بداية الواقعية السياسية عند ابن خلدون

زهير الخويلدي
zkhouildi@gmail.com

2019 / 11 / 12

" الدولة في أول أمرها لابد لها من الرفق في ملكتها والاعتدال في إيالتها ... من المكارمة والمحاسنة... وإذا كانت الملكة رفيقة محسنة انبسطت آمال الرعايا وانتشطوا للعمران وأسبابه"1

الفرضية التي يمكن مناقشتها مع العقول المشتغلة بحضارة إقرأ تتمثل في أن عبد الرحمان ابن خلدون قام بنقل المباحث العلمية في الدولة من الأحكام السلطانية إلى الواقعية السياسية ضمن رؤية تاريخية عمرانية. في الحقيقة لم يقتصر العمل الفلسفي التأسيسي الذي قام به العلامة ابن خلدون على ذكر أسباب وقوع المؤرخين في الأوهام والمغالطات والتحقيق فيها بغية تفاديها والتخلص من مزالقها وتبعاتها وبيان فضل علم التاريخ بل رافقه تأكيد على أهمية الاجتماع بالنسبة للبشر وضرورة العمران من خلال جغرافيا سياسية للتعاون والبر ووفق مناخ طبيعي يوفر انتشار الأخلاق الحميدة والشيم الاجتماعية ويقوى كسب أحوال التمدن والتحضر. لقد عمل ابن خلدون على التمييز بين البدو والحضر وبين الطبيعة والثقافة وبين الخلقة والعادات وبين التوحش والتمدن وانتصر إلى معطى الرئاسة ودوام الملك وسياسة الناس بالعقل والمصلحة والقانون على الرغم من إشادته بالخصال الكبيرة التي يتمتع بها أجيال البدو من شجاعة وعصبية ومن قدرة على التغلب وفعل الخير وتنصيصه على دور القبيلة والعصبية والدعوة الدينية في قيام الدولة وسيطرتها على مجالها. لعل الواقعية السياسية التي تعامل بها ابن خلدون مع التجربة السياسية تظهر في تحليله لظاهرة تكون الدولة وفق رؤية تاريخية تتابعها من لحظة تشكلها وانبثاقها وبعد ذلك ترصدها زمن استقرارها ومجدها واكتسابها للنفوذ والسؤدد وتتابعها عند وقت هرمها وضعفها وانحلالها ودراسة العوامل وذكر الظروف. لقد درس ابن خلدون حقيقة السلطان الزمني وأصنافه وأتى على رمزية الخلافة الروحية وحصرها في الإمامة والاعتناء بالشؤون الدينية وتعمق في تحليل الخطط السياسية في الدولة وقام بالتمييز بين الرئاسة والوزارة وبين السلطنة والملك وبين الحكم بالسيف والحكم بالقلم وطالب بالانتقال بالدولة من البداوة الى الحضارة وركز على أن الدولة تستمد قوتها من الأصل الذي قامت عليه وعلى البيعة العامة والعهد الذي يتم بين الجمهور والخاصة الحاكمة ومن الدواوين والهياكل التي تديرها مثل الأعمال والجباية والرسائل والكتابة وقيادة الجيوش والأساطيل ودعا إلى الحاجة إلى اكتساب الثروة وصك العملة وتجنب المفاسد والأضرار التي يمكن أن تداهم جسد الدولة وتؤذن بالهرم والانحطاط وهي آفات الانفراد بالمجد وإرهاف الحد والاستبداد والانقلاب والظلم وكثرة الجباية ونقص العطايا وتعثر الخدمة وارتفاع الأسعار والاحتكار. كما ربط ابن خلدون فن السياسة بظاهرة الحرب والعسكر وعملية الاستيلاء بالكر والفر والتمكن من الغلبة بالقوة ولاحظ اقتران الاستقرار والرخاء والتحضر بحالة السلم وإتقان الصنائع وازدهار التعليم والعلوم. اذا كانت كل دولة معرضة للعطب ويطرق أبوابها الخلل ويختلف حولها الناس وتنقلب فيها الحكومة الراشدة إلى ملك عضوض وتهرم وتنقسم وتتفكك وتتعرض للمجاعة والإفلاس والأزمات والكوارث فإنه يمكن تجديد شبابها وتثوير هياكلها وتقوية دواوينها وبث روح الحياة في جسدها ومدها بالمعارف اللازمة. إذا كان الخلل يتسرب إلى بناية الدولة من نافذتين تتراوح بين استئثار العصبية بالحكم لنفسها وتوريثها أو غياب الشوكة وضعفها وذهاب ريحها وتتأرجح بين الإفراط في الترف وقلة المال وضياعه وإذا كان البعض يضاعف من مرض الدولة باستجلاب المرتزقة من الخارج والزيادة في الجباية والاستيلاء على ممتلكات الناس وما يترتب عن ذلك من ارتكاب الظلم والتعسف والقتل والقهر بحقوق غالبية الجمهور بالتعاون مع خاصته فإن إمكانية تفادي هذه الأمراض وارد وذلك عن طريق المطالبة والمطاولة من المستجدة للمستقرة وليس بالمناجزة والنازعة وبالاستمالة وتحصيل الرضا ونزع الرعب والتخاذل والفشل من القلوب وزرع الثقة في النفوس وحب المفازة ومعرفة مصالح الناس ومراعاة نفعهم بالسياسة العقلية. خلاصة القول أن النقد المزدوج الذي يوجهه ابن خلدون للأحكام السلطانية التي انتشرت عند الفقهاء والمتكلمين وللميتافيزيقا السياسية التي انحدرت من الفلسفة الاغريقية في نسختيها المشائية والاشراقية ينتج استحداث مسلكية جديدة في التعاطي مع الظاهرة السياسية عبر أدوات الواقع والمصلحة والعقل. في هذا يضيف الآتي:" اذا كان ذلك كله بالتدريج فإنما يظهر أثره بعد جيل أو جيلين في الأقل وفي انقضاء الجيلين تشرف الدولة على نهاية عمرها الطبيعي فيكون حينئذ العمران في غاية الوفور والنمو" 2. فكيف السبيل إلى الاستفادة من الواقعية السياسية التي وقعها ابن خلدون من أجل إعادة التكوين العقلاني للدولة؟
المصدر:
1- عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، دار الجيل ، بيروت ، طبعة أولى، 1961، ص334.
2- عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، نفس المصدر، ص334.

كاتب فلسفي



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن