خاتمة فنان بعيدٍ عن وطن إنكفأ إزدهاره!

عصام الياسري
iyasiri@hotmail.de

2019 / 10 / 16

في مقبرة تحيطها أشجار السدر والسنديان الباسقة في العاصمة الألمانية برلين، ووسط جمع من الاقارب والاصدقاء والمعارف العراقيين والعرب والالمان، انتقل جثمان الفنان العراقي المصور السينمائي ماجد كامل يوم الجمعة الموافق 30 آب ـ اغسطس 2019 في تمام الساعة الحادية عشر صباحاً الى مثواه الاخير، وبذلك إنطفأ داخل حفرة دكناء يُستوحش سلوك الطريق اليها، شعاع عراقي آخر كان يحلم بوطن يحتضنه قبل أن تأتيه المنية في الغربة.

وعلى الرغم من تعدد العناصر القيمية والمعنوية التي تجمع بين الفضاء الافتراضي للحدث ومفهوم الزمان والمكان الذي جعل الفقيد ماجد كامل يتكيّف مع ما كان ينتظره في قادم الايام. إلا ان خبر رحيله "المفاجئ" على قدر كلمة "موت" واثره البالغ، لم يكن للجميع مفاجئة بالمعنى العام لفاجعة نهاية الحياة، بقدر ما كان خبراً مؤلما وحزيناً بلا حدود!.. وعلى ما يبدو ان ماجد كان أسير أحاسيس واوهام دفينة لم يتمكن من اختزالها او تجنبها. يقاوم وحيدا للعيش ومواجهة النهاية بانضباط وهدوء. بفضل إرادته وعناده وهو كان يصارع المرض، تمكن من إعطاء الأمل لنفسه للبقاء على قيد الحياة بأقصى قدر ممكن. لكن كم كان صعبا عليه ان يواجه تراتيل هواجس وآلام دون المقدرة لوضع حدٍ لها؟. بيد أن نجله بنيامين الذي حرص على الاهتمام بأبيه لسنوات، صور المشهد الدرامي لحياة أبيه ماجد في كلمة وداع مؤثرة ألقاها باللغة الالمانية، منذ بدء أعراض الأزمة والى ما قبل مرتبة مغادرته الحياة الى عالم آخر ومن ثم الوداع الاخير وقداسته.

المفارقة؛ جاء في رسالة الاشهار التي كنت قد كتبت عن رحيل ماجد كامل ما يلي: عن عمر ناهز الـ 85 عاما فارق الحياة ابن مدينة الحلة الأثرية الشهيرة "بابل" الفنان المصور السينمائي العراقي ماجد كامل..الخ" والمعلوم ان كل ما قيل أو نشر على لسان أصدقاء وزملاء الفقيد أو العديد من الصحفيين حول حقيقة مكان ولادته، نسبوا الى انه ولد في مدينة الحلة. إلا ان نجله بنيامين كتب في كلمة الوداع، بأنه ولد في مدينة الناصرية. وعند التحري بعد تعاقب التساؤلات، في الوثائق الموجودة لديّ اكتشفت كما جاء في "شهادة الجنسية العراقية" الصادرة عن مديرية الشرطة العامة في بغداد في 13 حزيران لعام 1959، بأنه كان قد ولد حقا عام 1934 في مدينة الناصرية في جنوب العراق على نهر الفرات دون ذكر يوم ولادته. وهو ابن لأم كردية، زينب عبد الخالق، وأب عربي كامل حميد. وأنه قضى طفولته في مدينة الحلة وترعرع بالقرب من أنقاض بابل القديمة. وبعد الذهاب إلى المدرسة في بغداد، سرعان ما تمكن من الوصول إلى طريق العمل في مجال الفيلم الوثائقي بسبب براعته في التصوير الفوتوغرافي.
في يوم السبت 27 تموز ـ يوليو 2019، احيا منتدى بغداد للثقافة والفنون في برلين أمسية تأبينية بمناسبة مرور أربعينية رحيل ماجد كامل الفنان المصور السينمائي المرموق. حيث استعرض بشاركة بعض اصدقائه حياة الفقيد من زوايا مختلفة، تشمل اهم أعماله ومسيرته الفنية، أو ما يتميّز به اسلوبه في فن التصوير من تجليات وظواهر إبداعية. ايضا كيف كان له ان يكون طرفا في سرد الاحداث ليجسد في الغالب في اعماله مكانة الوطن وحياة المجتمع. وقدم رئيس المنتدى وسط جمع من المثقفين والضيوف العرب والالمان، باسم لجنة التكريم ومنتسبي المنتدى واصدقائه، شهادة تقدير للفنان الريادي الراحل. وتجدر الاشارة الى ان لجنة التكريم بشخص الفنان القدير السينمائي قيس الزبيدي والكاتب الاستاذ يحيى علوان، قد تقدما بمقترح لتكريم الفقيد في الفصل الاول من هذا العام، وعندما سمع بالخبر، كان في غاية السعادة والسرور للقاء لحظة الحدث في فضاء كهذا، وافر الاصدقاء اللذين جلهم من عشاق الثقافة والفنون والإبداع. لكن القدر أسدل الستار على تراجيديا خاتمة فنان كان بعيداً عن وطن إنكفأ إزدهاره قبل إنتهاء الفصل الاخير من العرض بمشوار.

كانت ظروف ماجد المادية والفنية كما يقول المفكر والفنان السينمائي قيس الزبيدي، مثالية للغاية. ويمكن القول حقا إن لا شيء كان ينقصه سوى ذلك الحنين الجارف الى الوطن والذي دفعه اخيرا ألى العودة لبغداد في العام 1971 للمساهمة في إعادة إحياء السينما في ذلك الوقت واعتقادا منه بأن هذه الفترة التي يسمّيها «مرحلة الجبهة» ستكون الأكثر إشراقاً في تاريخ العراق الحديث.

ويقول الفنان القدير فيصل الياسري: لم يكن ماجد كامل في لقائنا في برلين نادما على الهجرة من العراق فباعتقاده انها كانت الحل "المناسب" آنذاك للهروب من الأوضاع المرتبكة سياسيا واقتصاديا ومهنيا التي كانت مهيمنة في عراق التسعينات من القرن الماضي .. وكان إيجابيا في الحديث عن صداقتنا الطويلة ولكنه كان متذمرا من علاقتنا الفنية في فيلم الرأس، اذ كانت تمر بيننا مواقف متوترة لعل سببها طبيعة ماجد كامل العصبية وطبيعتي القيادية، ومن المنغصات ان ماجد كامل كان دائما عنده "رأي اخر" واعتراضات شكلية على خطط الإنتاج، وكثيرا ما كان يوتر جو العمل ولكن سرعان ما تعود الأمور الى الانسيابية الضرورية في فرق العمل المهنية !!

أما الفنان ضياء البياتي الذي زامل ماجد كامل طيلة فترة ادارته لمديرية السينما وإدارة المؤسسة كمعاون مدير عام والتي استمرت 19عاماً فيقول: كان فناناً مبدعاً ومجداً في عمله لا يجامل احد على حساب العمل حتى مع المخرجين الذين عملوا معه بأفلام روائية طويلة. صريحاً يضع النقاط على الحروف حتى معي (صديق وابن مدينته الحلة) كان ينتقدني في بعضاً من قراراتي في العمل السينمائي، إذ له وجهة نظر اخرى مغايرة لما انا اراها دون ان يتنازل عن رأيه مع اقرب المقربين من اصدقائه .

ويقول المفكر والكاتب كاظم حبيب؛ لقد كانت معانات ماجد كامل كبيرة عما يحصل في العراق وما يعاني منه المجتمع والقوى الديمقراطية وعن الضحايا الكبيرة التي كانت تسقط يومياً في مختلف أنحاء العراق. وعن الفساد الذي تمارسه النخبة الحاكمة وأحزابها السياسية، لاسيما قوى واحزاب الإسلام السياسي. لقد توقع ماجد بأن إسقاط الدكتاتورية عبر حرب خارجية تقودها الولايات المتحدة لن تجلب للشعب الحرية والديمقراطية والرفاهية، بل ستعيد إنتاج التخلف والبؤس والفاقة والاستبداد. ولم يكن ماجد بعيدا عن الواقع في تقديراته، فما جرى ويجري في العراق يؤكد صوابها، إذ كانت تشخيصاته ناتجة عن قربه الروحي والعقلي من الشعب والعراق وغنى تجربته المديدة، إذ أدرك بحسه المرهف تماما ما سيحصل وما حصل فعلاً.

أما الاعلامي والصحفي المتخصص في شؤون السينما والمسرح عبد العليم البناء فيقول: جاءت خسارة مدير التصوير السينمائي الفنان القدير ماجد كامل لتؤكد هذه الحقيقة المرة والمؤلمة، الذي لم يكن رحيله خسارة للسينما بقدر ما كان خسارة للوطن ولزملائه السينمائيين ولكل مبدعي العراق، الذين لمسوا فيه انسانا خلوقا وطيبا ولا يتوانى عن مساعدة الاخرين لاسيما لمن هم من صعيد الجيل الشاب من المصورين الذين مازالوا يتذكرون تعليماته الذين استمدوا منها التواصل والنجاح والتمييز في فترة كانت تعد من الفترات الذهبية لمسيرة الثقافة والفنون في العراق.

ولعلي أختم بقول الصديق الفنان قيس الزبيدي: اصبحت الحياة بالنسبة لماجد، وهو المحب للحياة، بمثابة سجن انفرادي، تضيق جدرانه الاربعة عليه الخناق وهو لا يخرج من هذا السجن الا نادرا ليعود اليه من جديد. وكان يردد لي ولأصدقائه امنيته بالقول علّ الله أن يأخذ أمانته أخيرا !
أراد ماجد أخيرا أن يرقد براحة وسلام.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن