السودان: حمدوك عالق على الجانب الخطأ من التاريخ

محمود محمد ياسين
mahyassin@hotmail.com

2020 / 1 / 26

قف بنا نملأ البلاد حماسا ... ونقوض من ركنها المرجحن
هي للنازحين مورد جود ... وهي للآهلين مبعث ضن
يستدر الأجانب الخير منها ... والثراء العريض في غير من
أبطرتهم بلادنا فتعالى ... ابن أثينا (واستكبر) الأرمني – التيجاني يوسف بشير

إن الوقوف على الجانب الخطأ من التاريخ موقف يتحدد موضوعيا في سياق تتحد فيه ديناميات سياسية خارجية ومحلية وليس اختيارا. فمثلا سيرة الرئيس المخلوع عمر البشير تعج بالكثير من الجرائم: سياسية، جنائية، مدنية، إدارية؛ لكن هذا ليس كل شيء، فقصته وراءها مأساة سياسية كبرى. فطالما حاول البشير وجماعته إقناع الناس أن الصعوبات التي ظل يواجهها نظام الإنقاذ ترجع أسبابها لعدم خضوعهم للدول الكبرى المستكبرة تمسكا بالدين والحفاظ على عزته. لكن حقيقة الامر فإن البشير كان أمام الدول العظمى مغلوبا على أمره ومسلوب الإرادة السياسية وملاحق، مؤتمراً بأمر مؤسسات التمويل الدولية مما جعل السياسات الاقتصادية لنظامه تقع خارج المحلية برسمها وتصميمها بحيث تخدم مصالح رأس المال العالمي؛ وهي المصالح التي يحرسها صندوق النقد الدولي الذي يشترط أن تُوضع استراتيجية السياسات الاقتصادية للدولة بناء على متطلبات البند الرابع لميثاقه.

ومأساة البشير هي نفس المأساة التي يعيشها الكثير من الحكام في الدول الفقيرة (دول الجنوب)، ومن الأمثلة في هذا الخصوص في منطقتنا الأفريقية: عبد الفتاح السيسي وآبى احمد على واوهورو كنياتا ويورى موسفينى والحسن وترا وماكى سال؛ فالفيل القابع في غرف جميعهم هو البند الرابع لميثاق صندوق النقد الدولي المار ذكره، فهم يمتثلون لروشتات الصندوق ويقعون تحت رحمة راس المال العالمي، فكلهم في "الهم" جنوبا.

أول ما نطق به دكتور حمدوك في أغسطس 2019 عقب الإطاحة بنظام الإنقاذ وهو يقدم نفسه للشعب الذي لم يكن يعرفه، كرئيس للوزراء، بمخاطبتهم قائلا بانه جاء من دون ان يكون حاملا لعصا موسى! وهي حجة قديمة يلجأ لها السياسيون لإسكات من يطلبون منهم الكشف عن توجهاتهم وبرامجهم. لكن الشعب المنتفض لم يكن يعلق آماله في النجاة من جحيم المسغبة وانعدام الأقوات على مجيء نبي بعصا يغرسها في الأرض فيتحول السودان ل” جنة اقتصادية“.

ولكن حمدوك له عصاه السحرية التي سيذلل بها كل الصعاب وخاصة النهوض بالاقتصاد الوطني؛ فحول رؤاه حول كيف تكون إدارة هذا القطاع، بشر رئيس الوزراء الناس بالبراغماتية التي تحكم اقتصاد اليوم؛ وتحكم البراغماتية في علم الاقتصاد السائد صحيح ولكن الدكتور تجنب أن يحدد أكثر. فاقتصاد اليوم تحكمه النيو ليبرالية. والاقتصاد النيو ليبرالي يرادف الاقتصاد التقليدي أو الكلاسيكي المحدث (neoclassical economics)؛ فالسائد الآن الاقتصاد النيو ليبرالي: اقتصاد السوق الحر (الرأسمالية).

والاقتصاد الكلاسيكي المحدث أعطته النيو ليبرالية (neoliberalism) - (الليبرالية الجديدة) بعدا نوعيا (في مضمار الاقتصاد) في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي نظريات المدرسة النقدية (monetarism) لرائدها الاقتصادي الأمريكي ملتون فريدمان؛ فقد تبنى الكثيرون من اقتصادي المدرسة الكلاسيكية المحدثة وخاصة خبراء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي افكار النقوديين، التي اشتمات على أطروحات بديلة للاقتصاد الكلاسيكي المحدث. وسياسات النيو ليبرالية تهدف لحل الأزمة الاقتصادية التي ضربت الاقتصاديات الغربية منذ سبعينات القرن العشرين وتراجع الاداء المالي لمؤسسات تلك البلدان. ويرتكز الحل على شطب نسبة الدخل القومي التي ظلت تخصصها الانظمة الرأسمالية لعمال وفقراء بلدانها في شكل خدمات مجانية وانهاء دعم السلع وتجميد الاجور وتخفيض المعاشات وتقليل الضرائب على الشركات الكبرى. وكان اقتصاديو البنك الدولي وصندوق النقد كالعادة "تحت الخدمة" حيث انتقلوا الى اعتماد افكار النقوديين وتحويلها الى سياسات اقتصادية محددة تطلبت من الدول الفقيرة انتهاج منطق النيو ليبرالية وتبنى اقتصاد السوق الحر (لجم النشاط النقابي وتحرير الاسعار والخصخصة) الذي جعلها رهينة لنظام رسمته الدول الكبرى بعناية بحيث تفقد تلك الدول السيطرة على تجارتها الوطنية لتكون في صالح الشركات العالمية الكبرى، أي: افقار أكثر للفقراء واثراء أكبر للأثرياء. والتحول نحو اقتصاد السوق الحر لم يكن مجرد تحول أكاديمي من نموذج لآخر بل فرضته النخب المالية (financial oligarchies) في الدول الكبرى الساعية للهيمنة بإعادة رسم خارطة النفوذ في العالم.

إن كثير من الاقتصاديين الكلاسيكيين المحدثين يدعون أنهم غير منحازين في مسالة الفلسفة وأنهم يعتمدون على الحقائق المجردة وينطلقون من الواقع مباشرة؛ وهذا غير صحيح، فهل يستطيع أي إنسان تحليل حقائق واقع ما بدون الانطلاق من تصور ما؟ ففي واقع الأمر فإنهم يتبنون مختلف أنواع الافتراضات ذات الطبيعة الفلسفية المستمدة من الاتجاه الفلسفي السائد في البلدان الرِأسمالية: الفلسفة الوضعية (positivism) في تجلياتها المختلفة. وهكذا فرغم النظريات التي يضعونها فهؤلاء الاقتصاديون يمارسون البراغماتية، فنظرياتهم لا تنفى هذه الصفة إذ لا ينكر أحد أن الانطلاق في التحليل يبدأ من مظهر حقائق الواقع، لكن الثبات عند هذا المستوى الخارجي بدون الغوص ودراسة ما يكمن تحته هو التجريد العقلاني المثالي الذي ينتهى فيه التنظير لتصورات ذاتية منفصلة عن الواقع نفسه.

إن براغماتية رئيس الوزراء تنتهي إلى السير على طريق تبنى الاقتصاد النيو ليبرالي فهو لم يطرح طريقا بديلا للسائد. وهو يؤمن في اتباع نفس النهج الذي سار عليه نظام الإنقاذ (سياسة التحرير الاقتصادي). والبراغماتية نهج واحد مناسب للجميع (one size fits all)، والمقصود بالجميع في ضوء غرضنا هنا، هو الاقتصاديات المتحكمة فيها وصفات صندوق النقد الدولي النيو ليبرالية غض النظر عمن يحكم!!

وتتجلى براغماتية حمدوك في مغالاته في الدور الذي يمكن ان تلعبه مؤسسات التمويل الدولية في تنمية الاقتصاد السوداني، وهي الفكرة التي برر لها بالرأي الدارج حول جدارة النموذج الاقتصادي الإثيوبي. لكن الدعوة للاحتذاء بإثيوبيا في هذا المجال تهمل الأخذ في الحسبان الدور التدميري للسياسات المالية والاقتصادية التي تفرضها على الاقتصاديات المتخلفة التبعية للدول الكبرى والمؤسسات المالية التي تسيطر عليها كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ولكي يجيب على هذه المسالة ويزيل مخاوف الناس حيالها، ذكر رئيس الوزراء أنهم سيعملون على وصفة تُناسب أوضاع البلاد لتتماشى رؤيتهم مع رؤية صندوق النقد الدولي (يعنى فرض رؤيته على تلك المؤسسات الدولية!). وطبعا هذا تبسيط مخل لأهداف مؤسسات التمويل الدولية كرافعة لتغلغل وسيطرة راس المال العالمي على البلدان الفقيرة عبر مختلف الخطط مثل برامج التعديل الهيكلي المدمرة للثمانينيات والتسعينيات (structural adjust programmes).

إن النظام الحاكم في إثيوبيا يسير على نفس نهج كل الحكومات الافريقية (التابعة) في إدارة الحكم، وإنْ بدرجات متفاوتة؛ فالبرجماتية هي أسلوبها في إدارة الاقتصاد الوطني؛ واهم سمات البارادايم الذي تتأسس في إطاره السياسات الاقتصادية لإثيوبيا هو الاعتماد على القروض والمعونات الخارجية وتطبيق السياسات المدمرة للمؤسسات المالية الدولية. إن إثيوبيا مغلوبة على أمرها وتئن في الوقت الحاضر تحت وطأة سيطرة الشركات العالمية الكبرى التي برعت في نهب ثروات البلاد مثل نزع الأراضي الزراعية من المجتمعات المحلية وتخصيص إنتاجها للتصدير لصالح شركات التصنيع الزراعي العالمية (أو لإنتاج الزهور التي تصدر لأروبا)، والأثر السلبي لهذا الاستثمار تكشفه هجرة المواطنين نحو المدن للعمل كأجراء وأغلبهم يعيشون حياة رثة. وعندما يحتج الإثيوبيون على سوء أوضاعهم يقابلون بالقتل والتنكيل. كذلك يوجَّهَ جزء كبير من الاستثمار الخارجي لإنشاء البنى التحتية الخاصة بالخدمات (الاتصالات ووسائل المواصلات)، وهذا الاستثمار يقف خلف النمو النسبي في حجم الناتج المحلي الإجمالي لإثيوبيا وهو في الإجمال يخدم النشاط الاقتصادي بتكوينه التابع السائد ولا ينعكس على عملية التنمية المحلية (تنمية القوى المنتجة). إن الثناء المفرط على التجربة الاثيوبية الذي لا يتعدى تحليلها (البراغماتي) مظهر وجودها، يغيب عن أصحابه أن إثيوبيا دولة تشترك مع دول المنطقة في الوقوع تحت ثقل الديون الخارجية (الدائرة الخبيثة التي تنخر في جسد الدخل القومي لبلدان الجنوب: خدمة الدين بتسديد الأقساط والفوائد والخدمات الثانوية) ومعاناة السكان من البطالة والفقر، فمثلا بمقارنة بسيطة تجد أن الناتج المحلي الإجمالي لأثيوبيا ومصر والسودان، ببلايين الدولارات، بلغ 84 و251 و41 على التوالي؛ والدين الخارجي ونسبته للناتج المحلى الإجمالى للدول الثلاث بلغ 60% و78% و146% على التوالي.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن