فينومينولوجيا شارع بروفانس

مزوار محمد سعيد
mezouarms@yahoo.co.uk

2019 / 9 / 28

ما حدث للكونت موفات في شارع بروفانس بباريس، تلك القصة القصيرة التي زيَّن بها الكاتب الفرنسي إميل زولا روايته الجميلة بعنوان: نانا، يحدث لكلِّ جزائريِّ بين اللحظة والأخرى، دون دراية هذا الأخير أو بدرايته، فالأمر لا يؤخر شيئا؛ إذ هي عملية نفسية يدخلها الفرد الذي يصارع المعيش على التراب الجزائري، فتقهره مستندة لعوامل كثيرة، منها ما هو تاريخي-ديني، تقليدي-وطني وما هو تأصيلي عُرفي بكافة المقاييس وبالمعيار ذاته.
تلك العشوائية التي يتخبَّط فيها الجزائري بين أزمات كثيرة، تصهر أيامه فتجعله ينتقل من أزمة إلى أخرى، بشكل جدّي ودون سوابق أو تذمُّر، حتى أنَّ حالات التعب التي يعيشها هذا المواطن أو ذاك على أرض الجزائر في الألفية الثالثة، تغزوها الكثير من الأفكار التي تشبه تلك التي غزت ذهن الكونت موفات وهو يلهث أمام تلك النافذة من بيت فوشيري في شارع بروفانس.
حالة تحمل الكثير من التداخلات، لكن المشترك فيها، هي العوائق والحواجز التي جعلت من الجزائري فردا تائه، رافضا للوقائع، متبنيا للأكاذيب مثلما حدث للكونت موفات بعد عودته إلى بيت نانا تلك الليلة، رافضا ما رأته عيناه، ودقَّ له قلبه العاقل!
لقد تمَّ عقاب الجزائري مثل الكونت الفرنسي بسبب براءته وحيلته المحدودة، بسبب عناده الذي طغى على عقله، والذي جعله يكذِّب ما يراه لقاء ما يسمعه من أكاذيب، لقد انقلبت الأحوال البشرية في الصيغة الجزائرية الجديدة، جاعلة من الجزائري إنسانًا حالما واهمًا، مما أهَّله للوقوف على عتبة الطرد من الجماعة الإنسانية، خالقة للكثير مِن كلِّ مناوئ له أعذارا وحججا كثيرة، تسهل لهم رميه في القاع، حتى دون الحاجة إلى الالتفات إلى صراخه، حتى بالقليل من الشفقة أو الرحمة.
بَدَا الكونت موفات في ليلة شارع بروفانس كبشريٍّ يرفض ما يرشده إليه عقله، ضميره، ما تراه عيناه ويسمعه صميمه، بدا إنسانا يخلع عن نفسه صورة الإنسانية لقاء عودته إلى جُحره الذميم، لعله بهذا الفعل يستطيع الحفاظ على شرفه الضائع، المنثور على جدران منزل الصحفي فوشيري الدنيء، لكنَّ الدناءة لقاء هذا العناد حلَّت بالنبيل موفات بسبب جبنه أمام اتخاذ القرارات في الوقت المناسب.
على كلِّ جزائري أن يحافظ على نبله، بسلخه لخطايا الكونت موفات عن ذاته المتطلعة إلى الحرية، الكونت الذي بطبعه الطبيعي يكون حرًّا شريفا، جعله تقاعسه أمام الحقائق المؤلمة يتحوَّل مع الروائيِّ إميل زولا إلى إنسان مدمَّر يطلب الغفران من أحقر المومسات، وكم كان المشهد قاسيا للغاية.
تحمُّل المسؤوليات لا يعني أبدا تحمُّل المذلَّة والمهانة، إنَّ في تلك الحادثة التي ألمَّت بالكونت موفات من الفصل الثالث عشر والرابع عشر من رواية نانا لعِبَر كثيرة لكلِّ جزائريٍّ ورث عنفوان الحرية عن أجداده الأبطال، الذين ساروا إلى لقاء نهاياتهم وهُم شامخون، والمعروف عن الطبيعة والبيولوجيا أنَّ الخلية تنشأ عنها خلية من البنية نفسها، فالبطل لن يخلفه سوى مَن كان مِن جنسه، بطل مثله أو يفوقه توقا للرفعة والمجد.
رغم كلِّ ما يحيط بالجزائري من عوائق وقيود، إلاَّ أنني لا أراه في ثوب غير ثوب البطولة والرجولة، لا أراه سوى في صورة الإقدام والاقتحام، لأنَّ سنَّة التاريخ ترفع من قدْره قبل أن تذلل له الأقدار، إذ لا يمكن إسقاط صورة الكونت موفات على كلِّ جزائري، وإن تطابقت على بعض الجزائريين المنتفعين من أنظمة العصابات، إلاَّ أنَّ أحفاد الأبطال –وهُم ليسوا بقلائل على تراب الجزائر- لا يمكن أن يلبسوا أثواب الجبناء الذي يسلِّمون بمنطق الخبزيست أمام الحقائق، منطق: عنزة ولو طارت؛ فكلُّ نَفَقٍ مُظلِم، له نهاية من نور.


Mezouar Mohammed Saïd
© Skype: mezouarms



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن