الأسد ومخلوف، اهتراء النظام

راتب شعبو
ratebshabo@gmail.com

2019 / 9 / 12

شهدت سورية في الفترة الأخيرة انفجار صراع ضمن العائلة الحاكمة على خط انقسام لم يكن ساخناً من قبل، الخط الذي يفصل عائلتي الأسد ومخلوف اللتان تعتبران عائلة واحدة من منظور المحكومين السوريين. وقد أثبتت العائلتان تماسكاً ملحوظاً طوال عقود من الزمن، لا يقوم فقط على توزيع المهام، بل والأهم من ذلك، على احترام الهرمية في علاقات القوة العائلية. إقرار تام من جانب آل مخلوف بوجود آل الأسد على رأس السلطة السياسية والعسكرية والأمنية، فيما تبقى عائلة مخلوف في المجال الاقتصادي وتستخدم أعلى مراكز السلطة سنداً لها في استيلائها على اقتصاد البلد وعلى المال العام.
في عهد الأسد الأب، لم يكن الحال على هذا الشكل من الفجور و"الاستفشار" الذي ظهر في عهد الأسد الابن، وتجلى في سيطرة مملكة رامي مخلوف الاقتصادية على 60% من الاقتصاد السوري، كما تقول بعض التقارير. رغم تعزيز سلطته العسكرية والأمنية بعصبية طائفية، لم يخلّ الأسد الأب بالمبدأ السوري العريق الذي يقول إن الاقتصاد شأن مديني سني، هذا ما خلا الامتداد الاقتصادي للدولة فيما عرف في تلك الفترة بالتحويل الاشتراكي. غير أن ذلك النهج الاقتصادي الهجين، سرعان ما أخلى السبيل أمام تماش متسارع مع علاقات السوق الرأسمالي العالمي، تحت تأثير حدثين أساسيين، الأول هو التحدي الذي واجهته سلطة حافظ الأسد على يد الأخوان المسلمين على أعتاب العقد الثاني من حكمه، ودور البرجوازية السورية التقليدية في ذلك الصراع، وسعي الأسد، بالتالي، إلى احتواء هذه الطبقة. والحدث الثاني هو التراجع الاقتصادي في الاتحاد السوفييتي وبداية تصدع المنظومة الاشتراكية، ما قاد النظام حينها، وبالتوازي مع ذلك الحدث، إلى تسريع وتيرة التكيف عبر إصدار المرسوم رقم 10 للعام 1991. تطلب الاندماج بالسوق العالمي نمو شريحة برجوازية وسيطة "كومبرادورية"، وقد انتعشت هذه الطبقة في ظل حافظ الأسد، لكنها ظلت في قسمها الأعظم مدينية سنية.
مع ذلك، ظل الأسد الأب، حذراً بل محافظاً في العلاقة مع السوق العالمية، مخافة أن يخسر سيطرته وتحكمه بالمفاصل الأساسية للبلاد. واستقرت العلاقة بين سلطة الأسد والبرجوازية السورية على مبدأ أن تتولى السلطة تأمين المناخ الأمني (الاستقرار بالقمع) والسياسي الاقتصادي (تجاوب مدروس مع متطلبات السوق)، فيما ترد البرجوازية الدين إلى أصحاب السلطة عبر شتى اشكال قنوات الفساد.
الانفتاح الكبير الذي اقدم عليه النظام في عهد الأسد الابن، كالسماح بالمصارف الخاصة وبسوق للبورصة ..الخ، ترافق مع تغيير في العلاقة التي استقرت بين السلطة والبرجوازية السورية. هذا التغيير تمثل في كسر التوازن بين أصحاب السلطة الأمنية وأصحاب السلطة الاقتصادية، فأطلقت يد رامي مخلوف لكي يتحول إلى حوت اقتصادي يمثل امتداداً سياسياً في الاقتصاد. وتمثل محاولة مخلوف الاستحواذ على وكالة المرسيدس وانحياز الحكومة له ضد وكلائها القدماء واحدة من العلامات البارزة لهذا التحول.
خوف سلطة الأسد الابن من أن يؤدي الانفتاح إلى بروز بورجوازية سورية تشكل قوة اقتصادية تهدد سيطرة السلطة السياسية، دفع هذه إلى أن تتمدد بصورة مباشرة عبر رامي مخلوف وتسيطر على المجال الاقتصادي المفتوح، مدعوماً بأعلى مراكز السلطة السياسية، سواء عبر القوانين الاستثنائية أو عبر القوة و"التشبيح".
لم يكن غريباً أن يهتف السوريون، في المظاهرات التي خرجوا فيها ضد نظام الأسد في بداية ثورتهم، في مطلع 2011، ضد رامي مخلوف، وأن يهاجموا مراكز شبكة الهاتف الخليوي التابعة له (سيريتل) تعبيراً عن رفضهم لنظام الأسد بشقيه السياسي الأمني الطائفي، والاقتصادي "الأمني" الفاسد. يومها خرج رامي مخلوف ليقول إنه قرر التخلي عن النشاط التجاري والتفرغ للعمل الخيري، فهو لن يسمح لنفسه "أن يكون عبئاً على سورية وشعبها ورئيسها بعد اليوم". لم يلتزم مخلوف بما قاله طبعاً، بل عمل باتجاه معاكس، إذ أنشأ فرعاً عسكرياً لجمعية البستان الخيرية التابعة له. كان في هذا برهان واضح على أن مخلوف لم يكن في السوق سوى امتداد مباشر للسلطة السياسية في الاقتصاد.
يندرج الصراع الحالي ضمن دائرة العائلة الحاكمة في سورية، في إطار التحدي الأكبر المتمثل في السؤال: هل يستطيع نظام عائلة الأسد، التكيف مع المتغيرات الكبيرة التي استجرها الصراع في سورية خلال ما يقترب من تسع سنوات. هناك فاتورة اقتصادية للحرب لا بد من تسديدها، وهناك فاتورة سياسية تقول إن بشار الأسد أصبح عبئاً على النظام، أو أصبح "رئيساً ساماً" بتعبير غربي.
عجز سلطة الأسد عن دفع فاتورة مستعجلة للحرب تتراوح قيمتها بين مليارين وثلاثة مليارات دولار، كما تتناقل الصحف، دفعها إلى الاتكاء على مخلوف الذي وجد نفسه في بداية الثورة عبئاً على الرئيس، وها هو يرى الرئيس اليوم عبئاً عليه. تحويل المال العام من موقعه الطبيعي في خزينة الدولة إلى موقعه الشاذ في الحسابات المصرفية لآل مخلوف والأسد جعل الدولة اليوم في حالة عجز مالي، يضطرها إلى إعادة الاستيلاء على المال الذي سبق أن سهلت سرقته، لكن هذه العملية هي عملية صراع قد تقود إلى تفكك الدولة نفسها.
الصراع الحالي يقول إن ما يريد أن يصوره النظام على أنه انتصار ما هو إلا فشل. وإنه في الوقت الذي يتقدم عسكرياً في ادلب يتضعضع "عائلياً" في دمشق. وهذا الشقاق العائلي تعبير عن اهتراء آليات النظام في الحفاظ على نفسه. وإذا كان الصراع العسكري قد فشل في إسقاط النظام، فإنه سرع في إيصال آليات استيعاب النظام إلى حدودها القصوى. هكذا يبدو، أن آليات النهب التي حمتها السلطة في سعيها الدائب إلى التأبيد، ترتد عليها وقد تشكل لتفككها.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن