مسارات الإنتفاضة الحالية -2-

فلاح علوان
falahalwan@yahoo.com

2019 / 12 / 31

إن تناول مجريات الأحداث الحالية، رغم إنه يتطلب التحليل وصياغة الإستنتاج، ألّا أنه لامفر من اللجوء الى لغة التحريض وإقحامها في كثير من الأحيان، كون أغلب المعنيين والمتابعين للقضايا المطروحة يتطلعون للغة المباشرة التعبوية. حيث يصبح التحريض والتعبئة مسألة عملية من جانب، ومن جانب آخر صعوبة تبليغ الإستنتاج النظري الى الأوساط المعنية وبناء التكتيك على أساسه وسط تطورات تتسارع بالساعات، وتتطلب صياغة المواقف.
وهذا راجع في جانب كبير منه الى التأخر النظري وإستخدام النظرية كوسيلة نضالية، وقد أيقضت الأحداث العاصفة الحاجة الى النظرية بمقدار ما فرضت الحاجة الى الوسائل العملية، رغم إني لا أرى حدوداً وفواصل بينهما وكلاهما وسائل مادية لافكاك لترابطهما. إن التحليل والإستنتاج لا بد وأن يكونا متأخرين بسبب ضعف الاستعداد النظري وضعف الاهتمام بالنظرية أساساً، واللجوء اليها عندما تشتد الحاجة الى حل رموز وألغاز الأحداث السياسية التي تكتسي، حين تنفجر، صورة معادلات سياسية غامضة معقدة، بحيث يبدو الشرح التعريفي أمراً لا مناص منه. وهذا الوضع لا يتعلق بمعاناة كتابة مقالة بالذات، إنه أحد العقد الرئيسية في الثقافة العامة وفي السياسة، والتي يعاني منها اليسار، أو لأقُلْ الإتجاهات الإشتراكية عموماً في العراق. إن هذا الواقع برز بأشد الوضوح في مجرى الإنتفاضة الحالية، ورغم إننا ما زلنا بعيدين نسبياً عن الشروع بإحصاء الضحايا وتقييم النواقص، حيث لم ينجلي بعد دخان المواجهة، الّا أن التصدي له هو جزء من بناء الوسائل المادية بيد الجمهور.
النظرة الى الأحداث، الإنطلاق من شعارات
شهد الأَسبوع الماضي ثلاثة أحداث متزامنة، ورغم إنها تجري في مستويات متباينة ولا رابط مباشر بينها، الا أن التمعن فيها يدل على أن توجهاً بعينه يقف وراءها. الأول هو توجيه رسالة من أربعة نواب في الكونجرس الأمريكي الى بومبيو وزير خارجية أمريكا يطالبونه بـ " دعم" و "حماية" المتظاهرين، وإن العراق على مفترق طرق. لم تكن الرسالة رسمية بإسم الكونجرس، ولكنها إعلان بأن أميركا تعتزم التدخل المباشر، وهي تترك الأبواب مفتوحة لكل الإحتمالات، مستخدمة ما يسمى بالبراغماتية الأميركية.
إن سيناريو التدخل الأمريكي سيعتمد الى حد بعيد على ما أصبح يعرف بالفراغ الدستوري، والذي سيفتح المجال أمام تدخل الجيش، ربما بصورة حماية المتظاهرين الذين واجهوا القتل والخطف على مدى شهور، وسيكون الاكثرية مرحبين بالحماية، في الوقت الذي سيجري تمرير التدخل وفرض البدائل عن هذا الطريق. الثاني هو تلويح رئيس الجمهورية برهم صالح بالاستقالة، بعد مرور أكثر من أسبوع على شغور منصب رئيس الوزراء، وهذا سيفاقم من الفراغ الدستوري، وسيتيح المجال لإمكانية تدخل أميركا أو تدخل الجيش، رغم إن هذا لن يحل أزمة النظام، ولكنه محاولة لإحتواء تصاعد وإتساع الاحتجاجات. كما أن أميركا مستعدة للتعامل مع أي بديل في إطار النظام الحالي وأي طرف منبثق عنه، ببساطة لأنه لن يكون سوى بديل برجوازي، وسيمكنه العمل في إطار السياسة الأمريكية، أو تكييف أوضاعه معها، كما حصل أخيراً بين أميركا " الديمقراطية" وطالبان الأفغانية.
وأمام هذه الخيارات والإحتمالات، يأتي الحدث الثالث، حيث صرح المسؤول عن خطبة الجمعة، والذي كان حريصاً جداً على توجيه خطابه الى المتظاهرين، بأنه لن يتحدث عن السياسة في خطبة الجمعة ليوم 27-12-2019. فالخيارات غير واضحة، وموقف الجمهور لم يتبلور بوضوح حول هذه المسائل، كما إن الإمكانية العملية للخيارات المنوه عنها غير محسوم، وعليه يصبح الوقوف معه أو ضده بحاجة الى تحديد موقف سياسي وقرار مبدئي وليس الى إرشادات وعبارات عمومية. ومع كل هذه التطورات لم يرد المتظاهرون بإعلان أو فعالية تواجه هذه السياسة وتطرح ما يقابلها، عدا عن صدور بيانات ونشريات يسارية بخاصة ضد هذه السياسات.
إن هذه الوقائع، تشير أولاً وقبل كل شيء الى ان التيار المعبر عن المصالح الثورية للمجتمع التي إنطلقت الانتفاضة للتعبير عنها، لم يجر بناؤه بصورة يستطيع معها التعبير عن نفسه كممثل للمجتمع. كما أن القسم الفعال من المنتفضين، لم يتبن سياسة مستقلة واضحة، خارج إطار التخطيط والتلويح بتدخل قوى من خارج الإنتفاضة، مما يعني إن ثمة سياسة وتوجّه وراء هذه المواقف. وهذه السياسة لا تعبر عن مصالح الجماهير وأهدافها، بل إنه نوع من التحكم بإرادة الجماهير والحيلولة دون تبنيها لسياستها المستقلة، ويجري تمرير هذه السياسة مصحوبة بشعار كلا للأحزاب.

الانطلاق من الشعارات
يجري رفع شعار الوطن كوسيلة للخلاص من التردي السياسي، وكأن الوضع الراهن للمجتمع في العراق نتاج لنقص الاستقلال، والتدخل الاجنبي وخاصة الصراع بين أمريكا وإيران. دون أن يصار الى تحليل أساس التدخل الأجنبي وأساس الصراع ومحتواه السياسي والإقتصادي.
إن الجمهور المنخرط في الحراك، والمفتقد لنظريته السياسية وخطه السياسي، يقع تحت تأثير خطاب شعبوي عمومي، وقلما يتبنى تصورات سياسية قائمة على تحليل وإستنتاج.
ولما كان الرأي العام ينطلق من الشعارات العامة المطروحة بشكل شعبي عام، يجري تصوير الصراع بين التيارات والقوى على أن أنه إختلاف أيديولوجيات أو صراع دولي وإقليمي مجرد، وليس تجسماً لصراع مصالح. وهذا ما يحول بين الجمهور وفهم الترابط بين الصراعات الدولية والحزبية مع مصالح رأس المال، وخاصة جمهور الطبقة العاملة، وبالتالي الترابط بين معاناتهم الحياتية والاجتماعية مع هذا الصراع. إن عدم إنخراط جموع الطبقة العاملة بصفتها الطبقية في الحراك الحالي، يعود في في جانب كبير منه الى عدم بلورة قوى الإنتفاضة خطاباً معبراً عن الجوهر الطبقي للقوى المتحكمة بالنظام السياسي والمحتوى الرأسمالي للقوى العالمية والاقليمية التي تمارس الهيمنة على العراق، وصياغة بدائل للمجتمع على أساس مصالح الطبقات الإجتماعية.
يتبع



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن