لا حوار ولا تفاوض مع العالم القديم

اسماعيل شاكر الرفاعي
Kitab333@hotmail.com

2019 / 12 / 7

لا تجلس الثورة الى الطاولات ، وتضع ساقاً على ساق ، وتنتظر ان يقدم لها ولدان مخلدون كانهم اللؤلؤ المنثور : اطباقاً من الكوكاكولا والبيبسي والمياه المعدنية . الثورة بركان : تراكمت في داخله ما يكفي من التحولات التي لا بد وان تحمله على الانفجار . وحين تثور البراكين فانها لا تنتظر ما تقوله جغرافية المكان : انها تكتسح وتعيد في اكتساحها تشكيل طوبغرافيته . وهكذا هي الثورات الاجتماعية : انها البركان الاجتماعي الذي تراكمت في داخله الكثير من سيئات السلطة ودفعته الى الانفجار ، للانعطاف بالمجتمعات من عالم مكبوت كئيب معتم الى عالم حر ساطع النور والاضاءة .

الثورة فعل مستمر من التدمير المتواصل لبنية العالم القديم : المادية والثقافية ، ولا تتوقف حتى يكتمل بين يديها كودها القانوني ( دستورها ) الذي يجسد رؤيتها للكون والحياة ولدور ووظيفة الانسان في هذه الحياة .
ما وظيفة الانسان في هـذه الحياة ؟
هذا هو السؤال الذي يجب بالضرورة ان يجيب عليه دستور الثورة ، فبالاجابة على هذا السؤال تتحقق الشفافية المغيبة من قبل اولئك الذين كتبوا دستوراً بأصابع مرتجفة ، خائفة من دخول العالم الحديث وولوج اكوانه ومجراته ، فجاء مليئاً بالتناقضات ، بسبب من منهج الوصاية على الناس ورفض هذا المنهج لحرية الناس التي هي الشرط الضروري لتقدم المجتمعات . وللتغطية على منهج الوصاية هذا حاولوا التوفيق بين معطيات العالم القديم الفكرية والاخلاقية وبين معطيات العالم الحديث العقلية والعلمية ، وهم في هذا التوفيق او بالاحرى التلفيق يشبهون اسلافهم من فلاسفة الاسلام الذين حاواوا التوفيق بين النقل والعقل ، فلم ينجزوا اثراً فكرياً يذكر بل ارتد عليهم النقل واحرق كتبهم وطردهم من القضاء وكفرهم . لقد تقابلت في كتابة الدستور مجموعات حزبية متناحرة طائفياً وقومياً ، ضيعت في هذا التناحر السلطة العليا التي لا تعلو عليها سلطة في العصر الحديث : سلطة الشعب حين لم يضعوا في صدارة مواد الدستور مادة : الشعب مصدر السلطات ، ووضعوا بدلاً من ذلك مادتين متضاربيتن في الدلالة ومتناقضتين في غايتيهما التشريعيتين ، ففي المادة الثانية نقرأ : “ ا . لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام “ ، وفي ب نقرأ : “ لا يجوز سن قانون يتعارض مع مباديء الديمقراطية “ ، ونتيجة هذه المصادرة على حرية الشعب في تشريع وسن القوانين التي يراها ضرورية لرفعته وتقدمه ، لم يسن اي قانون لصالح الشعب ، وعاد الجعفري يحكم بثياب حيدر العبادي ، وعاد نوري المالكي يحكم بثياب عادل عبد المهدي . ولكي يتم قطع الطريق على عودة وانبعاث الجلادين والطغاة يتم التركيز في الدساتير الحديثة على دور ووظيفة الانسان في الحياة ضمن اطار الدولة التي يحمل جنسيتها ، لا ابعد من ذلك . الدساتير التي تتحدث عن دور ووظيفة الانسان خارج حدود دولته المعروفة هي دساتير دينية وطائفية ، وهي لا تحاول التكتم على ذلك بل تذكر ذلك صراحة في اول مواد الدستور ، كما هو الحال في جميع الدساتير العربية التي تتصدرها عبارة : الاسلام دين الدولة الرسمي ، لكي تصبح وظيفة الدولة ومعها المواطن افناء الذات ، هذه المرة من اجل خرافة الفرقة الناجية وما تلاها من حروب اهلية ما زالت مستمرة ، والتخلي عن مقولة العصر المركزية : الانتاجية ، وعما يتطلبه الارتقاء بحياة الناس من انتاج للارتفاع بمستوى نمط عيشهم .
فالثورة حركة مستمرة من افعال الخلق والابداع ، تتغذى على تدمير ما كان العالم القديم يحتفي بوجوده من رجال ورموز ومؤسسات، خالقة على انقاضها ومبدعة مؤسسات جديدة : وهذا هو قانون الثورات الاول : تحطيم بنى العالم القديم وايجاد بنى جديدة لا مجال لوجودها الا بتدمير اشكال العالم القديم ، والشكل الارأس من هذه الاشكال هو شكل : بنية الدولة التي قامت الثورة ـ البركان ضدها . لقد فشلت الفيدرالية في ان تكون الوعاء الصالح للعلاقة بين القوميات التي تتشارك في سكن المكان الواحد ، فالازمة مستمرة بين اقليم كردستان وبين بغداد ، ونحن لا نعرف بالضبط نوع الصفقات التي كان يعقدها كل رئيس وزراء جديد مع الاحزاب الكردية الحاكمة لتمنحه اصوات برلمانييها : فالتحالف الكردستاني لا يمنح اصواته للمرشح لرئاسة الوزراء الا بشروط ، ولذا فان من الضروري للثوار ان لا يتفاوضوا مع الاحزاب الكردستانية الحاكمة التي تملكت عوائلها اقليم كردستان ، فهذه الاحزاب هي جزء من العالم القديم الذي يجب نسفه بديناميت ثورة الشباب والشابات الكرديات ، وايجاد منافذ للحوار معهم حول شكل العلاقة الارقى بين المركز والاقليم ، والوقوف الى جانب الشباب الكردي ودعم اختيارهم للشكل الذي يرونه يحقق حريتهم السياسية وكرامتهم الانسانية والتوقف التام عن فرض شكل العلاقة عليهم كما كانت تفعل الحكومات السابقة . كما فشلت صيغة اللامركزية في علاقة المركز بالمحافظات التي انتجت محافظين ومجالس محافظات يقتسمون مخصصات محافظاتهم المالية مع رئاسة الوزراء ، وفشلت صيغة التمثيل النيابي التي لم تنتج سوى ثنائية السادة والعبيد : سادة من الامتيازات والرواتب والطلبات التي لا تنتهي وعبيد هم عوام الناس الذين لم يحصلوا حتى على ما يديم وجودهم الفيزيقي . ان انتاج صيغة تمثيلية اخرى هي واحدة من مهام الثوار بعد ان فشلت صيغة التمثيل التي جاء بها المحتل الاجنبي لمرتين : مرة مع الاحتلال البريطاني قبل مائة عام لم تنتج سوى نمط الانتاج لاقطاعي وطبقة جديدة على العراقيين هي : الاقطاع ، واخرى مع الاستعمار الامريكي لم تنتج سوى حرب آهلية وسوى استشراء العداء الطائفي وانتشار خرافة الفرقة الناجية والفساد .

لكن هذا النسف المستمر لبنى العالم القديم لا ينجح ان لم يقترن بثورة ثقافية تفكك المفاهيم التي قامت عليها بنية الدولة القديمة وما ضمت من مؤسسات ، اذ ان لكل مؤسسة اليات اشتغال : وجميع اليات اشتغال مؤسسات الدولة القديمة تنتمي بوضوح للعالم القديم الذي مضى على وجوده ١٤٠٠ سنة : انها اليات قهر واستبداد واحتقار لحياة الانسان ، لم تنجز هذه الاليات خدمة حقيقية ذات مردود ايجابي في حقول التعليم والصحة والكهرباء ، وهذا ناتج عن احتقار فلسفة الدولة للحياة وحث الناس على العمل الطقوسي المتواصل من اجل الاخرة .


الثورة فعل مستمر في التدمير ، وحين تفاوض الثورة : فانها في الطريق الى الانتحار : تفقد الثورات دائماً في الموافقة على خطوة التفاوض نصف كينونتها ، والنصف الثاني من وجودها يعيد تشكيله العالم القديم الذي شرعت بالتفاوض معه .

قيادة الثورة في العراق جيل كامل من الشباب المولودين في سنوات حصار التسعينيات ، او عند اعتاب نهاية الدولة الوطنية القومية ذات المقولات التي يلح مضمونها على : المركزية الشديدة ، وعلى تماثل افراد الامة الشديد وعدم تمايزهم طبقياً وسياسياً وقومياً ولغوياً وثقافياً ، فهم نسخة طبق الاصل من خالق واحد ، نفخ فيهم حب الوطن ، وما يتطلبه هذا الحب من تضحية ، ونفخ فيهم كره ذواتهم الفردية وما يشجع عليه هذا الكره من التضحية بالذات على مذبح الفكرة القومية : حيث مجد الامة المتخيلة يفوق نشوة تلبية الحاجات الفردية ، وحيث عزة وكرامة الوطن لا تتحقق الا عبر تنازل افراد الوطن عن تلبية طلبات اجسادهم البيولوجية والغرائزية من اجل تحقيق الحلم القومي الذي يعيش بسعادة في ذهن الزعيم . لقد زرعت هذه الانظمة تعارضاً عظيماً بين وجود الوطن وبين تحقق ذوات الافراد وتكامل شخصياتهم ، وسوقت في خطابها السياسي بان العمل من اجل النهوض بالمجتمعات يعني تراجع قوة الوطن ، واضمحلال شخصية الزعيم . لم يعش الجيل الذي فجر الثورة في العراق هذه المصادرة القاسية للحريات الفردية ، وعاش بدلاً منها على رؤيتين متناقضتين : ١ ـ الرؤية الطائفية التي طرحتها الاحزاب الاسلامية الحاكمة بديلاً عن مفاهيم الوطن والامة والشعب ، حيث العلاقة والتفاعل مع الوجود الطائفي خارج حدود الوطن يسمو على العلاقة التفاعلية مع ابناء الوطن في الداخل ٢ ـ الرؤية الديمقراطية التي رفض وعيه تقبلها نتيجة الممارسة البدوية والحزبية والطائفية والعشائرية التي جسدت الديمقراطية امامه كخراب شامل خال من الانجاز الاقتصادي والخدمي . ولكن ( بدأ يدرك بان الديمقراطية لا تعني ديمقراطية الاحزاب التي بنت امبراطوريات مالية نتيجة اختلاس المال العام ، انها شيء يعني الانجاز والشفافية وقد ساعدته قراءاته الخارجية ودروس الجامعة ) استشراء الفساد والفوارق الطبقية الصارخة التي عدها نتيجة للنظام البرلماني ، وشظف العيش وصعوبته ، ووسائل التواصل الاجتماعي المكتظة بالنقد والسخرية ، وربما دروس الجامعة وقراءاته الخارجية ، والموجة الثانية من الثورات العربية في السودان والجزائر ولبنان ساعدته على بلوغ وعي اخر مناقض في رؤيته لكيفية ادارة الشأن العام : اي ان هذا الجيل كفر بالديمقراطية التمثيلية التي تعيد انتاج اليات نهب المال العام كل اربع سنوات ، واعادة انتاج الخراب والبطالة والعجز عن الانجاز فلم تعد الديمقراطية في ذهنه سوى ديمقراطية : العجزة والفاسديين واللاوطنيين ، فليس من الضروري لحياته وجود هذا الجهاز الذي لا يملك غير ان يشرع لنفسه من القوانين ما جعلته يستهلك من الوارد القومي حصة الاسد . من هذه الزاوية يمكن تفسير سرعة حلول الشعارات السياسية محل الشعارات المطلبية، وتحول الحراك الجماهيري الى ثورة . . لقد وعى الثوار الشباب بان الشعار المطلبي لكي يتحقق يستلزم مفاوضات مع السلطة السياسية ، ومهما طالت هذه المفاوضات فان السلطة الظالمة ومنهجها القائم على صناعة ارستقراطية مرفهة لن تحقق لهم شيئاً من طلباتهم . ولهذا كان شعارهم الاخير بعد استقالة رئيس الحكومة رفض التفاوض ودعوا الى استقالة البرلمان وكل الهيئات والمفوضيات المستقلة .

يطرح هذا الجيل على نفسه مهمة صعبة لا نغالي اذا قلنا بانها تاريخية : فهو برفضه للنظام السياسي البرلماني يرفض كل زعامة وكل ايدولوجية ، اذ من المعروف ان النظام البرلماني اسسته ارستقراطية ملاك الاراضي الواسعة في بريطانيا ، الذين نازعوا الملَك سلطاته المطلقة ونجحوا في الاستحواذ عليها تدريجياً ابتداءً بالوثيقة العظمى ١٢١٥ ، لكن لثورات العالمية الشهيرة كالفرنسية ١٧٨٩ والروسية ١٩١٧ ، لم تمنح مندوبيها في البداية تمثيلاً دائماً وطويلاً ، وكانوا معرضين للاقالة في اي لحظة . النظام البرلماني الذي استعارته البرجوازية لاحقا من الارستقراطية البريطانية ، ساعدها على بلورة مصالحها وبالتالي على تأكيذ ذاتها كوجود مستقل وفاعل في التاريخ عبر سلسلة طويلة من التشريعات ، ثم عممته عالمياً في الحروب الاستعمارية وما تلاها . ثورة الشباب العراقي وهي ترفض النظام البرلماني : تستطيع ابداع برلمانها الخاص الذي يؤمه مندوبيها ، من غير ان ينفصل عنها بجملة من الامتيازات التي كانت ضرورية للبرجوازية الاوربية لكي تفرض سيطرتها الطبقية على المجتمع برمته ، فما الضرورة التي تدفع بالشباب العراقي الى تكوين جهاز منفصل مرة اخرى يرفل اعضاؤه بنعيم الجنة لمدة اربع سنوات ، غير خاضعين فيها لاية رقابة ؟

يتكون برلمان الثورة من جميع الثائرين ، ولكن لضخامة العدد يتم ابداع اليات تمثيلهم في البرلمان عبر مندوبين متطوعين لا امتياز لهم غير امتياز نقلهم لما قرر ناخبوهم تشريعه ، واي تقاعس عن اداء هذا الدور يؤدي بهم الى العزل السريع من قبل ناخبيهم من الثوار

هذا الجيل لا يمكن نسبته الى مدينة بعينها او مجموعة مدن ، انه جيل جميع مدن العراق وقراه على اختلاف ديانة او قومية ساكنيها . وهو جيل لا تلعب العاصمة لديه ، كما في الماضي ، دوراً محورياً حاسماً ، كما لو ان الامر يتعلق بانقلاب عسكري . بغداد احدى مدن الثورة ولا امتياز لثوارها من دون ثوار المدن والقرى الاخرى ، وقد يقرر الثوار نقل العاصمة الى مدينة اخرى اذا اضطرتهم ظروف العمل الثوري الى ذلك ، فلا قدسية لمكان بعينه في وعيهم . هذا جيل قرر المضي باتخاذ قراراته من غير انتظار الاوامر الهابطة عليه من مركز او زعيم او دين او ايدلوجية ما . انها اللامركزية بأجلى أشكالها ومضامينها الانسانية والمساواتية : لا فرق بين القرية والمدينة في اتخاذ القرار ، ولا فرق بين مركز المحافظة والقضاء والناحية ، ولا بين البصرة وبغداد ، بين الناصرية والنجف : بين ثوار المدن التي لم تتحرك بعد ، وبين جميع الثوار السابقين على اختلاف مدنهم وقراهم . هذا جيل تعلم كيف يحاور سلطة اقتلعته من جذوره والقت به على قارعة الطرق : لا عمل ، لا مأوى ، بلا ملابس او ما يسد الرمق من غذاء ، فاستراتيجيته في المقاومة هي مجموعة التاكتيات النضالية التي فرضها عليه اتجاه السلطة نحو تصفية وجوده بالرصاص الحي ، فقابلها بشعار تصفية وجودها نفسه . فما قاله يوماً مقتدى الصدر وتخوف من تنفيذه : اصبح شعار هذا الجيل الثائر : فحلمه الكبير بامتلاك وطن لن يتحقق الا بتطبيق شعار : شلع قلع



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن