هكذا يفكر جورج

علي دريوسي
daryusi@yahoo.de

2019 / 11 / 13

في إحدى المدارس الإعدادية – من مدينة القامشلي – خطّ المعلم على السبُّورة: أكتب يا بني بما لا يقلّ عن خمسة عشر سطراً موضوعاً تعبيرياً عن رحلة قامت بها مدرستك إلى مدينة تدمر الأثرية.
همس الأطفال فيما بينهم: لا نعرف المدينة ولم نزرها بعد.
في الأسبوع التالي كان موضوع الإنشاء: صف بما لا يتجاوز عشرين سطراً رحلة قمت بها مع أسرتك للاصطياف على شاطئ البحر الأبيض المتوسط في مدينة اللاذقية.
همس الأطفال فيما بينهم: لا نعرف المدينة يا أستاذ ولم نر البحر في حياتنا.
حينها تجرأ التلميذ الثوري جورج على النهوض من مقعده، رمى دفتره على الأرض، سبّ المعلم، لعن المدرسة ومديرية التربية، ثم غادر المدرسة إلى الأبد.

جورج شخص عصاميّ، طموح، بريّ، هجوميّ، جهوريّ، لاذع، لامنتمي، لامُتديِّن، طَيِّب القلب، علّمته الحياة من أين تؤكل الكتف، مهتم بالسياسة، مُحِبّ للعمل، متأثر بالألمان، لا يحترم مدعيّ الثقافة وحملة الشهادات الفارغة، قارئ سيء للغاية كما يقول عن نفسه، لا يقرأ الكتب ولا المجلات، الشيء الوحيد الذي يقرأه هو كشوفات حسابه البنكي، شعاره في الحياة "المال يفعل ما يشاء".

ودّدت عصر اليوم زيارة صديقي جورج لأشرب القهوة معه. ما أن وصلت بيته حتى صاح: أرى كلاماً في جبينك، بإمكانك أن تحكي لي، سأحاول الإصغاء إليك.
ونحن نشرب قهوتنا أخبرته بأن تغيراً قد طرأ على منظومة أفكاري. وحين رأيته مهتماً قليلاً بالأمر زففت له الخبر قائلاً: استيقظت صباح اليوم باكراً لأكتشف، دون سابق تفكير، بأنني قد صرت هكذا فجأة من المؤيدين والمعجبين بفكرة الوحدة العربية كرؤية استراتيجية لحل مشاكل العرب، بغض النظر مبدئياً عن آليات سعي الأحزاب لتحقيقها.
ثم شرحت له باقتضاب بأن فكرة وحدة الأرض العربية أخذت تجري في عروقي في الوقت الذي شعرت به بالخجل من فكرة الأممية الشيوعية، المشروع الساذج الذي سيطر على تفكيري لبضع سنين، وشعرت أيضاً برفضي الشديد لمشروع العولمة الإلكترونية والذي وللأسف الشديد غير قابل للمناهضة إطلاقاً.

حاول جورج مراراً مقاطعتي خلال حديثي القصير، ثم نطق بالحكم قائلاً: اسمع يا رفيق .. إذا فكرت بإلقاء محاضرة عن القومية العربية قد يحضرها مئة شخص، لكنك إذا ألقيت محاضرة عن الدين فسيحضرها ألف شخص على الأقل.
سألته: ما الذي تريد قوله؟

قال جورج: دعني أُكمل حديثي، أردت أن أقول بأنه لا يمكن توحيد شعب تحكمه منظومة دينية بالية. هؤلاء الذين وُلِدُوا كبطاريق لن يصيروا زرافات ولا بعد سبع سنوات من العلاج الفيزيائي والكيميائي والنفسي المركَّز. المواظبة على العمل وقراءة كشف الحساب البنكي الشهري أهم من كل النظريات السياسية والأحلام القومية والأديان.

ولكي أدحض فكرته عن المال والحسابات البنكية رويت له القصة المعروفة عن الملحن وعازف البيانو المعروف لودفيج فان بيتهوفن وأخيه الصيدلاني نيكولاس الذي عمل باجتهاد وجمع ثروة مكّنته من شراء الأراضي، وذات يوم كتب نيكولاس لأخيه لودفيج رسالة وذيّلها بالتوقيع "أخوك نيكولاس يوهان فان بيتهوفن، مالك الأرض". فردّ عليه أخوه لودفيج برسالة أيضاً وذيَّلها بالكلمات "أخوك لودفيج فان بيتهوفن، مالك الدماغ"!
لكن جورج أبى أن يراجع منظومة أفكاره.

وبعد أن راق الجو قليلاً، صبّ لكل منا فنجان قهوة جديد وراح يحكي لي كيف وصل إلى برلين لأول مرة قبل أكثر من ربع قرن: حين وصلت إلى محطة قطار برلين، وقفت في بهوها لاِستراحةٍ قصيرةٍ، كان عمري آنذاك عشرين ربيعاً، اِشتريت فنجان قهوة ورحت أتأمل حشود المسافرين والعائدين، وجوه المودعين والمستقبلين، حركة القطارات القادمة والمسافرة، دقة مواعيدها، النظام الذي تسير وفقه المحطة بعمالها وموظفيها وسائقي قطاراتها، أخذت أتذكَّر المحطات الرئيسية والفرعية التي مرَّ بها قطاري من ميونيخ إلى برلين ونظام السكك الحديدية المُعقَّد وتشعباته.

ثم توقف عن الكلام فجأة.

علَّقت على حديثه قائلاً: وما الغريب في ذلك؟

بحركةٍ عصبية رافقته منذ طفولته ولم تفارقه إلى الآن شرب ثُمالة فنجانه ولعن الحكومات العربية وكتب الجغرافيا ومعلميها ومؤلِّفيها، ثم ضرب بكفه القوية على سطح الطاولة التي وقف بجانبها وبربر: الغريب في ذلك هو أنهم – أولاد الشراطيط – قد علّمونا في كتب الجغرافيا أنَّ سوريا تمتلك شبكة خطوط حديدية ضخمة ومُعقَّدة ولأنَّنا فقراء وأغبياء أكثر من مؤلِّفي الكتاب المدرسيّ صدَّقناهم!

وأنا أتجّهز للنهوض والمغادرة سمعته يقول: لا علينا، لا أنتظر ثماراً طيبة من تربية سوداء تتمحور ثقافتها حول فكرة "اِعتَزْ بنفسك وانبطح أرضاً يا حيوان ". وتابع حديثه قائلاً: كنت صباح اليوم في الغابة مع صديقنا عاصم ونحن نركض حول البحيرة قال لي: أتعلم يا جورج، صار لي في ألمانيا أكثر من عشرين عاماً وما زلت أكرّر بيني وبين نفسي كلمات غريبة وتراتيل عسكرية مخجلة تعلمناها في حصصّ الفتوة والمعسكرات الطلابية.
وحين سألت عاصم عن قصده، أجابني: أشعر أحياناً بالسأم وأنا أركض وحيداً في الغابة، فتراني أرفع صوتي مردّداً: أمة .. عربية .. واحدة .. ذات .. رسالة .. خالدة .. ... أو أترنم بعبارة: زمجر .. بغضب .. وانتقم .. من أعداء بلادي السليبة .. صاعقة .. ثورة .. عزة.
قلت له: استطعنا أن نخرج بأجسادنا من مستنقع التربية السوداء لكننا لم نستطع أن نُخرج أفكارهم الهدّامة من رؤوسنا.
ومن باب الدعابة راح عاصم يكرّر التراتيل الترفيهية – رغم عدم شعورنا بالضجر – ورحت من باب المرح أصرخ معه: أمة .. عربية .. واحدة ..
صرخنا وركضنا وردّدنا الشعارات حتى ردّدت الغابات صدانا.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن