الفوضى الممنهجة في جنوب غرب كردستان

محمود عباس
mamokuda@msn.com

2019 / 11 / 29

بعد مرور سنوات، وعقد العشرات من المؤتمرات والحوارات، لإدامة الصراع في سوريا، وجلب الألاف من التكفيريين، ووضع قضايا ثانوية أمام المصيرية، كالتي تجري اليوم في جنيف حيث الحوار على كتابة الدستور بدل إسقاط النظام، بدأ التلاعب بالقضية الكردية في جنوب غربي كردستان، وعلى مراحل، تخللتها صفقات دولية، تبينت من خلالها مدى بروز ثقل المنطقة من عفرين إلى ديركا حمكو الجيوسياسي قبل الاقتصادي، ليس فقط ضمن سوريا، بل على سوية العلاقات الإستراتيجية، الأمريكية الروسية، وحيث مصالح القوى الإقليمية المرتبطة بهم، المنطقة التي كانت مهملة داخليا ودوليا حتى قبل سنوات الحرب السورية، وتحولت لعوامل عدة إلى إحدى أهم المناطق الإستراتيجية للدول الكبرى قبل الإقليمية في الشرق الأوسط.
وليتم التعتيم على ما قيل سابقا على الإعلام أو خلف الكواليس عن القضية الكردية، وما يجري الآن، خلقت فوضى عسكرية على الأرض، ومثلها سياسيا ودبلوماسيا في المحافل الدولية، فلا الأمريكيين كانوا في الواقع يودون الخروج من شرق الفرات، ولا الروس كانوا يتلذذون بالاجتياح التركي لعفرين، ولا مثلها في منطقة سري كانيه، لكن أهمية المنطقة فجأة أثارت الخلافات ما بين الدولتين، ربما على خلفية الضغوطات الإقليمية، أجبرتا على القيام بخطوات تكتيكية في جغرافية لا تكفي لتحرك أبسط القطع العسكرية لهما، ولذلك نلاحظ أن اعتمادهما في كليته على الرسائل المبطنة حيث الإملاءات السياسية الدبلوماسية، قبل أن تكون مستندة على السيطرة العسكرية. ولعدمية رغبتهما بلوغ اتفاق فيما بينهم، على القضية الكردية، بعضها على خلفية الطبيعة السياسية للمنطقة، يتم العمل على خلق الفوضى، وضبابية الاتفاقيات والتعتيم على الحوارات، وتمرير الزمن، وإلا فمن اللامنطقي أن تظل القوات الأمريكية في تنقل شبه دائم ما بين قواعد جديدة وقديمة، وتعود إلى مناطق لا تبتعد سوى كيلومترات عن القاعدة الروسية، وحيث تمر بجانبها الدوريات التركية الروسية المشتركة، بعدما تخلت أمريكا عن اتفاقيتها مع تركيا وسمحت للروسية التركية بالتنفيذ على الأرض أو ما يقاربها، لأنه يظن أن أمريكا لم توافق على بعض النقاط فيها، كالتمدد التركي إلى ما بعد سري كانيه وأعمق من 20 كيلومتر ما بين كري سبي وسري كانيه.
فكثيرا ما يتحير المحللون السياسيون في طبيعة العلاقات العسكرية بين كل هذه القوى، وكيف تتعامل، وماذا يتوقع منها، والجميع على قناعة تامة أن ما يجري حالة استثنائية مؤقتة تدل على أن هناك جمود في الحوارات السياسية وليس عدم اتفاق، وفي مثل هذه الحالات تبدأ الأطراف بتمرير الزمن، أو كما يقال في الأروقة السياسية الوقت كفيل بحل الإشكاليات، وهذا بالضبط ما طبق في الصراع السوري دون الاكتراث بالكوارث والمآسي، طموحهم كانت مركزة على بلوغ مرحلة الإنهاك التام، واليأس الكلي للشعب والقوى المتحاربة، ليكون من السهل وضع الحلول الملائمة لمصالحهم وفرضها عليهم.
ليس فقط تركيا هي التي تخطط لهذه الفوضى، بل هي من مصلحة معظم القوى الإقليمية، ومن ضمنها المعارضة السورية العروبية التكفيرية، والأغرب أن بعض الأطراف الكردية السياسية راضية عنها، رغم أنها لا تملك أية قوة لفرض شروطها أو حتى التدخل أو أبداء الرأي في مجريات الأحداث، ولا نستبعد أي طرف كردي سياسي بشكل أو أخر عن هذه الفوضى الخلاقة، والتي يتأذى منها الشعب الكردي قبل الشعوب الأخرى في جنوب غربي كردستان، ولا نعني أن الأخرين لا يعانون الويلات، لكنها أقل كارثية هناك؛ دون الداخل السوري، فالكردي هنا يخسر الأرض والقضية.
ليس هناك شك أن روسيا على علم بالمخطط التركي المرسوم على مراحل، بدأتها من مدينة جرابلس وعلى الأغلب لن تنتهي على مشارف مدينة سري كانيه، ولا نظن كذلك أن أمريكا أعادت نشر قواتها لحماية أبار النفط فقط، دون أن تسايرها مخططات غير معلنة، كالحفاظ على القوة الكردية- العربية الموالية لها، ولعدة مصالح، منها ما تخص حماية إسرائيل، وليس ضد داعش، المنظمة التي تظهر وتختفي حسب الطلب، ولا يستبعد أن تكون من مهماتها وكمصلحة ذاتية قبل أن تكون كردية، ولربما تتلاءم ومصالح دول أخرى في المنطقة إقامة كيان فيدرالي كردي كأداة موثوقة ودائمة الحضور، كفيدرالية جنوب كردستان، ولا يتوقع منها الرفض كما فعلتها تركيا لعدة مرات يوم أرادت أمريكا استخدام قاعدة إنجرليك، واستخدمتها تركيا كعامل ضغط لتمرير مصالحها أو متطلباتها المرفوضة أمريكيا وأوروبيا، وعلى أثرها ومنذ عام 2004م أي بعد التدخل الأمريكي في العراق حصلت تركيا على مساعدات مادية هائلة سنوية؛ من الشركات الرأسمالية الأمريكية واليهودية العالمية تجاوزت 75% من دخلها الوطني وعلى مدى أكثر من عقد كامل.
نحن هنا لا ننوه إلى الخيوط المموهة والتي تربط ما بين روسيا وتركيا، والصفقات التجارية على كل المستويات، والتي تفرض على الطرفين أن تكون القضية الكردية في جنوب غربي كردستان حاضرة بل وتكون في مقدمة البنود المتحاورة عليها، وهي التي أدت إلى أن تكون الدوريات التركية الروسية في المنطقة الكردية الهادئة أكثر مما جرت في إدلب حيث دوام الصراع والمعارك، بل نود تبيان ما لا يرضي الطرفين حول مجريات الأحداث في المنطقة، ولئلا يتم إثارتها وتؤدي إلى خلافات ما، يتم التغاضي عن التجاوزات التركية؛ أو الإملاءات الروسية تحت صفة وجود السلطة السورية، وبالتالي لا بد من ترك الإشكاليات ثانية الى عامل الزمن وبرفقة الفوضى الممنهجة في أماكن التواجد، وحيث المعارك الجانبية، وعدم تحديد أطراف الصراع العسكري، وضبابية الحدود المتفقة عليها ما بين قوات سوريا الديمقراطية والتركية.
لكن ما يثير الانتباه أكثر، هي العلاقة الروسية الأمريكية واهتمامهما المفاجئ بالمنطقة الكردية، والتي هي لربما أعقد من خلافهما على القضية السورية، فهنا تتدخل مصالح عدة دول مجاورة قبل مصالحهما، ومن ضمنها القومية والاحتماليات غير المتوقعة لقادم الجغرافيات أو على الأقل الإدارات السياسية، لهذا فهما أكثر من يستند على عامل مرور الزمن، وبالتالي لئلا تثار القضية الكردية في المحافل الدولية أكثر مما يجري، يتفقون على خلق الفوضى العسكرية والتعتيم الدبلوماسي على الصمت السياسي، ولا يعني هذا أنه ليس هناك معرفة ما يطلبه كل طرف، وأنه لم يتم التحاور عليه، ولم يتم التوافق على بعض الخطوط العريضة حول القضية الكردية، لكن كل هذا يتم السكوت عليه إعلاميا لئلا تتأثر مصالحهم مع الدول المعنية بالقضية الكردية.
ولا نستبعد أن ما تم إثارته في إدارة البيت الأبيض، حول القضية الكردية وعملية التخلي عنهم والعودة، وإثارة تركيا، كان مخططا، ومبني على إستراتيجية لربما لعبها ترمب المعروف بلامبالاته بانتقادات العالم، وخاصة بعدما كانت الرسائل الروسية عن طريق تركيا تملى عليه، أو لنقل كرد جميل لروسيا كما يبثها الإعلام الديمقراطي الأمريكي، إلى جانب كونها استخدمت كعامل ضغط على دول الناتو التي تود رفض سقف نسبة دعمها المادي للحلف.
لا يختلف المحللون السياسيون على أن الصورة في سوريا أوضح من مجريات الأحداث في المنطقة الكردية، وخاصة في شرق الفرات، فجبهات الصراع في إدلب أو المناطق الأخرى شبه معروفة؛ وجغرافية القوى العسكرية أكثر وضوحاً من المنطقة الكردية التي أغرقت في الفوضى الممنهجة، وكل الأطراف تعي أن الجميع ينتظر مرور الزمن، ولكن إلى متى؟ لا نظن أن هناك طرف يمكن تحديده، لربما نستثني منهم روسيا وأمريكا، فيما إذا كانا ينويان البدء بالحل أو يجب أن تحل.
والقضية هنا مدى ثقل هذه الفوضى على الكرد كشعب وقضية، وحيث المصير، أو لنقل على الوجود الديمغرافي، وهل هذه الفوضى من صالحهم، وهل عامل الزمن سيؤدي إلى نتائج إيجابية؟ وهل تواجد كل هذه القوى العسكرية مضرة أو مفيدة حاضراً ومستقبلاً؟ أما أنها كارثة مستقبلية كما هي الآن تتبين وكأنها قنبلة موقوتة، وخاصة مع تمدد القوى التكفيرية العروبية بدعم من القوات التركية؟ وهل ستؤثر هذه الفوضى بشكل إيجابي أم سلبي على الحراك الكردي المهيمن على الساحة السياسية الكردية، وهل يتوقع أن يكون عامل ضغط لخلق تقارب ما؟ وخارج كل هذه الفوضى يتوقع معظم المراقبين السياسيين أن القضية الكردي لها أفاق إيجابية رغم الكوارث التي حلت بالشعب.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
28/11/2019م



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن