أخطاء في المساواة بين الدورين الروسي والأميركي في الصراع الدائر في سورية.

حسن خليل غريب
hassankgharib@hotmail.com

2019 / 12 / 28

كُتب هذا المقال: تحت عنوان (قضايا للحوار) في العام 2015، وكان يشكل المفهوم العاشر، من بين عشرة مفاهيم كتبت عنها ودعوت المفكرين العرب لنقده وتعميقه حفاظاً على المصلحة العربية العليا. وإنني أعيد نشره بعد مرور أربع سنوات، وألفت النظر إلى تصحيح بعض التواريخ فيه، لأنها وردت في وقتها، لأن تعديلها في هذه النسخة، يستعدي تعديلات أخرى في متغيرات حصلت خلال تلك الفترة.فـ(إقتضى التنويه)
نص المقال:
إن أسوأ المنهجيات هي التي تتحكم فيها العواطف والأماني والمواقف المسبقة من شخوص تلك القضايا لأن المحلل لتلك القضايا يعمل جاهداً لمقاربة تحليله للحدث مع أمانيه الخاصة والشخصية، أو يحلل الحدث بناء لمظهره في ظرف ما وفي مكان ما.
ولأن لكل قضية زوايا متعددة فلن نجد هناك قضية تُعتبر أحادية الزوايا إلاَّ إذا نظرنا إليها من سطحها دون النظر إلى عمقها، حينئذ ستكون منهجية النظر لقضية ما من زاوية واحدة عاجزة عن الوصول إلى موقف موضوعي وسليم، والسبب أن الحقيقة أو جزء منها قد تكون في الزوايا غير المنظورة للكاتب أو السياسي.
قد يقع البعض في شبهة النظر إلى الدور الروسي الراهن في القضية السورية لعلاقة روسيا الإيجابية بالنظام السوري وبالقوى الإقليمية الحليفة له. فمن ينظر إلى حلفاء روسيا في القضية السورية بالعين السلبية لا يرى في الدور الروسي محاسنه، ويعتبر تدخل روسيا في الشأن السوري كمثل التدخل الأميركي فيه بما في هذا التساوي من إجحاف يتنافى مع الموضوعية. ومن هنا يبدأ التحيز بالموقف والقصور فيه.
وهنا سنحدد نقاط الخطأ التي يقع فيها البعض باعتبار الدورين الروسي والأميركي متساويين ومتشابهين بالأهداف والأطماع.
-إذا قرأنا فلسفة التاريخ، وليس وقائعه كأحداث فقط، بل بقراءة أحداثه وما كان لها من تأثير في صياغة مفاهيم جديدة أصبحت قوانين فيما بعد توجِّه العلاقات بين الدول، سنجد أن علاقات الدول تُبنى على المصالح، سيَّان كانت الأنظمة الحاكمة فيها إقطاعية أو رأسمالية أو اشتراكية أو ملكية أو جمهورية، تقدمية أم رجعية. وعن هذا كانت روسيا منذ القِدَم تشكل الند الرئيس للغرب الأوروبي. ومن بعد غياب تأثيره انتقلت الندية إلى العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية. ولهذا يمكن القول: (إن الشرق الأوروبي شرق، والغرب الأوروبي غرب، ولم يلتقيا)، إلاَّ بسياسة التوازن بالمصالح خاصة في (المياه الدافئة) لأقطار الوطن العربي. وإذا كنا مع تطبيق تلك القوانين على مقاسات مصالح الأمة العربية، فما علينا إلاَّ العمل من أجل أن لا يكون توازن المصالح بين الآخرين على حساب مصالحنا. لأنه عندما تتناقض مصالح الآخرين مع مصالحنا فليس من المنطق أن نعمل لإلغاء قانون التوازن بالمصالح، لأنه أصبح قانوناً عالمياً وثابتاً لا يمكن تغييره إلاَّ بتطبيق جمهورية أفلاطون العالمية، بل علينا أن نناضل من أجل أن يكون شاملاً وعادلاً بين كل الدول كبيرها وصغيرها، قويُّها وضعيفها، غنيها وفقيرها.
إن قانون التوازن بالمصالح بين الأوروبيتين كان إنتاجاً لما اصطلح على تسميته بـ(المسألة الشرقية) التي تحولت إلى قانون لتوازن المصالح بينهما بعد سلسلة طويلة من الحروب الدامية عُرفت بـ(حروب القرم)، وهي انتقلت من كونها حدثاً تاريخياً إلى مبدأ سياسي يعبِّر عن التوازن في العلاقة بين الشرق والغرب الأوروبي. وقد أثبت واقعيته وصحته كقانون سياسي دولي منذ روسيا القيصرية، ومن بعدها الاتحاد السوفياتي، ووريثهما نظام بوتين الحالي.
وهنا، لا بُدَّ من الإشارة إلى أن عهد يلتسين اعتُبِر مرحلة انتقالية في العلاقات بين روسيا والغرب، غاب فيه قانون المسألة الشرقية، لأنه كان ممالئاً للغرب وسائراً في ركابه، وربما كان استسلام يلتسين لسياسة الغرب هي التي أغرت إدارة اليمينين الأميركيين الجدد، برئاسة جورج بوش الإبن، للإعلان عن بدء تنفيذ مشروعهم بإقامة (قرن أميركي جديد)، واعتبار حكم العالم بأوحدية قطبية أميركية.
بدأ المشروع الأميركي، منذ العام 1992، بتفكيك ما تبقى من دول كانت تشكل أعضاء بالاتحاد السوفياتي. ولما اكتملت الهيمنة الغربية بتفكيك يوغوسلافيا، وإحكام الطوق الصاروخي حول روسيا، انتقل المشروع إلى المنطقة العربية، وكانت البداية باحتلال العراق في ظل غياب القطبية الثانية في العالم، واستفراد أميركا بحكمه بقطبية أميركية واحدة. وظلَّت الأوضاع الدولية على ما هي عليه إلى الوقت الذي شعرت روسيا بوتين بالخطر الداهم عليها في العام 2011.
وانطلاقاً من سورية تدخلت روسيا سياسياً واقتصادياً وأمنياً لحماية النظام العربي الوحيد الذي بقي لها بعد احتلال العراق، وإسقاط النظام الليبي، والعمل على الهيمنة على النظام اليمني. واستمر التدخل حتى أواخر العام 2015، وفي أوائل العام 2016 أصبح التدخل عسكرياً لمنع إسقاطه بين أيدي الحلف الأطلسي، وفي هذا الإسقاط ما فيه من مخاطر جمَّة تهدد ليس المصالح الروسية الاقتصادية فحسب، بل فيه أيضاً تهديد للأمن الروسي الخارجي والداخلي معاً.
إن التدخل الروسي بكل أشكاله، وفي كل توقيتاته يجب أن لا يشكل مفاجأة، لأن المفاجأة يجب أن تكون في عدم التدخل. ولهذا، وبمنطق مسار الأمور على الساحة السورية، يُعتبر التدخل الروسي في سورية وسيلة دفاعية عن مصالح روسيا في مواجهة الحلف الأطلسي، لحماية النظام الذي عقدت معه، منذ وقت طويل، اتفاقيات استراتيجية دفاعية عسكرية وأمنية واقتصادية. ومنذ تلك اللحظة بدأ العالم يشهد وكأن هناك متغيرات جذرية في الموقف الروسي، بينما الأمر كان بالعكس من ذلك، فلم يتغير فيه سوى الوسائل وليس مضمون الأهداف.
-كان التدخل الروسي في سورية تنفيذاً لاتفاقيات معقودة سابقاً، أي أن تدخلها كان لحماية منطقة نفوذها الوحيدة في سورية بعد توقيع مصر اتفاقية كامب ديفيد، واحتلال العراق، وتدمير ليبيا.
وهنا نشير إلى خطأ تحليلي باحتمال حصول تواطؤ روسي - أميركي على النظام السوري لتقاسم المصالح في سورية، وهذا خطأ يتنافى مع الاستراتيجية النظرية والواقع، لأن روسيا غير مضطرة لمشاركة أحد في سورية المحسوبة كلياً عليها إلاَّ في حالة واحدة وهي الاختلال في موازين القوى العسكرية على الأرض بشكل تصبح فيه روسيا عاجزة عن متابعة إسنادها للنظام. ولهذا جاء التدخل الروسي العسكري الأخير لكي يمنع وجود الاختلال في موازين القوى العسكرية لمصلحة خصوم النظام. وهنا لا ننسى أن أولئك الخصوم ممن أصبح معظمهم ملوَّثين بكثير من التهم، ولعلَّ أبرزها الاستنجاد بالقوى الخارجية سياسياً وعسكرياً ومالياً.
-وبمنطق العلاقات الدولية يحق للنظام، على الرغم من كل أخطائه في سياساته الداخلية، أن يطلب ممن التزم معهم باتفاقيات ومعاهدات أن يطبقوها في الظروف المناسبة التي تستدعي منهم التدخل. وما التدخل الروسي في سورية سوى تطبيق لمضامين المعاهدات العسكرية. وهذا ما تلجأ إليه كل الدول في العالم. وإذا كان البعض يعتبر تطبيق المعاهدات والاتفاقيات بين روسيا وسورية خطأ، فيعني ذلك أن الخطأ هو بمبادئ القانون الدولي. واستطراداً، وإذا اعترفنا بهذا الخطأ، فيمكننا تسجيل الأخطاء على كل الأنظمة العربية التي عقدت في القرن الماضي اتفاقيات صداقة ومعاهدات عسكرية وسياسية واقتصادية مع الاتحاد السوفياتي سابقاً، والتي كان تسليح الجيشين المصري والسوري في حرب أكتوبر مثالاً لها. وإلاَّ فستكون كل التحاليل التي تدين التدخل الروسي في سورية واقعة في ازدواجية المعايير. وإذا كان بعض المحللين يجهرون بوقوفهم بالضد من التدخل الروسي في سورية على الرغم من مشروعيته الدولية الحالية والتاريخية، إلاَّ أن ما يثير الاستهجان والاستغراب، أنها لم تتوَّقف عند جرائم بعض السوريين منظمات وأفراد في التعاون مع القوى الخارجية، وتمارس معها شتى أنواع الاتصال والتنسيق والتمويل المادي والعسكري والسياسي والأمني.
وإن الخطأ هنا يظهر بقيام البعض بالمساواة بين التدخلين الروسي الذي يقوم بتنفيذ مضمون المعاهدات التي وقَّعها مع النظام، والتدخل الخارجي الذي يدعم من تسمى بقوى المعارضة على الرغم من التهم التي تُشير إليها.
-إن مصلحة الأمة تتوفر بمنع أي تدخل خارجي بالشؤون الداخلية للدول، وهذا ما لم تلتزم به الدول والأنظمة التي سارعت إلى دعم المعارضة السورية الداخلية، وقدمت لها كل وسائل الدعم والرعاية. وكان من أشدها وضوحاً محاولات تمرير قرار لمجلس الأمن الدولي تحت مزاعم حماية المدنيين السوريين، أي استصدار قرار شبيه بالقرار الذي تم تمريره لمواجهة نظام معمر القذافي، فكان ذلك التمرير سبباً في تدمير الدولة الليبية وسيادة فلتان الميليشيات. هذا مع العلم أن حبل التدمير والتفتيت مستمر حتى الآن، وبعد مضي خمس سنوات على احتلال ليبيا، يسير على قدم وساق.
-من كل تلك الأدلة، لا يجوز المساواة بين التدخلين الأميركي والروسي في سورية، لأنه في حساب المصالح كان التدخل الروسي هو حماية مصالحها مع دولة حليفة تربطها معها مواثيق ومعاهدات معترف بها حسب القانون الدولي، وخاصة المعاهدات العسكرية. بينما الدولة السورية لا تربطها مع الحلف الأطلسي أية معاهدة من هذا القبيل فتدخلهم في الشأن السوري مخالف لكل المواثيق والعهود الدولية.
-إن بعض من يعتبر التدخل الدفاعي الروسي في سورية خطأ أو أكثر من خطأ، باعتبار النظام السوري يستعين بالنظام الإيراني وعملائه لحماية نفسه، لكثرة جرائم نظام الملالي في كل الأقطار العربية التي استطاع أن يتسلل إليها وأكثرها إجراماً ما يفعله في العراق، فإن هذا البعض ينظر إلى نصف الحقيقة، إذ يعكس موقفه السلبي من نظام الملالي ليسكت عن تدمير بنى دولة عربية، والدليل على ذلك أن هذا البعض يؤيد ضمناً من يشارك بالتدمير الفعلي ويهاجم التدخل الروسي الذي من مصلحته إبقاء سورية موحَّدة لأنه يعتبرها حصته ومن مصلحته أن لا يفرِِّط بشبر منها. إن نصف الحقيقة الآخر الذي يمكن العمل على أساسه هو إدارك أن خطورة الدور الإيراني ابتدأت عندما تسلل من البوابة الشرقية للوطن العربي، وإن الحل الجذري للوقاية من تلك الخطورة هو وضع كل الإمكانيات لتحرير العراق وإعادة إقفال البوابة الشرقية. وعن ذلك، نحسب بأنه بدلاً من الهجوم على الدور الروسي وتجريمه ومساواته بالدور الأميركي، أن نخاطب روسيا ونكشف أمامها حقيقة دور حليفها الإيراني على مصالحها الاستراتيجية في المستقبل القريب والبعيد، ونطالبها باتخاذ الموقف السليم الإنساني والقانوني والضغط عليه من أجل ترك العراق لأهله، واحترام حقوق الأقطار العربية ومجتمعاتها بتقرير مصيرها.
وهنا، لا نظن أن روسيا ستصم أذنيها، وإذا لم يكن لسبب إنساني، فإنما سيكون لأسباب مصلحية استراتيجية تعمل جاهدة للحصول عليها مع عدد من الدول العربية المتضررة من الخطر الإيراني. وهنا، لا يفوتنا التذكير بأنه لا مصلحة لروسيا بإبقاء العراق تحت هيمنة الاحتلال الأميركي – الإيراني، لأنهما في أحسن الأحوال لا يرضيا بأن يشاركهما أحد فيه. وإذا عدنا إلى الموقف السعودي فلا نظن أيضاً أن روسيا سوف تتجاهل إلى الأبد أهمية علاقاتها مع السعودية، خاصة في الوقت الذي تدرك فيه مدى فداحة الخطر الإيراني عليها.
وأخيراً، وبمقاييس شروط أي نظام دولي نريد؟ وإذا كنا ندرك مدى خطورة حكم العالم بقطبية أميركية واحدة، نرى أنه لا حلَّ للخلاص من تلك الآفة الدولية إلاَّ بحكم العالم بأكثر من قطبية دولية، وحيث إنه ليس هناك مرشح دولي آخر يحقق الغرض غير روسيا، فلماذا نظل نعتبرها الخصم الدائم، بل لا بدَّ من النظر إليه في هذه المرحلة أنه الخصم الذي ليس من صداقته بُدُّ.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن