الحُسين بن عليّ (ع) دوام الحزن وتبدّل الشّعائِر

نصير عواد
nassarawad_288@hotmail.com

2019 / 9 / 10

إنّ أي مسح للشّعائِر الحُسينيّة، التي تصاعدت وتيرتها بالشارع العراقيّ، سيكشف بوضوح عن اختلاف في الممارسات والاهداف، وكيف أنها سارت على نمطٍ لا يشبه الماضي القريب. وسيكشف المسح عن فروقات هائلة في التنظيم والاخراج والتمويل، بعد ان كانت هذه الشّعائِر في الماضي القريب متوازنة مع تقاليد المجتمع وامكاناته الاقتصاديّة. فهذه الشّعائِر، التي تزداد وتتغير كل عام، صارت ظاهرة اجتماعيّة أكثر منها دينيّة، نلمسها في مجالس العزاء وتحضير الطعام وارتداء الملابس. إن تصاعد الشّعائِر في العقدين الأخيرين جاء كردّة فعلٍ على أعوام القمع السياسيّ الذي تعرض له المجتمع العراقيّ نهاية القرن العشرين، وبالذات الطائفة الشيعيّة، تجلى في بعث شعائر قديمة (مواكب السقاءين) واستلاف شعائر جديدة من ثقافات موازية لا تخلو من صور قاسية كـ(المشي على الجمر وتتطين الجسد). حظيت على أثر ذلك التصاعد مظاهر التديّن الشكلي وتجارة السيوف وصناعة السلاسل والثياب السود والشِعر الشعبي "الحسينيّ" على دفعة قوية في النمو.
إنّ تزامن الاحتلال وسقوط الديكتاتور وتوسع المد الطائفيّ بالعراق كان له أكثر من مغزى، فالجغرافيا السياسيّة كانت لتكون أكثر وطنية لولا ان المحتلين، والعراقيين الذين جاؤوا معهم، أرادوا غير ذلك. اعوامٌ قليلةٌ مرتبكة، أربكت في طريقها الكثير من القيم الاجتماعيّة والدينيّة التي كانت سارية بالبلد. كان فيها المواطن العراقي، الخارج توا من طاحونة الحروب والحصار، بحاجة إلى العمل وترمم مفردات الاستقرار والعائلة، وبناء نموذج جديد من التفاعل الاجتماعيّ وشكل الدولة، إلا أن دستور "بريمر" فرمل تطلعات العراقيين واسس لحكومة مكونات، ذات بعد طائفيّ، انشغلت بدعم القبائل والطوائف والتراثات القديمة، أكثر من دعمها لبناء الدولة الوطنية وتلبية حاجات الناس الملحة في العمل والتعليم والصحة. افرز ذلك واقع مغايرا جدا، تراجع فيه دور الاحزاب الوطنية العريقة، وتقدمت المشهد احزاب جديدة ووجوه جديدة. يومذاك (عام 2003) كان المواطن العراقي بحاجة إلى جرعة من الحزن والاحتجاج للتعبير عن سخطه، فأعوام الحصار والحروب التي غيبت البسمة عن الوجوه جعلت الشباب ينتظرون بفارغ الصبر الخروج إلى الشارع وكسر رتابة حياتهم، فوجدوا بمواكب الحزن الحُسينيّة والاستعراضات الملحميّة والمشي إلى كربلاء عزاء لا بأس به.
في الحقيقة الشّعائِر الحُسينية، التي هيمن عليها طابع المسرح الملحمي في الازياء والاضواء والرموز والسير وحركات الأيدي وتوزيع الأدوار ومشاركة الجمهور، عنوان واسع لكثير من انشطة الطبخ والاستعراض وكتابة القصائد وحرق الخيام ولطم الصدور وشج الرؤوس وضرب السلاسل، يبقى فيها الحزن والثياب السود هما الخلفية الثابتة للوحة مأساة آل البيت(ع). ويمكننا القول انه باستثناء الثياب السود، لون بني العباس، فإن الشّعائِر الحُسينية في حالة تبدّل مستمر، ولا يمر عقد من دون ظهور شعائر ورموز جديدة. في الماضي القريب كانت الشّعائِر الحُسينيّة متوازنة مع تقاليد المجتمع، شعيرة مقبولة اجتماعيّا وذات (طبيعة معنويّة) كــ"اللطم" وأخرى صعبة القبول كــالتطبير "شج الرؤوس" والزنجيل " ضرب الجسد بالسلاسل" ولكن بعد سقوط الديكتاتور حدث تغير لافت في الشارع العراقيّ وفي إقامة تلك الشّعائِر، خصوصا في المناطق الفقيرة وعند الشرائح التي عانت زمن الديكتاتور، تزعم ذلك العراقيين الذين عادوا من إيران بعد تجربة مؤلمة في التهجير والأذلال. هؤلاء جعلوا من الشّعائِر القديمة أكثر تنظيما ومرونة، اعطوها طابعا استعراضيا مبهرا، اختلفت فيها الرموز والأضواء والرايات وسير المواكب بالشارع، فبعد ان كان أصحاب" ضرب السلاسل" يسيرون بخطين وسط الشارع صارت أكثر تنظيما، تتقدمها عربات مضيئة، وادخلوا عليها الباجات والرايات والرموز الخضر، بل حتى (ركضة طويريج) التي كانت تسير بعشرات الالاف وببضعة رايات سود وخضر وصل تعدادها هذا العام إلى ما يقار المليونين من البشر، يحملون أكثر من (60) ألف راية بكافة الألوان والاحجام، في شوارع خربة وضيقة، الأمر الذي يهدد حياة المشاركين. المهجّرين الذين قَدِموا من إيران، صحبة أحزاب الإسلام السياسيّ، قدّموا انفسهم باعتبارهم حماة الطائفة وصناّع الشّعائِر، ولذلك لم يجهدوا انفسهم في إيجاد تفسيرات دينيّة وتاريخيّة لمظلوميّة آل البيت، ولم يحتاجوا الكثير من الوقت لإعادة تنظيم الشّعائِر القديمة التي مُنعوا منها زمن الديكتاتور، وكذلك لم يجدوا سببا يمنعهم من نقل شعائر جديدة حملوها معهم، ولم يواجهوا صعوبات في صنع حضورا وتراثا موازيين للشّعائِر الجديدة، فالحسينيات انتشرت في الاحياء السكنية، والاحزاب ذات الصبغة الطائفيّة هيمنت على الشارع ووظفت المواكب والشّعائِر في عملية كسب اتباع جدد لأحزابها. والاهم من ذلك هو ان الفقراء الذين يبحثون عن الخلاص كان يمكن بسهولة اقناعهم ان شج الرؤوس وادماء الظهور شعائر من صلب الدين الإسلامي، وإنها باب من أبواب سفينة النجاة، لا يفوز بها سوى المواطن الصالح.
إقامة الشّعائِر الحُسينية تبدو للوهلة الاولى احياء للتقاليد التي كانت معلّقة زمن الديكتاتور، في حين ان إعمال النظر بالتفاصيل الصغيرة (الرايات، الشارات، الشعارات، الأضواء، تنظيم المواكب، الاستعراضات...) يشير إلى انها مشت إلى ابعاد غير مألوفة، وأنها تضمنت مفردات جديدة على الشارع العراقي جرى نقلها من ثقافات أخرى، كالسير على الجمر وتطيين الوجوه والاجساد. بل حتى شعيرة "اللطم" التي كانت مقبولة اجتماعيّا صارت استعراضية واستعانت بالحركة وبالألحان العراقيّة القديمة وبثقافة الهيب هوب "اغاني الراب الصاخبة" ثم أطلقوا عليها تسمية شيعية (الراب المهدوي). ورغم الفوضى الحاصلة فأن أية دعوة لعقلنة الشّعائِر سيفهمها المخالفون على انها إساءة لأبي الشهداء(ع) وأنها دعوة لتثبيط همم الشيعة عن استذكار آل بيت النبوة. الامر الذي انعكس على فقهاء الشيعة، في جواز شعائِر وفي صمتهم على شعائِر أخرى.
إن استلاف التقاليد والشّعائِر من ثقافات بعيدة كان، في أحد وجوهه، تعبير عن انقطاع اجتماعيّ تعرض له المهجّرون قسرا. صنع ذلك بداية الامر غرابة في الشعائر الجديدة، بدت كحبات المسبحة، لا يربطها سوى خيط الحزن الممدود في الذاكرة الاجتماعية. ففكرة الحزن العميقة خففت من التصادم المحتمل بين التقاليد القديمة والشّعائِر الجديدة، تجلى في انتشار الشّعائِر في مناطق رخوة وفقيرة عانت من ظلم الديكتاتور. الواقفون عند الرصيف لا تفوتهم أوجه الاختلاف بين الشعائر، تجلى في استنكار بعضهم للشعائر الدخيلة، كالمشي على جمر النار والتقلب بالوحل، في حين انبهر بها آخرون ووجدوا سهولة في ربطها بحادثة احراق خيام الامام الحسين(ع) بعد استشهاده، لتصبح جزء من تراكم الحزن المخزون في الذاكرة الاجتماعيّة. ولكن في الحالين لم تتبلور الحاجة للتشكيك والبحث في اصول هذه الشعائر. فلقد كان التحوّل السريع الذي حدث في بنية المجتمع العراقي، بعد تدمير مؤسسات الدولة وبلبلة الحياة السياسيّة، قد أدى إلى إضعاف قيم وتقاليد اجتماعيّة، وظهور أخرى. في دلالة واضحة على ان تراخي المجتمع العراقيّ في الحفاظ على تقاليده وفي استحداث قيم جديدة ساهم كذلك في الأزمة، وليس فقط ظلم الديكتاتور والاحتلال الامريكي.
إنّ البحث عن الكيفية التي نشأت وانتشرت من خلالها الشّعائِر الدخيلة توضح لنا ان الاعوام الاوْل لسقوط الديكتاتور كانت هي الفترة الاخصب لظهورها، وان اتساع نشاطها زامن تشكّل الاحزاب الطائفية الجديدة، عدّه قادتهم يومها جزء من قوتهم وانتصارهم. بمعنى انه لا يمكننا فهم الحضور الهائل للشّعائِر الحُسينية بعيدا عن الصراعات المرتبطة بالعملية السياسيّة، الطائفيّة، في عملية تخادم مكشوفة النوايا. جزء من مضمون الشّعائِر شكّل دعم لشرعية الساسة الجدد واعطى الانطباع بأنه هذا هو العراق الجديد، وجزء منها إعلان عن قوة الطائفة وسط تنوّع مجتمعي قلق، أنتج ذلك ميلا للطائفة لا للوطن. فبعد ان كانت الشّعائِر، في النصف الثاني من القرن الفائت، ذات طابع اجتماعيّ-دينيّ تعطي الاحساس بالبساطة والتلقائية، غلب عليها بداية القرن الحالي الطابع الطائفيّ-الحزبيّ. وبعد إن كانت الشعائر تتمحور حول معركة الطف بكربلاء توسعت فور وصول العراقيين من إيران وتم استحداث مناسبات، مموّلة، تغطي مقتل وجرح وتسميم كل افراد آل البيت(ع)، وصار المتطرفون الشباب يخرجون بمناسبة أو دون مناسبة في شوارع المدن، طبولهم وابواقهم تشق نوم الاطفال والشيوخ والمرضى، تارة للاحتفال بمناسبة دينية، وتارة للتدريب والتهيئة لمناسبة قادمة، وثالثة لاستعراض العلاقات والرايات، ورابعة تخرج الطبول أكثر من مرة بسبب اختلاف الرواة في تحديد يوم وفاة أحد الأئمة، حتى ظن المواطن ان جميع المناسبات هي مناسبات "دينيّة" وعطل رسمية تتوقف فيها المدارس والمعامل والدوائر الرسميّة. وتساوقا مع ذلك صارت ظاهرة اطالة اللحى ولبس الثياب السود، التي كنا نراها عند وفاة أحدهم أو في شهر عاشوراء، رمز لكل ما هو شيعي، يلبسونها طوال العام، اشبه بالزي الموحد لأبناء الطائفة.
لا نأتي بجديد في قولنا ان المسلمين يرون بالقرن الاول للهجرة قرنا ذهبيا، وأن ما حدث للحُسين بن علي(ع) مأساة حقيقية، ولكن المختلف في الامر عند الشيعة الاثنا عشرية انهم، إضافة إلى ذلك، يرون بالظلم الذي وقع على الحُسين بن علي (ع) لم يقع على غيره عبر التاريخ، وأن واقعة الطف بكربلاء (10 محرم 61ه) التي قُتل فيها حفيد النبي وأهله ومناصريه، هي أم الحوادث وأنها خارج حدود المكان والزمان. والادهى من ذلك انهم يرون في إقامة الشّعائِر أصل دينيّ، مع ان اغلب الشّعائِر الحُسينية التي تُمارس في شهر عاشوراء أصلها حديث او مستلف من ثقافات واديان أخرى، وان مدينة كربلاء المقدسة ليست منبع كل الشّعائِر التي نراها اليوم. ففي كتابه (التشيع العلوي والتشيع الصفوي) يقول المفكر الإيراني "علي شريعتي" (اقتبسوا بعض مظاهر الاحتفالات الطقوسية التي يمارسها المسيحيون الارثوذكس في أوربا الشرقية، منها تلك التي تعيد تمثيل حادثة صلب المسيح، ونقلت تلك الطقوس إلى إيران وأذربيجان والعراق، بعد ان أخذت صبغة شيعية).
إن الحديث المعاد والمتكرر عن انتشار الشّعائِر، وتزايد خطرها في آن، ليست مبالغة منّا. ولو ازحنا القشرة المقدسة عن الشّعائِر الحُسينية سنجد بنيتها الاساسية صيغت من المعارك والثارات والولاء والتحريض والحزن، رسمت حدود مذهبية في عراقٍ هش، ودعمت الجماعة لا المجتمع. فهذه الشّعائِر التي خرجت من رحم الاحزان والازمات تحوّلت إلى ادوات شحن طائفيّة، صارت شاهدا على قوة الطائفة وضعف الدولة، رافق ذلك استحواذ احزاب الإسلام السياسيّ على موارد الدولة بشكل مخز وغير مسبوق. صار فيها من الطبيعي رؤية المواكب الحُسينيّة تسير زرافات في مدن خربة وشوارع محفّرة غير مناسبة لإضفاء القداسة عليها.
إنّ بضعة اعوام (2003 -2019) ليست بالفترة التاريخيّة الطويلة التي تسمح بتكوين فكرة مكتملة عن الشّعائِر الحُسينية، الدخيلة، التي انتشرت بشكل مبالغ فيه بالعراق، ولكن لا بأس من السير مع تشكّل الظاهرة ووضعها في سياقها التاريخيّ والبحث في علاقتها بما يجري، بعد ان انتهى المشروع الطائفي بالعراق إلى اضعاف الروح الوطنية وارتخاء القيم واختفاء الطبقة الوسطى وتراجع الانتاج. فكثير من هذه الشّعائِر تداخلت مع تقاليد اجتماعيّة ما زالت قوية، لا يمكن الغائها بقرار فوقي، ولا يمكن للجنة منتخبة أو مؤسسة محايدة العمل على تنقيتها وقياس درجة انسجامها مع تقاليد المجتمع، فهي عملية حراك على أرض الواقع، قد تنتعش في الأزمات، وقد تنحسر في انتشار التعليم وانشغال المواطن بمفردات العمل وهموم الحياة اليومية.












https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن