طابور الفرسان الأسترالي في بئر السبع - فلسطين.

دينا سليم حنحن
dina_saleem2@yahoo.com

2020 / 1 / 11

" طابور الذباب" العثماني - الخوري بولس شاهدا.

من يقرأ العنوان يصاب بخلط ما، جمعت بين حدثين حصلا في بئر السبع في الحرب العالمية الأولى، جنود الفرسان الأسترالي والأب بولس إمام الأموات.
جرت الأحداث في الحرب العالمية الأولى، السفربرلك بالتركية، معاناة الفلسطينيين أثناء شق سكة حديد بئر السبع.
خرج الفرسان من القارة الأسترالية للدفاع عن قناة السويس، حيث كان هدف السلطات العثمانية إلى جانب الألمان الاستيلاء على الترعة، كما سميت، دارت معركة حاسمة قبل تحقيق الهدف، معركة أنهت الحرب باستخدام السلاح الخفيف، سميت المعركة بــ Australian Light Horse.
تكوّن لواء الخيول الرابع الخفيف من مشاة وفرسان أخذوا وجهتهم نحو بئر السبع.
بئر السبع:
المدينة الوحيدة التي تأسست أثناء الحكم العثماني على فلسطين خلال الأربعمائه سنة من الاستعمار، أعيد اعمارها سنة 1900 بهدف تمتين الوجود التركي في المنطقة وتحويل القبائل البدوية المتناحرة فيما بينها إلى مواطنين مستقرين، دخلها العثمانيون سنة 1519.
امتازت المنطقة بوفرة المياه الارتوازية مما ساعد في تحويلها إلى منطقة سكنية، تم بناء مبنى السرايا سنة 1901، أعلن عنها مدينة سنة 1906 بحفل رسمي تم فيه الاحتفال بتشييد الجامع الكبير.
في الحرب العالمية الأولى، تحولت المدينة إلى موقع هام، ازداد عدد السكان وأقيم فيها أول مطار في فلسطين، سنة 1905 شيدت محطة القطارات بحضور جمال باشا، ربطت بين المدن القدس واللد والحجاز، نية مبيتة من السلطنة العثمانية والألمان الاستمرار في الحرب لفرض السيطرة على قناة السويس، أقيم جسر على نهر بئر السبع لمرور القطارات العسكرية المتجهة نحو صحراء سيناء، لكن لم يكتمل المشروع، احتلها الإنجليز سنة 1917، بقيادة الجنرال إدموند ألنبي.
تم إرسال لواء الخيول الخفيفة لتعزيز فرقة Anzac Mounted ، تفوقت وحدات الفرسان الأسترالية في هذه المعركة وأعتبرت من أهم المعارك في التاريخ.
اللواء الوحيد المتاح هو لواء الخيول الخفيف الرابع لتنفيذ المهمة لاستعادة بئر السبع من القيادة العثمانية، ركض المشاة بالسيوف فوق السهل، ثم امتطوا الخيول واتجهوا نحو البلدة، اجتازوا مخيما مدعوما بالتحصينات، قفز فوج الخيول على جهة اليمين من الخنادق التي تخندق فيها العثمانيين بأسلحتهم الثقيلة، بحث الفرسان عن فجوة ما في الدفاعات العثمانية عبورا بخط سكة الحديد لإكمال المهمة الخطيرة، إن حصل وأخفق الفرسان استمرت الحرب الشعواء سنوات إضافية والتي راح ضحيتها الملايين.
الأب بولس إبراهيم الخوري شاهدا على الأحداث والزمان:
أتت الصدفة لتدلنا على بعض ما عانى منه الشعب الفلسطيني في تلك الفترة الرهيبة، بعد اطلاعي على مذكرات الأب التي دونها بخط يده وبلغة عامية بسيطة تعبت في فهمها، للتنويه، لم يكمل الأب تحصيله الدراسي بعد بلوغه الخامسة عشر لأسباب شرحها بنفسه من خلال مذكراته، آثرت نقل ما كتبه بشأن مد خط سكة الحديد في بئر السبع، استعرتُ الأحداث وأبقيت على الأصل مع بعض التعديل الضروري لغويا.
كتب:
- " داهمتنا مُصيبة الحرب الكبرى، أخذتني الحكومة على العسكر، تركت العيال والرزق، حملت هَمّ أكبر، كان اسم الطابور " نيابة الذباب" حملنا أرزاق العسكر من القدس إلى بئر السبع، فرضت الحكومة على كل أربعة أشخاص حمل خشبتين من الزنزلخت، ربط عليها جهاز التلغراف، وضع داخل كيس مشدود بكسماط.
مشينا على الأقدام عدة أيام في أراض وعرة، منطقة قاحلة وتلال رملية وصخرية وسهول منخفضة كثرت فيها الأخاديد والوديان، حملنا حملان، الحمل الأول، أربعة وعشرين رطلا من الطعام للقادة، والحمل الآخر، جهاز التلغراف، اقتادونا بخشونة وامتثلنا لأوامرهم، ربطنا الكيس بالكسماط على نصفه وعلقناه في منتصف الخشبة، تدلى الكيس شبراً أو أكثر وحمله الجنود على أكتافهم، لم يُسمح للحامل من التقدّم من الخشبة بل حملها من أطرافها، ضرب الضباط المشاة إن تورعوا الاقتراب من الخشبة، إن أراد الفرد استئجار دابة بماله الخاص تعينة على الحمل يتضاعف الحمل، لكن لم يملك أحدا مالا حتى يحصل على لقمة واحدة تقيه من الجوع، عانينا من القهر والتعذيب وقتل الأبرياء لأتفه الأخطاء.
لما صعد صوت المظلومين إلى الرب التحقنا في طابور العمل، عملنا في شق خط القطار من القدس المتجه نحو قناة السويس، الحرب دائرة وكانت عناية الله أن يتحوّل طابور المحاربين إلى العمل، تحسنت ظروفنا قليلا، نبّهت الحكومة على كل ملّة انتخاب إمام يرأس الطابور لأجل إقامة الصلاة وجنازة الأموات، لقد لقي العشرات حتفهم أثناء العمل الشاق، انتخبت أنا من المسيحيين الموجودين في الطابور.
في يوم ما، كان الطابور في عطلة عيد، ماخذ راحات عيد الحرّية 11 تموز شرقي سنة 1915.
تَجمّعَ طابور الكومندار بعد سماع صوت البوق وعملوا حلاقة كبيرة للعموم، ثم طلبَ الكومندار وجوه المسيحيين، ثم طلب الشاويشيّة، ثم طلبَ الأمباشيّة في حلاقة صغيرة.
قال الكومندار متحدثا إلى المسيحيين: هل هذا الشخص المنتخب من طرفكم هو رجل أمين ومن سُلالة كَهنوت ويقدر أن يقوم بواجبات الدين؟ ثم قال للضباط: هذا الرجل المنتخب من طرف المسيحيين لأجل الفروض الدينية هو رجل مُستثنى ومُعافى من كل الأشغال، هو هنا فقط للواجبات الدينية. أجابوا جميعا "بيكي" وتمنّوا لي النجاح، قال للشاويشيّة: هذا الرجل مُعافى من كل الأشغال، نقول له قوم نوبة، روح منكرية (وجبة أكل)، إسرح على الشغل، لا يجوز، نبهوا على الأمباشيّة شرحوا... (ذات الشيء).
واظبت على الصلاة وصلى معي الآخرين، جمعنا صينية دراهم بمقدار عشرين غرشا تركيا وزعناها على الفقراء الموجودين في الطابور، حَسُنَ هذا العمل في عين الكومندار، بعد مدة ليست قليلة حصل ضغط على الأرمن وأجبروهم دخول دين الإسلام، أخذوهم في طابور وساقوهم إلى بير السبع حتى يتمموا إسلامهم.
طلبت من الحكيم اخراج كل الضعفاء من المسيحيين لأنهم كانوا بالحقيقة ضعفاء.
كانت عديّة الطابور 1400 نفرا من المسلمين و 800 نفرا من المسيحيين ومن اليهود 60 نفرا. بعد خروج عدد كبير من الطابور بقى 400 نفرا فقط، حينها قررت الحكومة توزيع المتبقين على الطوابير الأخرى".
اخترت جزءا بسيطا مما دونه الأب بولس في مذكراته، حصلت عليها بعد أكثر من مئة عام وسوف أستثمر باقي الحكايات في كتابات أخرى.
استذكارا لضحايا الحرب، أقيم نصب تذكاري في المكان الذي حصلت فيه المعركة، داخل حديقة على مساحة كبيرة، أضيفت موادا وثائقية منقوشة على ألواح الألمنيوم مكتوبة بثلاث لغات، تضم الحديقة منطقة للنزهات وحدائق وشلالات اصطناعية، ومتاهة وملعبًا كبيرًا تحت ظلال تشبه خيمة السيرك تحمي الزوار من أشعة الشمس الصحراوية في بئر السبع فلسطين.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن