثائرا
وفى غضبةِ التخوين
واليقين ِإستلَّ كلُ واحدٍ
مسدسا وخِنجرا
وقدْ حَسِبتَ أن نصلهم
سيُعمل التقطيعَ فى
الأحشاءِ والصدغينِ
مثلما جَندلَ الرومانُ
قيصرا!
لكنْ صارَ كلُ نصلٍ
للحفر معولا
ليدفنوا شبابكَ الفتىَ
وفكركَ الثورىَّ
ويقبروا أنفاسكَ الثرى
فتصبحُ الثورةَ هرةً
تأكلُ أبناءَها
تُريقُ جَهدهم وكلَّ
مابنوا وتفصُمَ العُرى
ويسقطُ الشهيدُ باكياً
على خيانةِ الرفاقِ
والغباءُ مُطبـِقٌ ومُطلقٌ
والكلُ ما درى
أن شهقةَ َالشهيدِ
سُبةٌ لجهْلِهم وظُلمِهم
وعائقا لنصرِهم
وحافزًا لكُرهِ منْ يرى
وجُرمُ عار ٍ شائنٍ
ومانع ٍ للإصطفاف
خلف ثورةٍ
مُنفرًا لمن أتى مُناصرا
لكنَّ كل مخلصٍ
سيرفعُ الهُتافَ والذراعَ
يغسلُ الأدرانَ
يُنظفُ النفوسَ
ظاهراً وجوهرا
فيوقظُ اليقينُ أن
جيشنا الثورى قادرٌ
على النهوض ِ والصمودِ
عائدٌ بالنصرِ ظافرا
وتظلُ أنتَ فِيهـِمو
الأبىَّ والنبيلَ
والمصادمَ الصدوقَ دائما
مقاتلاً وثائرًا
______
بوسطن، الولايات المتحدة 11 يناير 2020



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن