لماذا السكوت عن قتلة عمال الحديد في البصرة ؟

كاظم المقدادي
kalmukdadi@hotmail.com

2019 / 9 / 16

بسبب سوء الإدارة البيئية والتجاهل والإهمال وإنعدام المسؤولية والحرص، حصل للأسف ما حذرنا منه، ويستمر الإستهتار دون رادع، وتتواصل التداعيات وسقوط الضحايا..

من منطلق الواجب المهني والوطني والإنساني، حذرنا وغيرنا، على مدى ربع قرن، من خطورة الإقتراب من مخلفات الحرب- دبابات ومركبات مدرعة ومدافع وراجمات ودشم- المضروبة بأسلحة اليورانيوم.
وأثناء غزو العراق دعونا في11/4/2003 العوائل العراقية أن تبعد أطفالها من اللعب بالقرب من الأعتدة الحربية المدمرة، وأن تمنعهم من الصعود عليها، ولا تسمح لهم بجلب قطع أو أجزاء منها للبيت، لكونها مشعة وسامة كيمياوياً.وبمنعهم من التقرب من ركام الحرب المعدني يجنبهم الإصابة بالسرطان،وبتلف الكليتين، وغيرها من الأمراض! وينبغي ان يمتنع الكبار، وخاصة النساء الحوامل، من التقرب الى الركام المذكور أيضاً ("الحوار المتمدن"،العدد:452، في 11/4/2003 ).
ولفتنا إنتباه المسؤولين في العراق (الجديد) وطالبناهم بتنظيف البيئة العراقية عاجلآ من مخلفات الحرب المشعة، وأكدنا على خطورة بقائها قريبة من السكان(مجلة " البيئة والتنمية"، العدد 63، حزيران 2003)..
وتأكيداً لخطورتها، نشرنا في عام 2006، نتائج دراسة لنا في الخارج أثبتت إصابة وموت أطفال عراقيين بالسرطان نتيجة لتعرض اَبائهم وأمهاتهم لإشعاعات أسلحة الحرب، أثناء قصف مناطقهم، أو لوجود معدات حربية عراقية مضروبة بقذائف اليورانيوم الأمريكية بالقرب من بيوتهم (مجلة " الثقافة الجديدة"، العدد 318، اَيار 2006).
وكررنا في وسائل الإعلام المختلفة،وفي مؤتمرات وندوات علمية، تحذيراتنا من خطورة مخلفات الحرب المشعة،وأوصلناها للجهات المسؤولة،وأكدنا مجدداً على ضرورة التعجيل بتنظيف البيئة العراقية منها حماية لصحة وحياة أبناء وبنات شعبنا..

إجراءات ناقصة

لم يتم رفع السكراب الملوث من المناطق السكنية والحقول،في وقته، لا عقب حرب 1991 ولا عقب حرب 2003. ولم يتم منع الاقتراب منه، ولم يُتخذ أي إجراء جدي وفاعل لدرء مخاطره. وكل ما حصل، فيما بعد، و" بعد خراب البصرة "- كما يقول المثل الشعبي- هو تجميع قسم من السكراب الملوث في «مقابر» ليست بعيدة عن المناطق السكنية، تركت مكشوفة ومن دون حراسة ولا مراقبة، فلعب مئات الأطفال فوقه وحوله، وتضرروا بسمية إشعاعاته بيولوجياً، وأُصيبوا بأمراض قاتلة.
وجرت أمام انظار المسؤولين المتنفذين وعدم إكتراثهم عملية واسعة ومنظمة لتفكيك الحديد المضروب ونقل أجزاء منه، والمتاجرة به كخردة، فساهم ذلك بنقل الإشعاعات إلى مناطق أخرى، وحتى إلى دول الجوار التي دخل إليها..
وفي السياق ذاته،تجاهلوا مبادرات علمية قدمت لمساعدة العراق في التخلص من ركام الحرب بأنجح الطرق وأقلها تكلفة، ومنها المشروع الخاص بطمر النفايات المشعة الذي قدمته ورشة عمل دولية نظمتها جامعة التكنولوجيا في لوليو بالسويد عام 2011. وقبل ذلك أهملوا المشروع الذي تقدمت به جامعة أوهايو الأميركية للمساعدة في دراسة ومعالجة التلوث باليورانيوم المنضب، مثلما أهملت نتائج عشرات البحوث والدراسات العلمية الأجنبية والعراقية في هذا المضمار..
والحصيلة أكثر من مليون إصابة وموت مئات الآلاف من العراقيين بالسرطانات..

إصرار على التجاهل والإهمال

لقد نبهنا،مراراً وتكراراً، الى خطورة تحول أنقاض الحرب المضروبة بقذائف اليورانيوم المنضب إلى حديد خردة، بسبب تلوثها إشعاعياً، وذلك استناداً إلى نتائج أبحاث ودراسات ميدانية علمية أجراها في العراق علماء أجانب، وجدت أن نسب التلوث الإشعاعي في مناطق ركام الحرب تزيد من 10 إلى 30 ألف ضعف الحدود المسموح بها دولياً (Weyman, Ted, UMRC, Nov.2003، محمد الشيخلي،"البيئة والتنمية"، العدد 69،كانون الأول 2003، IRIN, 14 October 2009 )..
ودعونا مراراً إلى رفع السكراب الملوث فوراً وطمره بطريقة مأمونة بعيداً عن المناطق السكنية والحقول والمزارع. وانتقدنا عدم التعامل مع هذه المشكلة الخطيرة بشكل استثنائي وجدي وفاعل، لأن العواقب ستكون وخيمة..
وفي حزيران 2009 أصدرنا بإسم الحملة من أجل تنظيف البيئة العراقية من المخلفات المشعة تقريراً من 102 صفحة، تضمن معلومات وأحصائيات ومصادر علمية وفيرة، تدلل على خطورة مخلفات الحرب على المدنيين، وتشكل تهديداً لحاضرهم ولمستقبل أجيالهم..أرسلناه الى الرئاسات العراقية والى أعضاء من مجلس النواب(الذين حصلنا على بريدهم) والى كافة الوزارات المعنية والى مجلس السرطان في العراق، والى العديد من منظمات المجتمع المدني.. لم تكلف الجهات الحكومية المعنية نفسها بإشعارنا بالإستلام، ناهيكم عن الأهتمام بالمشكلة المطروحة، وكأنها لا تعنيها وليست من صلب مهامها..
وفي عام 2014 أصدرنا كتاباً بعنوان:"التلوث الإشعاعي في العراق بين الحقائق والتضليل"،تم طبعه على نفقة وزارة الثقافة، توافرت عشرات النسخ منه في مقر الوزارة ببغداد، ومثلها في المراكز الثقافية العراقية في الخارج، ومن جانبنا أهديناه الى كافة المكتبات الجامعية في بغداد والبصرة وديالى والمثنى والموصل،بالأضافة الى العديد من الباحثين المعنيين..لو كلف المتنفذون المعنيون أنفسهم بالأطلاع عليه والأستفادة منه، لساعدهم كثيراً في مهمة درء مخاطر التلوث الإشعاعي والتخلص من مخلفات الحرب.

مأساة منتسبي معمل الحديد والصلب في البصرة

في عام 2006، أخذنا على قرار مجلس الوزراء بتشكيله لجنة مركزية تقوم بتجميع الحديد السكراب ونقله إلى مصنع الحديد والصلب في البصرة وشركة الصمود العامة للصناعات الفولاذية في التاجي، لـ " الإستفادة منه في إعادة التصنيع".. وكان سبب انتقادنا عدم تحديد التخلص من السكراب الملوث إشعاعياً كهدف أول لعملية التجميع. وحذرنا من مغبة تجاهل التحذيرات العلمية التي تعتبر السكراب الملوث خَطِر على البيئة والصحة العامة ، حتى في حالة صهره وتحويله إلى منتجات أخرى. ولذا، منعت الدول المجاورة دخول السكراب العراقي إليها. وأكد خبراء في طب المواد المشعة ما حذرنا منه، مبينين أن استخدام المعدات العسكرية المضروبة بذخائر اليورانيوم المنضب أو الاقتراب منها يشكل تهديداً لصحة الإنسان راهناً ومستقبلاً (مجلة" البيئة والحياة"، العدد الثامن،أيلول 2006).
بيد ان التجاهل واللامبالاة إستمرت،وإقترنت بالتعامل مع الحديد السكراب الملوث بالإشعاع من دون إجراءات وقائية قوية وحديثة. فأصيب وتوفي بالسرطان عدد كبير من منتسبي الشركة العامة للحديد والصلب في البصرة.وقد رافق ذلك عملية تستر وتعتيم على الضحايا.. إلا أنه في عام 2015 تحرك مجلس محافظة البصرة وكشف النقاب عن وفاة 31 عاملاً من مجموع 68 عاملاً مصابين بالسرطان تعرضوا لإشعاعات اليورانيوم في مصنع الشركة،وذلك لاستخدام المصنع أكواماً كبيرة من مخلفات الحديد (السكراب) كمادة أولية في صناعاته المختلفة، تضم آليات عسكرية ثقيلة للجيش العراقي دمرتها القوات الأميركية خلال الحرب بقذائف اليورانيوم(« شفق نيوز»، 23/2/2015) وقبل ذلك توفي عمال آخرون بالسرطان من دون الإعلان عنهم(مجلة " البيئة والتنمية"، العدد 206،حزيران 2015). وقد علق أحد منتسبي الشركة:" ظاهرة الموت والخوف من شبح الإصابة بالسرطان حالة مأساوية، والشركة كانت تعلم جيداً ما يحدث للمنتسبين، ولكنها لا تريد إن تعلن عنه بسبب التخوف من اغلاق الشركة وإلغائها نهائيا وموتها استثمارياً، بدلا من الخوف على حياة منتسبيها الذين يطاردهم الموت"( اذاعة المربد، 29/ 1/ 2015)..
وقبل أيام نقلت وسائل إعلام عراقية عن بيان صحفي للنائب عن محافظة البصرة جمال المحمداوي كشف فيه ان عدد المصابين بالأمراض السرطانية وسط منتسبي معامل الشركة المذكورة بلغ (127) مصاباً، توفي منهم (64) مصاباً.أي ان الأعداد تضاعفت خلال 4 سنوات.وقال النائب في رسالته الى رئيس مجلس الوزراء(رقم 739،في 29/8/ 2019) ان الباقين من المرضى يعانون من نقص حاد بالعلاج وعدم تمكنهم من شرائه لأنه باهض الثمن..

مبادرة مشكورة

مبادرة النائب المحمداوي، بإثارته للموضوع مجدداً أمام الحكومة الحالية، تستحق التثمين. بيد أنه للحقيقة والتأريخ لابد من تحميل المسؤولية لكافة الحكومات العراقية المتعاقبة، ولوزارات الصناعة والمعادن، والبيئة،والعلوم والتكنولوجيا ، والصحة، والدفاع،والصحة والبيئة،عن إصابة هؤلاء العمال وموتهم بالسرطان، وذلك لإهمالها للتحذيرات العلمية عن خطورة مخلفات الحرب الملوثة بالإشعاع، واستهانتها بها، ناهيكم عن درئها، فضلاً عن التستر على الأسباب الحقيقية للإصابات والوفيات السرطانية هناك، ففرطت بصحة المواطنين وحياتهم. ولذا فهي تتحمل كامل المسؤولية، ومن حق الضحايا وذويهم محاسبتها ومساءلتها قضائياً،إذا أرادت السلطة تثبت بأنها تحترم مواطنيها وحريصة على حقوقهم.

هل سيحاسب المسؤول المهمل والمقصر والمستهتر ؟

أن ما حصل لمنتسبي الشركة العامة للحديد والصلب في البصرة كان متوقعاً، وقد حذرنا من وقوعه بكل صراحة ووضوح حتى في مجلة وزارة البيئة. لكن المالكي وحكومتيه تجاهلت المشكلة تماماً وتسترت على الأسباب الحقیقیة للإصابات والوفیات السرطانیة ("المدى"، العدد 3303،في 3/3/2015 ).. وحتى عندما أعلنت في عام 2011 شمول منتسبي شركات وزارة الصناعة بـ (مخصصات الخطورة)، وخاطبت إدارة الشركة المذكورة الوزارة بضرورة شمول منتسبيها بالمخصصات، اعتبرت الوزارة ان طلب إدارة الشركة غير صحيح، لأنها بذلك تكشف عن تعرض منتسبيها إلى إشعاعات مستمرة من المخلفات،التي تتعامل معها، وهو ما لن يكون في صالح الشركة مستقبلا في مجال جذب المستثمرين(وكالة أنباء العمال العرب، 1/2/2015 )..أي أن الإستثمار الموعود "أثمن" من حياة شغيلتها !!..لا نعتقد ان المالكي(المسؤول الأول في الدولة- كما أعلن هو بنفسه جهاراً) لا علم له بذلك.ولذا فهو وحكومتيه يتحملون المسؤولیة الكاملة عن إصابة وموت عمال الحديد والصلب بالسرطان ..

وهكذا، فان إشعاع السكراب الملوث باليورانيوم،الذي تم تجاهله بكل صلافة وإستهتار، هو الذي قتل عمال الشركة العامة للحديد والصلب في البصرة،مثلما قتل التلوث الإشعاعي الذي سببته الحروب مئات اَلاف العراقيين والعراقيات، في ظل سوء الإدارة البيئية الصارخ، والتجاهل والأهمال والتقصير في الواجبات..ولابد من محاسبة المسؤولين عن كل ذلك قضائياً لينالوا الجزاء العادل !
----
*أكاديمي عراقي مقيم في السويد



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن