وحدة العقل والنقل في فلسفة الغزالي

ميثم الجنابي
aljanabi52@bk.ru

2019 / 11 / 5

"لا غنى بالعقل عن السماع،
ولاغنى بالسماع عن العقل"
(الغزالي)


إن العقل، بنظر الغزالي، قادر على إدراك أسرار الشرع. كما انه قادر على حل القضايا الميتافيزيقية الدينية. انه يساعدنا في إدراك الكثير من جوانبها لكن أدلته تفتقد للطابع الضروري، أي أن الحلول العقلية في هذا الميدان لا يمكنها الارتقاء إلى مصاف البديهة المعرفية أو اليقين الحق، وبالتالي ليست حلول العقل هنا سوى افتراضات اجتهادية. فالقضايا "الخالدة" لا يمكن حلها بصورة عابرة. والأدلة العقلية بصدد القضايا الإلهية هي مجرد أدلة "نفسية" و"قناعات وهمية". وهو ما يمكن رؤيته، كما يؤكد الغزالي، على مثال الإمكانية الواقعية لتكافؤ الأدلة العقلية نفيا وإيجابا. لكن حالما تتخذ هذه القضية من الوجود العملي والحقوقي ميدان وجودها الملموس، فإن حلها يصبح ممكنا في الاطار الاجتماعي التاريخي، مع بقاء "شوائب" العالم الميتافيزيقي (الإلهي، والربوبي، والملكوتي، والعلوي) بوصفه التجسيد الضروري للقيم المطلقة. من هنا دعوتهإ إلى تنسيقهما، بوصفها الصيغة المجردة لعلاقة المثال بالواقع.
فقد أدرك الغزالي الطابع التاريخي للشرائع ونسبية وجودها الظاهرى من الناحية المعرفية والفقهية. ففي انتقاده للباطنية والاتجاهات السلفية حاول البرهنة على ضرورة الاجتهاد العقلي انطلاقا من أن الشرعيات هي "أمور وضعية اصطلاحية تختلف باختلاف الأنبياء والأعصار والأمم، كما نرى الشرائع مختلفة" . وبالتالي فمن أين للأدلة العقلية، كما يستنتج الغزالي، أن تكون قاطعة فيها؟ فالمظهر السلبي تجاه الأدلة العقلية هنا ما هو في الواقع سوى توكيد فاعليتها الإيجابية . وقد ظل أمينا لهذه الفكرة بما في ذلك تجاه تطبيقها على قضية العقل والشرع. إلا أن المعضلة تظل قائمة بين النص "المقدس" (الثابت) والعقل المتغير. فعندما يؤسس بديله الإيجابي المعارض لمواقف الغلاة والحشوية بصدد علاقة العقل بالشرع، فإنه يبلور مثال هذه العلاقة وضرورة تجانسها على مثال البصر والشمس. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "المُعرِض عن العقل مكتفيا بنور القرآن مثاله المتعرّض لنور الشمس مغمض الأجفان. فلا فرق بينه وبين العميان. فالعقل مع الشرع نور على نور" .
وهي الفكرة التي حاول اعادة صياغتها في (المنقذ من الضلال) عندما سعى للبرهنة على وحدة العقلي المنطقي والقرآني وضرورتهما على مثال تجربته الفكرية. فهو يشير إلى أن ما وضعه في (معيار العلم في فن المنطق) وفي (القسطاس المستقيم) هو مجرد صيغة مبسطة للكشف عن الوحدة الممكنة والضرورية بين قواعد الدين وقواعد المنطق. لهذا أكد على أن ما تناوله من "قواعد العقائد الخمسة" في (القسطاس المستقيم) لا يخالف فيه أهل التعليم لأنه استخرجه من القرآن وتعلّمه منه، ولا يخالف فيه أهل المنطق لأنه موافق لما شرطوه في المنطق، ولا يخالف فيه المتكلم لأنه موافق لما يذكره في أدلة النظريات" . من هنا تشديده أيضا على أن أية محاولة لوضع العقل بالضد من الشرع أو أحدهما فوق الآخر، هو "مجرد هذيان". وكتب بهذا الصدد قائلا بأن عدم اطلاقه تسمية الجوهر أو المبدأ الأول على الله ليس لأن الفكرة لا يقرّها العقل، بل لأن الشرع لا يوردها، وإلا فهي بحد ذاتها صحيحة. وهي فكرة سبق وأن بلورها الباقلاني. غير أن ما يثير الغزالي ليس ولع الجدل الكلامي، ولا مساعي إظهار أفضلية أحدهما على الآخر، بقدر ما حاول الكشف عما دعاه بالحدود المميزة لكل منها. فهناك قضايا تخص الشرع بحد ذاته. وبالتالي، فإن المقصود بعدم تدخل العقل فيها لا يعني عدم قدرته على استيعابها، بقدر ما أن يفهمها بالطريقة والصيغة التي لا تجعلهما يتصادمان في جدل وصراع لا نهاية ولا معنى له. ومع ذلك فإن صياغة آرائه هذه تبقى في بعض جوانبها ثانوية أيضا. وذلك لأنه سعى من حيث الجوهر الى عقلنة الشرع بحيث تجعل من غير المقبول النظر إليه خارج تصورات العقل.
ففي معرض استفاضته في الآراء والمواقف المتعلقة باستعمال المصطلحات الفلسفية عن الله وصفاته، فإنه يشير مرارا إلى عدم منع العقل هذه الإمكانية. أما في استعماله مصطلحات الشرع، فإنه يضمّنها مضامين المقولات والمفاهيم الفلسفية. ولم يكن هذا الأسلوب بالنسبة له مجرد وسيلة أو غلاف خارجي بقدر ما كان أسلوب القناعة الفعلية لجعل تناسق العقل والشرع على مثال وحدتهما المتغيرة، أي كل ما نرى ملامحه بوضوح في محاولته منطقة وعقلنة الفقه في (معيار العلم في فن المنطق)، بما في ذلك حالما تتخذ آراؤه صيغة سلبية مناهضة لتصورات اللاهوت العقلاني المعتزلي حول قضايا أفعال الله، وما يجوز عليه وما لا يجوز وغيرها. فقد سعى في الواقع إلى تحرير العقل من مهمة الخوض في هذه القضايا، عبر إرجاعها كلياً الى صلاحية الشرع، مستندا بذلك إلى فكرة كون مفهوم الجواز أو عدمه ليس من شأن العقل بل الشرع. وأدى ذلك به إلى صياغة بعض عناصر نظرية الحقيقة والشريعة، ولكن ليس بوصفهما كيانات متعارضة، بل ككيانات متباينة في وحدتهما.
إن محاولة الغزالي تفنيد فكرة الواجب العقلية على الله، هي الصيغة الأكثر تجانسا لمبدأ التنزيه. وفي الوقت نفسه تحتوي على انتقاد لمحدودية العقل اللاهوتي نفسه. وهو ما أكد عليه الغزالي نفسه عندما تكلم حول المتكلمين، باعتبارهم أولئك الذين أضافوا إلى تقليد المذهب تقليد الدليل. فالمقدمة اللاهوتية التي يقول بها علم الكلام، في حال عدم تجانسها، تضعها في صدام وتناقضات مع الحقائق الكبرى للاهوت نفسه. وقد أدرك الغزالي الضعف النسبي والتاريخي للتصورات المعتزلية والكلامية ككل في كافة مدارسها واتجاهاتها. وسعى للكشف عن هذا الضعف من خلال تحليل مفاهيم الواجب والحسن والقبيح والعبث والحكمة وغيرها، أي كل ما يمكن تطبيقه على أفعال الله، وبالتالي ما يمكنه أن يولّد تناقضات الكلام المستعصية على الحل. وقد قام بهذه المحاولة الفكرية الأولى في (الاقتصاد في الاعتقاد)، من أجل شرح معاني الأفعال الإلهية. وفيها نعثر على نزعة عقلانية فلسفية عن كيفية تأسيس تجانس العقل والشرع. فالواجب، بنظر الغزالي، يطلق على فعل لا محالة. ويمكن أن يطلق على القديم (الله)، وعلى الشمس إذا غربت. ففي حال النظر إلى الفعل الإنساني أيا كان، فإن الواجب هو ليس مما لا ضرر فيه ولكن في فعله فائدة كشرب العطشان للماء أو التجارة والكسب وما شابه ذلك. بمعنى انه ليس هناك من ضرورة لابد منها تقف وراء كل ذلك. فالواجب، بنظر الغزالي، هو ما في تركه ضرر في الظاهر والآخر، أي ليست الفائدة هي التي تحدد مضمون الواجب، بل الواجب هو الذي يكون وجوده وجودا عضويا وجوهريا. ومن ثم في تركه "عقوبة الهلاك" الكلي . أما الحسن والقبح في الأفعال الإنسانية فيقوم في أن كل ما يوافق الغرض فهو حسن وما لا يوافقه فهو قبيح. أما الحكمة فتعني الإحاطة المجردة بنظم الأمور ومعانيها الدقيقة والحكم عليها كيف ينبغي أن تكون حتى تتم بها الغاية، أو بمعنى أن تضاف إليها القدرة على إيجاد الترتيب والنظام وإتقانه وإحكامه.
لقد حاول الغزالي من خلال هذه الصياغات إبراز خطأ النزعة العندية في الموقف من الواجب والحسن والقبح والحكمة والحكيم والقدرة والقادر. فالتصورات العندية أيا كان مضمونها وغايتها لا يمكنها، بنظره، أن تعي مجريات النظام الحقيقي والحقيقة إلا بما يتطابق مع فعلها ومصلحتها وحكمتها. وبهذا المعنى لا يمكنها إدراك حقائق الأفعال الإلهية والحقائق ككل كما هي. إذ ليس كل فائدة واجباً، وليس كل واجب حسناً بالنسبة لهذا الفرد أو ذاك (وللجميع أيضا)، في حين أن حقيقة الحكمة لا تقوم في النظر إلى الأمور حسب قدرة ترتيبها الشخصي. إن هذا النوع من الحكمة قد يوصلنا الى أشد المظاهر الهمجية، بينما القدرة الحقيقية هي تلك التي تقوم في ترتيب وتنظيم نظام ووحدة الأشياء. وأدت به هذه الحصيلة لاحقا إلى صياغة فكرته الشهيرة القائلة بأنه "ليس بالإمكان إبداع أفضل مما في هذا العالم" و"ليس بالإمكان ابداع أفضل مما كان". فالتناقض الظاهري هنا هو تناقض "العقل المذموم" مع الشرع. فإذا كان المحمود هو الشرع، كما يقول الغزالي، فبِمَ عُلِمَ صحة الشرع؟ فإن "علم بالعقل المذموم الذي لا يوثق به فيكون الشرع أيضا مذموما" . ولم يسع من وراء ذلك لتبرير الشرع في كل ما يقوله، بقدر ما نظر إليه كرديف للأخلاق المطلقة. وفي مجرى هذه العملية عمل على إضفاء صفة العقل على مضامين الشرع الاجتماعية والميتافيزيقية من أجل البرهنة على صحتها. فالعقل هو وسيلة إدراك المستقبل الذي يحتوي الشرع على رموزه العملية. وفي كل ذلك سعى للكشف عن تهافت الأفكار السفسطائية التي تبحث عن "ثغرات" لوضع العقل بالضد من الشرع عوضا عن إيجاد واكتشاف الوحدة بينهما.
إن محاولة وضع أحدهما بالضد من الآخر تشبه من يقول علمني أن العقل لا يلزم بالضرورة على النظر في الشرع والتفكر فيه، في حين إن الشرع لا يثبت إلا بالنظر ولا أرغب في النظر فيه. وقد رد على ذلك قائلا "هذا يضاهي قول القائل للواقف في موضع من المواضع إن وراءك سبعا ضاريا فإن لم تبرح عن المكان قتلك، وإن التفت وراءك ونظرت عرفت صدقي. فيقول الواقف "لا يثبت صدقك ما لم ألتفتت ورائي، ولا ألتفت ورائي ولا أنظر ما لم يثبت صدقك". من هنا استنتاج الغزالي القائل: "الشرع يعرف وجود السباع الضارية بعد الموت، والعقل يفيد فهم كلامه والإحاطة بإمكان ما يقوله في المستقبل والطبع يستحث على الحذر من الضرر" . وإن معنى كون الشيء واجبا أن في تركه ضررا، ومعنى كون الشرع موجبا انه معرّف للضرر المتوقع. فالعقل "لا يهدى إلى التهدّف للضرر بعد الموت عند إتباع الشهوات. فهذا معنى العقل والشرع وتأثيرهما في تقدير الواجب. ولولا خوف العقاب على ترك ما أمر به لم يكن الوجوب ثابتا، إذ لا معنى للواجب إلا ما يرتبط بتركه ضرر في الآخرة" . (يتبع...).



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن