ليلى والذئاب: الفصل الثالث/ 3

دلور ميقري
dilor7@hotmail.com

2019 / 10 / 6

في مفتتح العقد الثامن من القرن التاسع عشر، كانت ليلو قد قاربت العاشرة من عُمرها. آنذاك، بدا لكل من شاهدها أنها ستكون صبيّةً مليحة؛ بسحنة ناصعة البياض، تطلّ منها عينانٌ بلون الحشائش تحت شمس الربيع، وفمٌ برقّة الزهر، يعلوه أنفٌ مستقيم بمهابة. كذلك كان قوامها رشيقاً، تعدو به في أنحاء الدار وجديلةُ شعرها تتطاير مثل حبل مغمّس بالعسل. هذا الجمال، في حقيقة الحال، كان مألوفاً في آلها. في المقابل، كان واضحاً أن الفتاة استمدت قوة الشخصية من والدها، والعناد أيضاً. ميلها للحرية، يُمكن القول أنه بتأثير مزدوج؛ أسهمَ فيه كلٌ من المربية شملكان ورجلها أوسمان.
" لو لم تكوني أختَ حَسّو بالرضاع، لجعلتك عروساً له "، خاطبتها أمّو ذات يوم حين كانت هذه في زيارة للدار. طريقتها في الكلام، المُبطنة قَدْراً كبيراً من السطوة، جعلت عروقَ ليلو تنبضُ غضباً وإباءً. ستتذكّر فيما بعد الجملة المستفزّة، مُحالة لموقفٍ مشابه: ذلك كان، حينَ شبَّ حفيدُ تلك المرأة وصار من الضروري أن يحظى بزوجة. كونه الابنُ البكر للحاج حسن ( زعيم الحي )، وخُص ببيتٍ فاره في الزقاق المجاور، فإنهم ظنوا أن طلبهم يد نظيرة لا راد له، بل وفيه أيضاً شيءٌ من التفضّل.
بصرف البصر عن مشاعر النفور والقبول، كانت أمّو آنذاك أقوى نساء الحارة وأكثرهن شهرة. الزوج، الحاج حسين، المنهمك في حل مشاكل أولاد الحارة بعد عودته من وظيفته، كان قد أضحى أكثر تسامحاً مع تمدد نفوذ امرأته. في ذلك الزمن، لم يكن سنّ التقاعد قد سُنّ بعدُ؛ ما جعل الرجلُ يواظب على دوامه في ديوان الولاية إلى عشية يوم مرضه الأخير.

***
حُبيَ خبرُ رحيل الحاج، الذي أعلنت عنه مساجد الحي الخمسة الواحد تلو الآخر، باهتمام الكبير والصغير؛ باعتباره، ولا غرو، حدثاً جللاً. كان صباحاً خريفياً، قد أسدلت عليه الغيومُ المتجهّمة أماراتِ الكآبة، حينَ مضى موكبُ التشييع باتجاه الجامع، المتخذ اسمَ مشيّده؛ سعيد باشا شمدين. وجيه آلنا، كان من أوائل أبناء الحارة ممن تبركت أجداثهم بصلاة الميت في هذا الجامع المنيف والفاخر. لأول مرة أيضاً، تشهد الحارةُ جثمانَ أحد الراحلين، وهوَ محمولٌ على عربة تجرها الخيل في الطريق إلى مقبرة مولانا النقشبندي. ربما فطن القارئ، أنها عربة أوسمان. كي تكتمل عظمة تلك المراسم، كان على الوالي، بذات قدره، أن يُرسل من يمثله في التشييع والعزاء. يُمكن تقبّل الرواية الأخيرة، طالما أنّ الابن الوحيد للراحل سيأخذ مكان والده في ديوان الولاية. الأب، يلوح أنه هوَ من مهّد طريق ولده، حَسّو، حينَ أخذه معه إلى بيت الله الحرام كي يعود منه بهذا الاسم الجليل؛ " الحاج حسن ". بعد نحو خمس سنين، وعقبَ وفاة زعيم الحيّ، كان الحاج يملك من العلم والهيبة والسمعة الحسنة ما جعل الدولة تعهد إليه بالمنصب. هنا في هذه المسألة أيضاً، علينا التباهي بشأن فرادة الحدث: المنصب، كان حتى ذلك الحين من نصيب وجهاء المنطقة الغربية من الحي.
قانون البقاء، جعل الشخصَ الحيَّ يفيد من رحيل الآخرين. ولقد استفادت فاتي من هذه الحكمة، هيَ من كان يثقل ضميرَها الفعلةُ المعلومة بحق امرأة شقيقها. إلا أن شبحَ عيشو، لسوء الحظ، بقيَ يعذّب الأخرى من خلال اقتحام أحلامها. على المنقلب الآخر، راحَ يندمل رويداً جرحُ كرامة المرأة الملولة. بل إنها اغتبطت في داخلها، حينَ دخل رجلها بصورة عارضة إلى صالة الضيوف ليفاجأ بمشهد شملكان وهيَ جالسة على سجيتها تتفجّر حُسناً وعافية.
" ليتعذب فؤاده ما شاء له الحب ذلك، جزاء ما فعله فيّ "، خاطبت نفسها في غير قليل من التشفّي. لم تنسَ له، فوق ذلك، رميها في حجرة المؤن لتكونَ رفيقة ليل الفئران وموسيقى صفيرها الباعث قشعريرة في البدن. مع أنها نظفت المكان جيداً، بعدما أمرَ السيّدُ بنقل المؤن إلى قبو الدار. في إحدى المرات، عندما كان أوسمان لديهم كي يرافق امرأته إلى بيتهما، طلبت منه فاتي أن يتدبر لها من سوق الجمعة سماً للفئران. فخرج الرجل عن طوره، زاعقاً فيها بغضب: " يا مخبولة، أترغبين بتكرار مأساة عيشو في منزل زوجك، الذي جعل منك امرأة محترمة؟ ". لوحت فاتي يدها، فيما داخلها يردد ساخراً الكلمة الأخيرة في جملة الرجل: " هه، امرأة محترمة! ".

***
دار الزوجية، أين تعيش فاتي منذ حوالي عشر سنين، بدا أن لها حديقتان. ذلك أنّ أرض الديار، المبقّعة بالبلاط الأبيض والأسود ـ كرقعة شطرنج ـ كانت ذات أشجار مثمرة عديدة أغلبها حمضيات، فضلاً عن أحواض الزهور وعرائش الياسمين والمجنونة واللبلاب. هنالك على يمين مدخل صالة الضيوف، كان يسرق نظرَ شملكان، لدى ولوجها أو خروجها، منظرُ شتلات رائعة الأزهار، مزروعة ضمن أوانٍ من الفخار.
" إنها القرطاسية؛ وهيَ أثيرة جداً لدى طراد آغا، وبالأخص تلك ذات اللون المائل للحمرة "، ردّت فاتي ذات مرة على تساؤل امرأة ابن عمها. عند ذلك، طلبت منها شملكان أن تأخذ إحدى الشتلات، وكانت بلون سماوي. هزت المضيفة رأسَها، وما لبثت أن انحنت وناولت ضيفتها الشتلة المطلوبة. من على الشرفة العريضة للدور الثاني، كانت ضرة فاتي تراقب الوضعَ. إلا أنها لم تفتح فمها سوى بعد ذهاب الضيفة.
" عندما تكونين في دار أبيكِ، بوسعك إهداء الأزهار لمن ترغبين "، صرخت المرأة البدينة من موقفها العالي وقد انتفخت أوداجها واحمرّت. ردّت عليها الأخرى، متسائلة: " وأين أعيش الآن، إن لم يكن في بيت زوجي؟ "
" طراد آغا ليسَ له سوى زوجة واحدة، هيَ أم أولاده. أنت لا يعدو وجودك هنا عن مجال الخدمة "
" لو كنتِ أنت تلك الزوجة الأثيرة، يا كرشَ الحوت، ما جاء لك الآغا بضرّة! "، قالتها فاتي بنبرة منتصرة قبل أن تواصل، " كما أن الكل يعلم وجاهتنا في الحي، ويتشرف بمصاهرتنا ". ما كان من البدينة إلا الاشتعال غضباً. فأخذت قدحاً من البلور، كان بمتناول يدها، فقذفته باتجاه ضرتها. انفجر القدح شظايا تحت رجليّ فاتي. ولكن هذه ضحكت ملأ فيها، بينما كانت تتجه إلى حجرتها لتوصد على نفسها الباب. فيما بعد، قدم إليها سيّدُ الدار كي يستفهم عن أمر المشادة. لما علِمَ بأن شتلة القرطاسية طلبتها شملكان، أومأ رأسه إلى الأرض وبقيَ يتفكّر لحظات. ثم ما عتمَ أن خرج من الحجرة بعدما أبقى فيها ملاحظة ساخرة: " مع ذلك، يجب ألا تنسي نفسك عند التحدث مع أم أولادي! ".



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن