ثورة هذا العالم وثورة الله

محمد برازي
mohamed.brazi@hotmail.com

2019 / 9 / 18

عندما يسألنا شخص: "ما شكل الحياة في مجتمعاتكم المسيحية؟ وكيف تعرفتم على هذه الحياة؟ وما طبيعة النظام فيها؟" فيمكننا القول أنّ الإيمان بالتحديد هو البذرة التي ينبع منها أيّ مجتمع مسيحي كان. ونحن نعلم أنّ بوسع الإيمان أنّ ينقل جبالا، مثلما أكد ذلك السيد المسيح:
الحقَّ أقولُ لكُم: مَنْ قالَ لِهذا الجبَلِ: قُمْ واَنطَرِحْ في البحرِ، وهوَ لا يَشُكُّ في قَلبِه، بَلْ يُؤمِنُ بِأنَّ ما يقولُهُ سيكونُ، تَمَّ لَه ذلِكَ. (مرقس 11: 23)
فالإيمان هو العون الوحيد للبشرية. فلا ينفع أي شيء آخر. فالثورات الاجتماعية التي ترمي إلى تغييرات جذرية، والحركات المثالية للعودة إلى الطبيعة، والأفراد الذين يخلقون لهم شخصيات وطنية بطولية بتأثير وسائل الإعلام والإشاعات الكاذبة، والمعتقد المسالم المؤمن بالتحسن التدريجي للجنس البشري أو بقوة الخير العاملة في التاريخ - كلها لا تقدر على أن تمنح البشر القوة أو تهديه إلى الطريق الصحيح. ولا تقدر أيّ منها على أن تتغلّب على الخطيئة أو على الظلم أو على الأنانية والتمحور حول الذات أو على الجشع. ويتضح هذا كثيرا من كلام أعضاء حركة الإصلاح الزراعي على سبيل المثال (التي تدعو إلى الاستخدام والتوزيع الأفضل والحقاني للأراضي). فيقولون: "نحن نسلّم بالأنانية البشرية كواحدة من البديهيات. وإلّا لما بقينا في حركة الإصلاح".
لكن الإيمان لا يسلّم بالأنانية كإحدى البديهيات؛ فهو يتوقع التخلص منها كليا. وبفضل الإيمان تُبدَلُ الأنانية بكلام يسوع: وهو أننا إذا طلبنا ملكوت الله وبرّه في طليعة المتطلبات فسيحل كل شيء آخر في مكانه الصحيح. عندئذ لن يكون هناك سوى حلّ واحد وجواب شافٍ واحد ألا وهو: سيادة الله على حياتنا في المسيح من خلال الروح القدس. ثم إنني مقتنع تمام الاقتناع بأن لا مشكلة ستبقى بدون حلّ إذا مضينا جديّا في هذا الطريق وإذا نمت هذه البذرة حقا وازدهرت بيننا.
أنّ الشيوعية السياسية (وهي الفئة من داخل الحزب الشيوعي التي تتبنى القوة في الحزب الماركسي الروسي وغيره من الأحزاب الشيوعية الأخرى) لا تنشأ عن جماعة روحية ولا عن جماعة تؤمن بالإيمان والأعمال، بل تنشأ عن مُثُل عُليا لحكومة مركزية واقتصاد مركزي. فهي تهدف إلى فرض طريقة الحياة الشيوعية بالقوة على الناس. وهي تتعامل مع الأمور من الخارج. فتعالج المشاكل الخارجية للسيطرة الاقتصادية. ويأملون أن تساعد السيطرة الخارجية أيضا في تحسين العلاقات الداخلية. إلّا أنّ هذا النوع من الشيوعية لا يتمكن أبدا من خلق مجتمع أخوي باستعمال القوة. فالقتل هو ليس الطريق إلى السلام. والقتل هو ليس الطريق إلى المحبة. فالشيوعية السياسية هي هاوية خطيرة، بل هي معادية للمسيحية. ومع ذلك فنستطيع التعلّم من خلالها أنّ شيئا أفضل وأكثر نقاء وطهارة يمكننا الحصول عليه من خلال المسيح ومحبته الكاملة.
وعليه فإنّ عدالة ملكوت الله لابد أن تكون أفضل من ذلك بكثير. فما لم تكن عدالتكم أفضل من عدالة الأخلاقيين واللاهوتيين - ومن عدالة الشيوعيين - لا يمكنكم الدخول إلى ملكوت الله.
فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى بِرِّ الْكَتَبَةِ والْفَرِّيسِيِّينَ، لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ أَبَداً. (متى 5: 20)
فعدالة الشيوعية السياسية غير كافية لتتأهل لملكوت الله. فلا تنبع عدالتها من القلب، ولا من جماعة روحية. فهي مفروضة على رقاب الناس. فلا يمكن بناء مجتمع مسيحي أخوي بهذا الأسلوب.
يلزمنا أن نجد طريقا مختلفا. أنه طريق متواضع جدا وبسيط لأننا نرفض إجراء محاولات إصلاح الأحوال الاجتماعية بوسائل سياسية. فنمتنع عن كل الجهود الرامية إلى تحسين الظروف عن طريق التشريع؛ ثم إننا نمتنع عن لعب أي دور في النظام المدني للمجتمع. وربما نبدو وكأننا نسحب ونعزل أنفسنا، وندير ظهورنا للمجتمع. لكن هذا غير صحيح. لأننا في الحقيقة نبني حياة متحرّرة من أي ارتباط مع الكنائس الرسمية التقليدية التي تعزل نفسها عن العالم وآلامه وتحاول الاستقلال بذاتها. فنحن نريد أن نحرّر أنفسنا من كل هذه الأمور ما دام الله ينعم علينا بالنعمة لتمكِّننا من القيام بذلك، وكذلك نريد أن نتبع المسيح وذلك بالعيش كما عاشت الكنيسة الأولى في أورشليم. وتعني حياة كهذه أنّ واقعا جديدا جدا عليه أن يقرر كل شيء في الشؤون الاجتماعية، والاقتصادية، والدينية، وهو واقع جديد قائم على الوحدة بين الناس والاتفاق بالإجماع الذي يهبه الروح القدس.
وأُعطيهِم قلبًا جديدًا وروحًا جديدًا في أحشائِهِم، وأنزِعُ مِنهُم قلبَ الحجرِ وأُعطيهِم قلبًا مِنْ لَحمِ. فيَسلكون في فرائِضي ويحفظون أحكامي ويعمَلوا بِها، فيكونونَ لي شعبًا وأكونُ لهُم إلهًا. (حزقيال 11: 19-20)
هذه هي المعركة التي وُضِعت فيها الكنيسة المقدسة التي تعيش حياة أخوية مشتركة. فقد ظلّ الرسل يشيرون لنا دائما إلى الحقيقة من أننا سننال نصيبنا من الاستشهاد ومن صليب المسيح، لأن روح العصر الذي نعيش فيه لا يتحمّل روح المستقبل الذي سيملك فيه المسيح والمتجسِّد بيننا الآن.
إنْ أبغَضَكُمُ العالَمُ، فتَذكَّروا أنَّهُ أبغَضَني قَبلَ أنْ يُبغِضَكُم. لَو كُنتُم مِنَ العالَمِ، لأحبَّكُمُ العالَمُ كأهلِهِ. ولأنِّي اَختَرْتُكم مِنْ هذا العالَمِ وما أنتُم مِنهُ، لذلِكَ أبغَضَكُمُ العالَمُ. تَذكَّروا ما قُلتُهُ لكُم: ما كانَ خادِمٌ أعظَمَ مِنْ سيِّدِهِ. فإذا اَضطَهَدوني يَضطَهِدونَكُم، وإذا سَمِعوا كلامي يَسمَعونَ كلامَكُم. هُم يَفعَلونَ بكُم هذا كُلَّهُ مِنْ أجلِ اَسمي، لأنَّهُم لا يَعرِفونَ الّذي أرسَلَني. لَولا أنِّي جِئْتُ وكَلَّمْتُهُم، لما كانَت علَيهِم خَطيئةٌ. أمَّا الآنَ، فلا عُذْرَ لهُم مِنْ خَطيئَتِهِم. مَنْ أبغَضَني أبغَضَ أبـي. لَولا أنِّي عَمِلتُ بَينَهُم أعمالاً ما عَمِلَ مِثلَها أحدٌ، لما كانَت لهُم خَطيئَةٌ. لكِنَّهُمُ الآنَ رَأوا، ومعَ ذلِكَ أبغَضوني وأبغَضوا أبـي. وكانَ هذا ليَتِمَّ ما جاءَ في شَريعَتِهِم: أبغَضوني بِلا سَبَبٍ. (يوحنا 15: 18-25)
إلا أنّ روح العصر يتحمّل ويسعد لمحاولاتنا لتمثيل شيئا من روح المستقبل المقدس وفي الوقت نفسه نساير أولئك الذين هم على استعداد تام لتقديم بعض التنازلات. فهذا النوع من الخليط هو من أكثر الأشياء المرغوبة لروح العصر. وتفضّل حتى الدول الوثنية خليطا مع الروح المسيحية؛ وتريد كذلك أكبر الشركات الرأسمالية أن يكون لها شيء من الروح المسيحية، ثم إنّ المشاريع المُدلِّسة والغشاشة بشتى أنواعها ترغب في التحلّي بقشرة مسيحية، أيْ بمعنى قشرة من الحقيقة. وحتى الذين يقصدون الحروب يريدون أن يُظهِروا شيئا من المحبة المسيحية. فهذا الخليط عزيز عليهم جميعا.
من المفارقات أنّ الحكومة التي يُرادُ بها قمع الشرّ، تستخدم العنف بحكم طبيعتها وتقترف هي الأخرى الشرّ، وبالتالي فهي وحش صاعد من الهاوية.
وما إنْ يُتِمّا شَهادَتَهُما حتّى يَجيءَ الوَحشُ الصّاعِدُ مِنَ الهاوِيَةِ ويُصارِعَهُما ويَغلِبَهُما ويَقتُلَهُما. (رؤيا 11: 7)
وإذا جاز لي أن أقول شيئا جريئا جدا، فأود وضعه بهذا الأسلوب: إنّ الله يبقي جحيم الجرائم البشرية تحت سيطرته بآلة جهنمية، ألا وهي الدولة.
ولكن يمكن لقائل أن يقول: "أنا ذاهب لتشغيل هذا الجهاز وجعله أقل جهنمية؛ وأنا أريد أن أُعَدِّل من الخصائص الشيطانية للجحيم، لذلك سأخدم الدولة." إنّ قرارا كهذا علينا اِحترامه. حسنا؛ فليفعل كل من شاء ذلك، وسأصلي من اجل هذه المبادرة لعلها تساعد قليلا. أما أنا فأرفض ركوب آلات الجحيم. سأركب على متن السفينة التي تبيّن للبشرية كلها الطريق إلى الشاطئ الآخر، الذي لم يُكتَشف بعد. إنه ملكوت السلام والعدل والمحبة الكاملة.
هناك حاجة إلى أشخاص يتجرؤون على قيادة السفينة وتحديد مسارها باتجاه الشاطئ الآخر، ويتجرؤون على اكتشافه، ويتجرؤون على العيش وفقا لأساليب الحياة في البلد على الجانب الآخر. ولكننا ومن هذه السفينة نود أن نبقى على اِتصال دائم بجميع الناس الآخرين. فلدينا رسالة لهم، وبهذا سنستمر في تحمّل مسؤوليتنا تجاه مصير الجنس البشري. ونؤمن أننا بهذا الطريق سنقدم أفضل خدمة للعالم في هذه الساعات المروِّعة للتاريخ.
فنَحنُ سُفراءُ المَسيحِ، وكأنَّ اللهَ نَفسَهُ يَعِظُ بألسِنَتِنا. فنُناشِدُكُم باسمِ المَسيحِ أنْ تَتصالَحوا معَ اللهِ، (2 كورنثوس 5: 20)
إنّ الثورة المسيحية هي ثورة تدعو إلى الوحدة على كافة الأصعدة، الداخلية والخارجية أيْ الروحية والجسدية. فهناك حاجة إلى مثل هذه الثورة لتحقيق التحرّر والمساواة المنشودتين تحقيقا فائضا وثريّا وأيضا لانتشال الحياة بكامل أبعادها من عالم الماديّات ومن الاكتساب والتحصيل البشري. غير أنّ هذه الانتفاضة التي تنشلنا كلنا من حضيض التراب إلى رياض الأخوية، لا تأتي أبدا من الناس بل من الله وحده. وإرادة الله للبشر هي إقامة وحدة تملأُها المحبة والوقار المقدس. هذا وأنّ رغبة الإنسان التي تتصف بالتخريب والخداع لا يقدر أيّ شيء على تحويلها إلى قوة خيّرة إلا إرادة الله المقدسة، فتتحوّل آنذاك إلى رغبة جديدة مليئة بقوة المحبة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن