حديث عن عائشة: مستهل الفصل الأول

دلور ميقري
dilor7@hotmail.com

2020 / 1 / 24

1
الوقتُ كان على مشارف الغروب، والسحب القاتمة كأنما في سباق وهيَ تتوارى وراء الجبل، معشّقةً بألوان الليلك والأرجوان، مجرِّدةً الأرضَ من دروعٍ تتقي بها رماحَ نور القمر. لعله منظرٌ لم يجذب انتباهَ الشاب، المدعو " خَلّو "؛ هوَ مَن قضى أكثر أوقات الغروب في المغارة السوداء، وذلك منذ أن صار اسمه متصدراً لائحة المطلوبين للدولة بوصفه، في آنٍ معاً، متخلّفاً عن الجندية وقاطع طريق. وهما تهمتان، متوازيتان على طول الطريق المؤدي إلى المشنقة. لكنه كان يفكّر في طريقٍ آمن إلى منزل زعيم الحي، وما قد يعترضه من مفاجآتٍ غير محسوبة؛ كأن يجد نفسه وجهاً لوجه مع دورية جندرمة، قدمت للحارة لسبب من الأسباب. وكانت مناسبات وجود أولئك الخصوم تعددت في الآونة الأخيرة، بحَسَب ما استمده من معلوماتٍ تصله دورياً من الزعيم. هذا الأخير، وكان حماه، سبقَ أن أخذ منه تعهّداً بتجنب أيّ شكل من أشكال المواجهة مع الجند: " عسكر السلطنة في حالة حرب مع الكفار، وبموجب الأحكام العرفية في وسعهم الانتقام لقتلاهم باحتجاز الأبرياء ومن ضمنهم النسوة. فكّر إذاً بامرأتك، قبل أن تقدم على رد فعل متهوّر، وأنها في سبيلها لإنجاب طفلك الأول "، كررَ له وصيته في آخر مرة التقيا فيها خفيةً. برغم أن حماه كان من مؤيدي الحرب، وفق قناعة دينية راسخة، فإنه دأبَ على معارضة سياسة الحاكم العسكريّ ويصفها بالمتعسفة غير المجدية، بالأخص تجنيد الرجال الكبار في السنّ كعقوبة على هرب أقاربهم الشباب. ثم جاء قرار مصادرة الغلال والحبوب لصالح الجيش وحلفائه الألمان، مع امتداد الحرب إلى عامها الثاني، كي يجعل غالبية الناس تتمنى هزيمة الأتراك في الحرب. لأول مرة، يُميّز أقطابُ السلطنة بعرقهم التركيّ من لدُن الرعية، التي راعها عقبَ ثورة الدستور غيابَ الصفة العثمانية عن الدولة. إنهم الاتحاديون، مَن أججوا كراهية القوميات غير التركية في خلال الأعوام السبعة الأخيرة، بزعم أن عرقهم متفوقٌ على الأعراق الأخرى. لدرجةٍ وصل بهم الحال لمحض لغة القرآن نفسها مشاعر الاحتقار والنفور، عدا عن محاولتهم القضاء على اللغة الكردية، المنبعثة على أثر الثورة، وذلك عبرَ تضييق مجالات نشرها كالتعليم والصحافة والأدب: الوعي بهذه التطورات، كانت من نصيب الشاب خلّو، اعتباراً من فترة عمله في مقالع الحجارة. ومن ثم تعززَ وعيه أثناء تعرفه على بعض الفتيان المتعلمين من الحارة الجديدة، الملتجئين إلى الجبل هرباً من التجنيد. أقنعه هؤلاء وأولئك، أنّ مفهومَ " العثمانية " أضحى من الزمن الآفل، غطى عليه غبارُ الحروب ودماء المذابح؛ أنّ كلاً من الكرد والسوريين والعرب والأرمن والبشناق والأرناؤوط وغيرهم.. قد وضعوا في خانة التصفية العرقية من قبل أقطاب الاتحاديين. لذلك انفجرت الاضطرابات في برزان وويرانشهر وبوطان ومرسين وأضنة وسواها من حاضرات السلطنة، باحتكاك سكانها الكرد والأرمن مع الأتراك المتعصبين، المسيطرين على أمور السلطنة وفيهم كبار الحاشية والضباط والحكام.
انحدر خلّو في خلال الأخدود النحيل، الذي يمتلئ بمياه السيل شتاءً، وقد تسلسلت على جانبيه منازلُ الدروز، الغارقة في الظلال مع وجيب أفئدة ساكنيها، الخافقة خوفاً مع كل حركة مريبة، آتية من وراء صخور الجبل. الشاب المتجاوز العشرين بخمس سنين على الأقل، كان بنفسه على خشيةٍ من وجود أشباح محتملة، كامنة خلفَ هذه العطفة أو متأهبة في تلك الزاوية. قامته القصيرة نوعاً، والرشيقة المتينة، غدت أكثر خفة مع قفزات الرجلين على الأرض الوعرة، الموشاة بالحصى، المثارة نصاعته الفضية بفضل ضوء الغسق. بوصوله إلى أعلى التل، المشرف على أزقة الكيكان والهسّنان والحاج حسين، تناهت إلى سمعه لأول مرةٍ الأصواتُ الآدمية.
ثمة منزل وحيد، كان يتربّع على التل المقفر من أيّ نبات غير الأشواك. لكن برز من وراء سور المنزل رأسا شجرتين عملاقتين، إحداهما صنوبر والأخرى جمّيز. يُقال أن الرجل الغريب، الغامض السيرة، " حمّوكي "، انتقى المكانَ لبناء البيت بسبب إعجابه بهاتين الشجرتين، المتوحدتين في الخلاء. لعله الآنَ يتذكّر ذلك، في مكانٍ ما على إحدى جبهات الحرب، كونه قليل الاكتراث بمصير ابنتيه الصبيتين، غير المتزوجتين، اللتين بقيتا دونَ معيل. ما لم يعرفه الرجل ( أو ربما توقعه سلفاً؟ )، أنّ الابنتين ضُمتا إلى أسرة خالهما. فيما بعد، اختفت آثار إحداهما، وهيَ الأكبر سنّاً، بحيث اعتقدوا في الحارة أنّ الجند خطفوها أو أنها هربت مع عشيقٍ ما.
لو أن الوقتَ متأخرٌ، لكانت الأصواتُ على التل منفّرة، وحشية، منذرة؛ زمجرة الضباع وعواء الذئاب ونباح الكلاب المسعورة، المتداخل فيها نعيقُ البوم وصفير الجداجد.. لكان خلّو قد ارتعشَ أيضاً وهوَ قابضٌ على الغدارة، تأهباً لأي ظهور مباغتٍ غير صديق. تحديد الزمن بين زيارةٍ وأخرى لمنزل حميه، كان يتم اعتباطاً، وغالباً بحسَب التصاق ثيابه الداخلية بلحم صدره وظهره، الموحي بشدة قذارتها. الفواصل بين حمّام وآخر، كانت بدَورها تتسع وفق ظروف التشدد الأمنيّ. كان يحظى إذاً بهذه النعمة في منزل الزعيم، منذ أن انتقلت والدته للإقامة هناك مع امرأته الحامل. في بعض الحالات شتاءً، عليه كان أن يغطسَ في مياه السيل مع بعض رفاقه، فتطفوا ملابسهم مع طرطشة أجسادهم ولهوهم وصيحاتهم. الرفاق الآخرون، كانوا يناوبون للحراسة فوق الصخور القريبة وأسلحتهم النارية جاهزة لأي مفاجأة قد يفجرها ظهور الجندرمة. هؤلاء الأخيرين، كفوا منذ شهرين عن إطلاق الحملات باتجاه الجبل لمحاولة القبض على المطلوبين أو قنصهم: المطلوب الأول، خلّو، وهوَ صهرُ الزعيم مثلما علمنا، كان قد تعهّد لحميه ألا يبادر بإطلاق النار على الجند سوى في حالة الدفاع عن النفس.
خلّو؛ اسمه الكامل " محمد خالد إيزولي "، مسبوقٌ بلقب الشهيد. لن يعثر المرءُ على اسمه في كتب التاريخ المدرسية، التي ألفها كتّابٌ وفقَ مشيئة رسمية، لئيمة. لكن يمكن الاهتداء إلى اسمه، وبعضٍ من مآثره، في كتبٍ تاريخية، مغيّبة بدَورها: " السجل الذهبيّ للثورة السورية الكبرى " لأدهم آل جندي، أحد تلك الكتب. يؤكد مؤلفه، أن معركة معربا في ربيع عام 1926، بدزينة شهدائها وأبرزهم محمد خالد إيزولي، كانت بداية النهاية للثورة.
ذلك جرى، إذاً، أحد عشر عاماً بعدَ هذا اليوم من ربيع السنة الثانية للحرب العظمى، الذي انحدرَ فيه محمد خالد من الجبل إلى الحارة، خفيةً عن أعين الجندرمة، وكان في طريقه إلى منزل حميه؛ والد امرأته " عائشة ".

2
المدينة، برزت على صفحة المساء القاتمة، ببصيص أنوارٍ باهتة، كأنها مريضة، منهكة بالمسغبة والسقم، عاجزة عن السهر، والنعاسُ أمنيةٌ عزيزة. أما خلّو، المتأمل ذلك المنظر، المنبسط تحت أنظاره وهوَ على التل، فقد استسلم مرة أخرى لهواجسه بشأن احتمال التعرض لكمين قاتل. ما دفعه لالتقاط الأحجار وإطلاقها في اتجاهات مختلفة، بغيَة جعل العدو المتربص يُظهر رأسه. بينما كان يتابع بعينين يقظتين الأحجارَ، المتساقطة بطريقة عشوائية على عدو متخيّل، إذا سمعه يلتقط أصواتِ نباح الكلاب المتشردة، التي أسيء لرقادها النادر مع معدة خاوية. استنتج عندئذٍ انعدامَ وجود الخطر، على الأقل في جسد هذه النقطة الهامة، المتلاقية فيها رؤوس عدة أزقة ـ كما شكل الحيوان الخرافيّ في حكايات الأجداد، المبثوثة لخيال الأطفال جلباً لنعاسهم.
زخة من المطر الربيعيّ، تساقطت على حين فجأة دون مقدمات برقية أو رعدية، جعلته يحث خطاه بقفزات طويلة أبعدته عن التل وقربته من زقاق الحاج حسين. اليد على الغدارة، واللثام على الوجه، تقدّم هكذا باتجاه الزقاق، متوقعاً ككل مرةٍ وجودَ مَن يكمن له خلف العطفة، المفتوحة على الزقاق الآخر، المُعرَّف باسم عشيرة الكيكان. ككل مرةٍ أيضاً، كان يتنفس الصعداء، زافراً خوفه دفعة واحدة مع رؤيته للمكان المقفر سوى من أشباح المنازل على الجانبين. اختفاء أثر الحيوانات الشاردة، كان من الممكن ربطه بحالة البؤس، التي دفعت الأهالي في أحياء عديدة لالتهام الكلاب والقطط، بل وحتى الجرذان والفئران. لكن حميه، " الحاج حسن "، تمكن حتى الآنَ من تجنيب رعيته قدَر المجاعة الرهيب، بحيث أصبح الحي مصباً لنهر الآدميين، الهاربين من المسغبة، سواءً من سكان المدينة أو الريف. من ناحية أخرى، كون خلّو صهرَ الحاج حسن، زعيم الحي،، فإنه من حُسن حظنا ولا شك: الكناش، المسجّل بخط الحاج الأنيق، لم يكن في وسعه تجاهل ذلك القريب، ومنه حظينا ببعض التفاصيل عن أسرته ونشأته الأولى.

***
خلّو، كان ابن رجل فقير يُدعى " جمّو "؛ مغمور النسب، لم يكن له من الأقارب، المتصلين مباشرةً بجدّه الأول، سوى رجلٌ يقيم في زقاق الحاج حسين نفسه، اسمه " عبده خالد ". هذا الأخير، كان ابن خالة المدعو، " هِرّك "، المتصل أيضاً بالقرابة مع آل الحاج حسين. قد يكون الزعيم أخذ بالحسبان هكذا حقيقة، حينَ قبلَ إعطاء ابنته للشاب خلّو. لكن والد الشاب توفي قبل ذلك بزمن، وكان هوَ ما زال طفلاً. علينا أن نذكر بالطبع شقيقه الوحيد، " حسين "، وكان يكبره ببعض السنة. اليتيمان، حدّا حظ الأم المسكينة من فرصة تجديد حياتها مع قرينٍ آخر. إلا أنّ همتها بتربية ورعاية الولدين، لم تثبط في المقابل. أخذت تعمل بحياكة الجوارب الشتوية، وهيَ مهنة نساء كرد دمشق آنذاك؛ بحَسَب الشيخ القاسمي، مدوّن كناش " قاموس الصناعات الشامية ".
دأبت " ديا حسين " على العمل المثابر طوال النهار وجانب من الليل، إلى أن تصاب بالدوار. لما ظهرت علامات البلوغ على الابن الأصغر، رجت قريبها عبده خالد أن يلحقه معه بالعمل في المقالع الحجرية في لحف الجبل. بيد أنّ الابن البكر، لاحَ أنه سيكون مشكلة قبل ذلك الحين بمدة. لقد اعتاد على تحصيل الرزق مثل أيّ أفّاق مغامر، تارةً بالسطو على البيوت الموسرة أو بسلب محاصيل المزارعين الصوالحة تارة أخرى. الأم، التي تتثاءب أثناء الصلاة تعباً، كانت تسرّها جسارةُ الابن البكر؛ مَن كان يُدعى، " حسّو "، من لدُنها وبكثير من الحنو والفخر. كانوا يقيمون في دار رثة، شبيهة بالخرابة، تقع في طلعة وادي صفيرة غير بعيد عن منزل المعلّم هرّك. فما لبثَ خلّو أن انضم لمجموعة الأصدقاء، الملتفة حول هذا الأخير، وكان منهم ملاحظ نواطير البستان، حمّوكي. الملاحظ، برغم أنه يكبر الشاب كثيراً، كان يرتاح لصحبته وطالما شكا له من أفعال شقيقه المشينة في مزارع الحارة. لم يكن خلّو عندئذٍ بقادر على وعد الرجل بشيء، بما أنّ والدته كانت بنفسها تشد من أزر بكرها المنحرف وترفع رأسها بأفعاله.

***
خلّو، عندما رأى عائشة لأول مرة عن قرب، وذلك في بداية الحرب العظمى ( السفر برلك )، كان قد خلّفَ وراءه ربعَ قرن من الحياة، رتيبة ومتقشّفة. لم يكن بمقدوره أن يثبّت نظره فيها لأكثر من لمحة خاطفة، إن كان حياءً أو احتراماً لمقام أبيها. الزعيم من جهته، وكان غافلاً يومئذٍ عن الجاذبية تلك بين قطبيّ المغناطيس المرهف والحديد المشغول، كان يُقدّر أخلاق خلّو وتفانيه في خدمة المحتاجين من أولاد الحارة. بالطبع، لم يخطر له ببال أن يكون نصيبُ ابنته الجميلة، المدللة، شاباً من أسرة معدمة، يعمل في حفر الجبل لقاء أجر زهيد، يذهب معظمه إلى جيب والدته. لكن عائشة كانت إذاك قد قاربت أيضاً منتصف الحلقة الثانية من عُمرها؛ وهيَ حجّة استعملتها " سارة "، زوجة الزعيم، كي يبدي موافقته على الشاب: " تذكّر ما حل بشقيقتك المسكينة، ‘ زَري ‘، وكيفَ أضاعت العريسَ تلو الآخر لحين أن وقعت أخيراً بين يديّ ذلك المأفون! "، قالتها بصريح العبارة شأنها مذ أن تعتّق نبيذ العُمر تحت سقف آل حج حسين.
الزعيم، العفيف النفس، لم يكن متطلّباً مع خطيب ابنته. لكن أصدقاء الشاب هبّوا لنجدته، بما أنّ الوضع المعيشيّ لم يكن قد تدهور بعدُ في السنة الأولى من الحرب. وفروا له الملابس اللائقة للعرس، كما أنهم زودوا مطبخ منزله بالمؤن الوفيرة. " ديا حسين "، ساهمت من ناحيتها بشراء الذهب مما ادخرته من مال؛ من جهد الابن البكر في مخالفة القانون، بشكل خاص!
انتهى العام الأول من الحرب، وكانت عائشة قد قضت أكثره في منزل أسرة زوجها، ليأتي العام الثاني وكانت بأشهر الحمل الأولى. مع أنها وجدت دفء العيش في كنف الأسرة، إلا أن الزعيم سرعان ما أخذها إلى بيته غبَّ ملاحقة زوجها من قبل السلطات. بعدئذٍ حملوا والدة خلّو على المجيء بدَورها للإقامة في منزل الزعيم، وكانت قد بقيت وحيدة لأن السلطات كانت تطلب أيضاً رأسَ الابن الآخر.

3
في ذلك الوقت، وكانت الحربُ قد دخلت عامها الثاني، انطلقت عربة مشدودة بالخيل من بلدة الزبداني، المعتلية بمهابة وادي بردى؛ رئة دمشق، ما لو اعتبرنا النهرَ قصبتها الهوائية. شاءت السيدة " أديبة " السفرَ إلى الشام نهاراً، خشية قطاع الطرق بالدرجة الأولى. هذا مع علمها، بكون الكثير من حوادث السطو والسلب يرتكبها أفراد الجندرمة ثم يلصقونها بالعصابات. العربة ذاخرة بالصناديق، المحتوية ملابس نسائية وبطانيات شتوية وأغطية لحف.. فضلاً عن مرطبانات محفوظات المربى والباذنجان المحشو بالجوز.. وغير ذلك مما أعدته مربيتها العجوز، " آمنة "، وكانت هذه تعلم أن سيدتها لا تستغني عنها حتى في زمن الحرب والمجاعة العامة. جاءت السيدة وحيدة مع الحوذيّ، مخلّفة المربية في المنزل الكبير كيلا يعتقد اللصوص أنه خال من ساكنيه ويفرغونه من محتواه. أسرة أخرى من الحارة، كانت تقيم في الجوار منذ بضعة أعوام، وأصلاً كوخهم كان جزءاً من الدار قبل بيعه. رب الأسرة، " بكر "، هوَ من الأقارب البعيدين لصهر السيّدة أديبة، التي رأيناها في العربة على الطريق المتصل بين بلدتها الجبلية ودمشق.
قوافل تلو قوافل، كانت تتراءى في خلال الطريق، وكلها تزحف إلى جهة المدينة أملاً بالحصول على الخبز ولو كان حافٍ وقاسٍ ككسر الزجاج. أكثر النازحين كانوا بأسمال خَلِقة، تلوّحُ أطرافها الممزقة الريحُ الشتوية، وآخرون كانوا يرتجفون برداً بأرديتهم المبتلة بماء المطر ولم يكن لديهم الوقت، ولا العزم، لتجفيفها تحت أشعة الشمس البخيلة. شربهم الماء الملوث بكثرة، بهدف إسكات المعدة المتطلبة، جعل بعضهم يتقيئون أو يصابون بالإسهال. لكنهم جميعاً كانوا يرفعون عقيرتهم بصوت واحد، مثل اللازمة: " الخبز، الخبز.. ". ولقد مرت العربة بأسرةٍ وجمَ أفرادها أمام نعش طفلهم، لا يدرون ماذا يفعلون به وكأنما أصابهم العته أو الجنون. احتياطاً، عمدت السيدة أديبة لتمويه الصناديق بحزم الحطب، كما أنها ارتدت الملابس القروية وكانت قد تخلت عنها منذ عرس أخيها غير الشقيق، الذي جرى قبل ما يزيد عن العقدين وشهد حضور الأقارب من الحي الكرديّ الدمشقيّ. وإنها بصدد الالتجاء إلى ذلك الحي، إنما ستكون ضيفة على ابنتها، سارة، المقترنة بزعيمه الحاج حسن. لحُسن فألها، أن عجلت بالرحيل في بداية عام المجاعة؛ لأن القرويين ما لبثوا أن أتوا على ثمار الزيتون، وهي خضراء، ثم أتبعوا ذلك في تالي الأيام بالتهام أوراق الشجر وجذور النباتات البرية وكل أنواع الحيوانات والقوارض والحشرات.

***
وصلت العربة عند حلول الظلام إلى مدخل المدينة، المعرّف ب " الربوة ". يقال أن الملك المعظم، الأيوبيّ، أعطاها هذا الاسم بعدما اكتشفَ فرادة مناظرها الطبيعية، فزودها بالعمائر الراقية لخدمة المصطافين. لمحض الاتفاق، أن أحد أبناء جلدة الملك كان متولياً يومئذ المناوبة على حاجز للجندرمة. الضابط " عزت " هذا، كان من أبناء عشيرة البارافي، المتوطنين في بلدة قطنا، ولهم أولاد عمومة في حي الأكراد. رجل ثلاثينيّ، فارع القوام ومتين البنيان، وجهه مشرّبٌ بالحمرة، وعيناه تلوحان رماديتين بعد زوال ضوء النهار. بهاتين العينين، الحادتين النظر، ميّزَ هيئةَ السيدة القادمة على العربة. برغم هيئتها القروية، بدت ملامحها المفعمة بما يميز أبناء الطبقات الراقية من أنفة وثقة بالنفس. وسط الضوضاء، المنبعثة من الجموع المتوقفة عند حاجز التفتيش، أمكنه أن يوصل صوته إلى راكبي العربة. التفتت السيدة مجفلةً، ولما انتبهت بدَورها إلى شخصية الضابط، فكّرت ساخطةً أنه بصدد طلب رشوة. حين أضحى على كثب من العربة، سأل الحوذيّ عن وجهته.
" أنا ذاهبة إلى صالحية الأكراد، وصهري هو زعيم الحي! "، بادرت السيدة للجواب بنفسها. عبسَ الضابط نوعاً ما، مباغتاً بجسارة المرأة. لكن أساريره ما أسرع أن انفرجت عن ظل ابتسامة.
" بلغيه إذاً سلامي "، قالها ثم ذكر اسمه ورتبته. رد باللهجة الشامية، بما أن المرأة تكلمت بها مع لكنة قرويي الوادي. بعد ذلك أمرَ أحد الفرسان بمرافقة العربة، وصولاً للحي. بعد نحو ساعة، عندما حاذى الدركيّ أثناء الطريق مجلسَ السيدة، الملتصق بمقعد الحوذيّ، سألته عن سبب توقيف النازحين على الحاجز. فأجاب الرجل، مداعباً شاربه المفتول: " بُلغت السلطات بحالات وفاة في بر الشام، يعتقد أنها بسبب وباء الريح الأسود ". علّقت السيدة بارتياع: " ارحمنا برحمتك، يا رب. هذا ما كان ينقص الناس، المنكوبين بالحرب والمجاعة ".

* مستهل الفصل الأول/ الكتاب الرابع، من سيرة سلالية ـ روائية، بعنوان " أسكي شام "



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن