اليسار الشعبوي في مواجهة شعبوية اليمين: بيرني ساندرز نموذجًا

حسن مصاروة

2019 / 12 / 17

المفكرة البلجيكية شانتال موف التي تطرح نظرية "الشعبوية اليسارية" في مواجهة استفحال شعوبية اليمين، تعتقد أننا نعيش حاليا في مجتمعات "ما بعد ديمقراطية"، ويعود هذا بالدرجة الأولى إلى ضبابية الفوارق بين اليسار واليمين، وهي حالة تسميها "ما بعد السياسة"، والتي تنبع من حقيقة أن الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية قبلت مبدئيا بفكرة عدم وجود بديل للعولمة النيوليبراليّة. ولذا، عندما يذهب المواطنون للتصويت، فإنهم لا يملكون خيارا بسبب ضبابية الفوارق الجوهرية بين برامج اليمين المعتدل، واليسار المعتدل.

وترى شانتال أن المجتمعات الغربية تعاني من تفاقم اتساع الفجوة بين مجموعة ضئيلة جدا من الأثرياء وبقية السكان. و مع سياسات الخصخصة، وبالتحديد منذ بدأت سياسات التقشف، انتشرت أيضا ظاهرة إفقار وإضعاف الطبقات الوسطى، التي ترزح هذه الأيام تحت وطأة السياسات النيوليبرالية، وهو ما يفسّر ظهور الكثير من الرفض لل"حلول الوسط" والإصلاحات المعتدلة. حيث تسمي هذه المرحلة التي نعيشها ب"لحظة شعبوية" التي تتسم بتعدد أشكال الرفض لما بعد الديمقراطية. وتعبر هذه الأشكال عن نفسها بالعديد من الطرق المختلفة، ليس بالضرورة أن تكون تقدمية. ويعبر هذا الرفض بطريقة ما عن "مطالب ديمقراطية"، مطالب بالمزيد من الديمقراطية، وبأن يكون هناك صوت للشعب. لكن من الممكن التعبير عنها من خلال كراهية الأجانب والعنصرية والفاشية الجديدة. ولهذا شهدنا تطوّر شعبوية الجناح اليميني التي تدّعي أن "سبب الأزمة هو المهاجرون". لكن موف تعتقد أيضاُ أنه من الممكن التعبير عن تلك المطالب بطريقة أكثر تقدمية، على شكل مطالبات بتوسيع نطاق الديمقراطية وتجذيرها، وهو ما تسميه "شعبوية يسارية".

تنطلق المقاربة الشعبوية اليسارية لاستفحال اليمين الشعبوي، لا بوصفه تعبيرا فقط عن المطالب التي في جوهرها مطالب عنصرية ومعادية للأجانب والهماجرين ومغرقة في الرجعية، بل تحاول أن تنظر اليها بالعمق على أنها تُعبِّر في الواقع عن صرخة من أجل الديمقراطية، عن المطالبة بأن يكون للناس صوت، هؤلاء الناس التي كتمت صوتهم المؤسسة الليبرالية وأهملتهم. الا أن هذه المطالبة بالديمقراطية في جوهرها، من الممكن التعبير عنها بطريقة تحدّ من عمل الديمقراطية نفسها، أي من خلال وهم استعادة الديمقراطية لجماعة محدودة من الأشخاص، مجموعة قومية مثلاً. البيض في أمريكا نموذجاً، حيث يوجه الفقراء منهم غضبهم تجاه الأجانب والمهاجرين على أساس أنهم سبب أزماتهم المعيشية والاقتصادية، ويلتفون حول شعبوي يميني مثل ترامب.وشعاره "لنجعل أمريكا عظيمة مجددا" يُصبح في جوهره "لنجعل أمريكا بيضاء مجدداً". اذا هذه الصرخة من أجل استعادة الصوت المكتوم، والغضب من الحالة المعيشية والإهمال يحسن اليمين الشعبوي استغلالها جيدًا في غياب ليسار راديكالي شعبوي حقيقي يستطيع أن يعبر حقاً عن ألم هؤلاء الناس ويوجه غضبهم الى السبب الحقيقي لحالتهم. أي يسار يمكنه تشكيل هذه المطالب بطريقة تزيد من عمق وتجذّر الديمقراطية لا الحد منها في مسار "فاشي" بدأ يظهر بفجاجة في بعض الدول الاوربية وفي الولايات المتحدة حتى، بقيادة ترامب. في النهاية السؤال هو أي نوع من الشعبوية سيتمكّن من بسط هيمنته، ويلبي تلك المطالب.

والجانب الآخر المهم في النظرية الشعبوية اليسارية هو أنها تعترف بالدور المركزي الذي تلعبه التأثيرات والمشاعر في السياسة. أي أستخدام "العواطف" في صنع الأشكال الجماعية لتحديد الهوية التي تشكل هويات سياسية.حيث تؤدي العواطف دوراً مركزياً في بناء إرادة جماعية في قلب أي مشروع شعبوي يساري. فقد قضت السياسية الديمقراطية الليبرالية على دور "الشغف" في السياسة. وتم التخلي عنها من قبل قادة الديمقراطية الليبرالية للشعبويين اليمينيين الذي حققوا بواسطتها الكثير من الانتشار. النيوليبرالية في الولايات المتحدة مثلاً خلقت كم لا يوصف من المعانة لملايين البشر، وهؤلاء الرازحون تحت هذه المعاناة يحتاجون الى إجابات بسيطة عن مشاكلهم، لا يملكون الرغبة بالاستماع لمنطق "اليسار الليبرالي" المفخم واحصائياته وتنظيراته. يريدون إجابات سريعة مباشرة وبسيطة تخاطب عواطفهم. وهنا نجح ترامب باستقطاب قطاعات كبيرة منهم.



وحده في المعسكر المقابل لترامب، ينطلق ساندرز في خطابه من فكرة عاطفية انسانية بسيطة إلى مشروعه السياسي-الاقتصادي-الاجتماعي. هناك جملة يكررها في معظم خطابته حيث يقول"نحن نُصبح أكثر انسانية حينما تقوم عائلتي بالاهتمام بعائلتك وحينما تقوم عائلتك بالاهتمام بعائتلي، نحن في هذه الطريق كلنا معًا"- من هذه الفكرة الرومانسية الانسانية الأولية، أي لهذا بالذات يجب أن نناضل من أجل تأمين صحي للجميع، تعليم مجاني للجميع، من أجل نظام اقتصادي أكثر عدالة للجميع حيث يتم توزيع الثروة على الكل بشكل عادل أكثر، لهذا يجب أن نناضل من أجل أن لا تعاني ملايين العائلات من الفقر والعوز والحاجة فيما تنعم عائلات أخرى برفاهية مفرطة وجشعة. فيعود ويخاطب المشاعر الانسانية الأولية بشكل صادم "أي انسان يقبل أن يموت آلاف من اخوته البشر فقط بسبب انهم لا يملكون ثمنًا للعلاج، تحت ظل نظامنا الصحي الحالي المملوك للشركات الرأسمالية !".

"الشعبوية" المُصطلح والاسلوب ونموذج الخطاب السياسي الذي التصق لعقود طويلة بخطاب وسياسة قادة اليمين واحزابه، يستعيده ساندرز ويوظفه بخطاب ومشروع يساري، ليقدم لنا نموذجاً حياً على "الشعبوية اليسارية". فحينما تخاطب الشعبوية اليمينية، شعبوية ترامب مثلاً، المشاعر الانسانية، مشاعر الخوف والكراهية، الخوف من الآخر الغريب وكراهيته وتحميله عبئ الأزمات الاقتصادية. تخاطب "شعبوية" ساندرز المشاعر الانسانية المثالية، الحب والاهتمام والأخوة الانسانية، تلك المشاعر التي تجعلنا بشرًا، ويوظها في التعبئة السياسية لمشروعه. ولا يُهمل ساندرز كون مشاعر الغضب والنقمة المشاعر الأكثر فعالية لدى الجماهير المسحوقة بالأخص، لكنه على عكس ترامب الذي يوجه هذه النقمة تجاه المهاجرين والأجانب، يوجهها تجاه الشركات الرأسمالية المتحكمة والقلة الثرية الناهبة. ساندرز دائمًا غاضب في خطاباته يعبر عن نقمته بشكل واضح وفج على المنظومة السياسية-الاقتصادية القائمة، ومتحفز دائماً للقتال كأنه في معركة حقيقية. يقدم نوعاً من السياسية غاب عن المنظومة الليبارلية الديموقراطية الانتخابية، فهو لا يكتفى بمنح الجماهير مجرد برنامج أو شخص يصوتون له في صندوق الاقتراع، بل يمنح الجماهير شيئاً يقاتلون من أجله، قيم وأفكار وطريق وأمل حقيقي في التغيير يلتفون حوله ب"شغف" حقيقي.

تدرك نظرية الشعبوية اليسارية أن الهويات الجمعية تتطلب دائمًا ثنائية نحن/هم حيث تدرك أن المؤسسات الديمقراطية هي ليست محايدة، بل هي مجال للهيمنة والهيمنة المضادة، ولا يمكن للسياسة أن تقوم على "الإجماع العقلاني"، بل على النزاع والتصارع بين مختلف مشاريع الهيمنة السياسية. وترفض نظرية الشعوبية اليسارية مبدأ الفردانية الليبرالية العقلانية لأنه يهمل أساليب بناء الهوية السياسية الجمعية، أي مجموعة الإجراءات الأيديولوجية والخطابية، التي ليست بالضرروة عقلانية دائما، التي تشكل الـ"نحن"، أو الطريقة التي تعي المجموعات بها نفسها سياسيا، في مقابل الـ"هم"، أي الآخر السياسي. حيث أن فهم منظري الشعبوية اليسارية لبناء الهوية السياسية، من خلال تعيين "نحن" مقابل "هم"، يقترب من تنظيرات كارل شميت، الذي يؤكد أن السؤال الأساسي للسياسة هو تمييز "العدو" من "الصديق". ففي حين تحدد الشعبوية اليمينية ال"نحن" باطار عرقي عنصري وال"هم" على أنهم الآخر المهاجر، حيث يُصبح المهاجر والأقليات العرقية "العدو" الذي توجه له النقمة، كما تحاول شعبوية ترامب فعله. تحدد في المقابل شعبوية ساندرز ال"نحن" باولئك الفقراء والمسحوقين والأقليات العرقية وكل المتسبعدين من المنظومة، مقابل ال"هم"، هذه القلة الثرية والشركات الكبرى والمنظومة السياسية والإعلامية التي تحميهم، تُعينهم على أنهم "العدو" في هذه الحالة الذي يجب أن توجه تجاهه النقمة الحقيقية.



فيما تقوم شعبوية ترامب بمهاجمة النُخب الثقافية باسم المسحوقين من البشر الذين يشعرون بالدونية أمام هذه النُخب، لكنه في المقابل يرعى مصالح النُخب الاقتصادية التي تنهب هؤلاء المسحوقين ويصور نفسه أنه قادم خارج المؤسسة "السياسية". تهاجم شعبوية ساندرز بصورة ملحمية النُخب الاقتصادية في "وول-ستويت" ويتوعدها بالحساب، "هؤلاء ال1 بالمئة الذين يقررون المصير السياسي والاقتصادي لل99 بالمئة" كما يقول. يأتي من خارج المؤسسة والمنظومة الاجتماعية-الاقتصادية بمجملها فعلاً. فيقول ساندرز:" يحاولون تخويفكم من الاشتراكية ! لكنهم في الحقيقة يمارسون الاشتراكية، لكنها اشتراكية القلة، اشتراكية الشركات الكبرى حيث يتقاسمون بالتساوي أرباح النهب ويرعى أحدهم الآخر. اما نحن فنأتي باشتراكية الأغلية، اشتراكية الجميع".


لا تنظر الشعبوية اليسارية الى الكتلة الصلبة من مصوتي اليمين الشعبوي على أنها كتلة ميؤوس منها لا يجب إضاعة الجهد بمخاطبتها، بل على العكس تنظر اليهم على انهم جمهورها الحقيقي. في فرنسا مثلاً ، حينما كان يتهرب البعض في اليسار من مخاطبة أولئك الذين قاموا بالتصويت لماريان لوبان الشعبوية اليمنية الفاشية، لأنهم "فاشيّون في الحقيقة ومن المتعذر استعادتهم". قام نشطاء حزب "فرنسا الأبيّة" حزب جان لوك ميلينشون، والذي يتم اعتباره يسارا شعبويا، بالذهاب بالأساس إلى الدوائر الانتخابية التي تصوّت لصالح لوبان لنقاش الناس هناك.لتظهر النتائج الأخيرة للانتخابات في فرناس نتائج مثيرة حقاً، حيث تصدر حزب ميلنشون بالأساس في الدوائر الانتخابية التي صوتت لماريان لوبان في السابق. وفي الولايات المتحدة فيما يركز كل مرشحي الحزب الديمقراطي على استمالة كتلة الناس التي تميل لمعاداة ترامب. وحده بيرني ساندرز يخاطب ويصوب بالأساس على الكتلة الصلبة من مصوتي ترامب، الطبقة العاملة البيضاء في الغرب الأوسط الأمريكي المُهمل مثلاً. ولهذا بالذات، ومع أن حظوظه بالفوز داخل الحزب الديمقراطي ضئيلة بسبب معاداة مؤسسة الحزب و"دنياصورته" الليبرالية له، فهو الأقدر حقاً على الفوز في مواجهة ترامب في أي انتخابات عامة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن