تقييم النفس في الثقافة الإسلامية (1-2)

ميثم الجنابي
m-aljanabi@mail.ru

2019 / 9 / 5

تبرهن تجارب الثقافات عموما على حقيقة جلية تقول، بان تقيم النفس والآخرين هو جزء من صراعها الذاتي. وان كيفية تبلوره في المقدمات المرجعية الفكرية عادة ما يؤدي إلى تنوع الاختلاف وتشعبه، خصوصا حالما لا يقر "بإجماع" مقبول من جانب الوعي النظري العام على تقييم التاريخ المنصرم.
وقد كانت تلك وما تزال إحدى النواقص الديناميكية في التاريخ الإسلامي، والتي لم يستطع التحرر منها الوعي الثقافي العربي بشكل عام والسياسي بشكل خاص. وهذا بدوره ليس إلا النتيجة المرافقة لعدم انتقال الكينونة العربية إلى مصاف المرحلة الأعلى التي تذلل بقايا المرحلة الدينية ووعيها اللاهوتي.
وقد ارتبطت هذه الحالة الحرجة والفاعلة في الوقت نفسه بالنسبة لتنشيط الوعي الباحث والناقد في تاريخ الإسلام بما يسمى بالفتنة الكبرى ولواحقها. فقد كانت هذه الفتنة الفعل والنتيجة التي جزأت الصراع وطورته في اتجاه ظهور الفرق السياسية الدينية الكبرى في تاريخ الخلافة ووعيها التقييمي. آنذاك بدأت عفوية الأحكام الأولية تفسح المجال أمام العقائدية المؤدلجة، التي كانت تتضمن في أعماقها استمرار تقاليد الهجاء والذم. غير أنها شكلت المقدمة الضرورية لتطوير محتوى الاتهام برفعه إلى مصاف الضرورة المقدرة. وقد ظل الوعي التقييمي اللاحق أسير هذه الازدواجية المرهقة للفكر ورجاله. لكنهما في الأغلب تقبلاها إما بفعل تقليدية الوعي أو بفعل تقليدية التسمية. وفي كلتا الحالتين وضعتا قواعد تشذيب الأحكام أو ابتذالها حسب "عالم تقييمها الروحي" للظواهر. إذ لم تبرز المعارك الأولية المرتبطة بقضية التحكيم، سوى تسمية المحكمة، التي كانت تتضمن رفض التحكيم. ذلك يعني أن تقييم الاتجاهات، ظل إلى جانب تسميات الخوارج يحتوي على تقيم ما معين. بينما سيعطى لمعنى الخوارج مضمون المعارضة الباطلة في وقت لاحق. في حين ظل الخوارج يجدون فيه تعبيرا إيجابيا عنهم. ومن الطريف هنا الإشارة إلى التحديد الذي قدمه ابن قتيبة للجديد في الشعر، في مقدمة كتابه (الشعر والشعراء) عندما كتب يقول، بان "كل شريف خارجيا في أوله" . والشيء نفسه يمكن ملاحظته لاحقا في ظاهرة تطور التقييم الذاتي للاتجاهات والمدارس الفكرية والسياسية. وينطبق هذا أيضا على كافة الاتجاهات الأخرى.
فتسمية الروافض التي ألصقت بالفرق الشيعية الأولى كانت تتضمن تقيما سياسيا وعقائديا لها، كما كانت تحتوي على أبعاد سياسية وعقائدية في مواقفها تجاه مختلف القضايا. ولم يكن ذلك وليد الصدفة. فقد احتوى هذا التقييم على عناصر إدراك عميق للفكرة الشيعية بشكل عام وأولوية العنصر السياسي فيها. والشيء نفسه يمكن قوله عن المعتزلة وغيرها من فرق الإسلام الكبرى. فهي تسميات تضمنت على الفعل الخارجي ومظاهره. ولكن حالما تصبح هذه العناصر "الخارجية" و"الظاهرية" الناشئة في الأغلب من تأثير الأفعال العفوية والمصادفة أسلوبا للتقييم العام، فإنها تصبح مع مجرى تطور الوعي التجريدي والصراع الفكري والسياسي، أما جزءا من عناصر الممارسة العلمية والعملية، أو يافطة خارجية مثقوبة لا نرى فيها غير فضاء الخلفية الأكثر بروزا وجاذبية. وفي كلتا الحالتين أدى ذلك إلى اغتناء التقييم الفكري في مجرى احتكاكه بالاتجاهات المعارضة. لذا لم تعد الخوارج خوارجا وحرورية ومحكمة، بل ومارقة وشراة. كما لم تعد هذه الأسماء ألقابا ظاهرية، بل أصبحت مكونات أساسية لعناصر التقييم الفكري نفسه.
كما لم يجد وعي "أهل السنة والجماعة" حرجا من أن يبتدع لنفسه "البدع"، التي اتهم بها المخالفين له والمعارضين، من خلال وضع الأحاديث الكاذبة على لسان النبي محمد ومختلف "الآثار" من أقوال السلف الصالح وأفعالهم. حيث يظهر الحديث المنسوب للنبي محمد "سيخرج من ضئضئي هذا الرجل قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية". وكذلك الحديث الموضوع، الذي حاول إبراز "الزيف" في ورع الخوارج وانعدام الإيمان الخالص عندهم بكلمات "تحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم وصوم أحدكم في جنب صومهم ولكن لا يجاوز إيمانهم تراقيهم". بل ونرى "الإجماع" عليها في مختلف كتب التاريخ والأدب والسير والملل والنحل. فنرى ذو الخويصرة، الأب الروحي "للمروق" الديني يظهر مرة بوصفه رجلا أسودا شديد بياض الثياب، وفي حالة أخرى يظهر بهيئة رجل مضطرب الخلق، غائر العينين ناتئ الجبين. ومن هنا "تناسب" كلماته مع مظهره. ففي الحديث الأول يطلق عليه النبي كلمات "سيكون له ولأصحابه نبأ" وفي الثاني كلمات "سيخرج من ضئضئي هذا الرجل". بينما نعثر في صيغة ثالثة لشخصية ذي الخويصرة على صورة رجل مدافع عن قسمة الحق، متهم النبي محمدا بعدم العدل، بحيث يصدر النبي بحقه حكم الموت، الذي لم ينفذه الصحابة الكبار مثل أبو بكر وعمر، لما شاهداه من ركوعه وسجوده. وعلى خلفية هذه الصورة تظهر الإضافة الجدية للحديث الموضوع نفسه بكلمات "لو قتل هذا ما اختلف اثنان في دين الله".
وتظهر هذه "الحادثة التاريخية" المفتعلة قضايا غاية في التشعب من حيث إشارتها إلى مراحل وأساليب وأشكال إدراك ومعاملة الاختلاف الفكري والاجتماعي والسياسي. وبالتالي المواقف العملية والتقييم الفكري والعقائدي. حيث نعثر فيها على تعايش المواقف الإيجابية والسلبية، كما هو الحال على سبيل المثال، في الموقف من أغلب الحركات. إذ نرى في الخوارج أيضا قوة جريئة وحازمة تدعو للعدل، وفي نفس الوقت هي مصدر الخطر اللاحق في تأجيج الخلاف والفتنة. وهي تقييمات تكشف عن وجهها العقائدي والأيديولوجي. من هنا عدم اهتمامها بالسبب، أو على الأقل إنها لا تعير اهتماما له، لأن الفاعلية فيها ولها تعود للغة الإدانة والاتهام. وأدى هذا بدوره إلى إثارة رد الفعل المضاد لها بهيئة الدفاع عن النفس وإعادة تقييمها استنادا إلى وعيها الذاتي والى حقيقة ما تسعى إليه وتريده. ولعل تقييم الخوارج لأنفسهم بالشراة من بين أشدها وضوحا وقوة. فهو تقييم يعكس فاعلية ما أشرت إليه قبل قليل. إذ لم يستند الخوارج إلى ممارسة أساليب الوضع والاختلاق "للحديث" و"الآثار"، بل استندوا إلى الواقع والمثال، على الأقل بالصيغة التي استوعبوها هم، التي تطابقت مع أفعالهم واستجابت لها. حيث حاولوا البرهنة على إنهم الشراة الذين أشار لهم القرآن بقوله "ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضاة الله" . وهو برهان استمد قوته من قدرة الخيال الهائلة على التأويل، التي تحول المثال إلى نموذج مستعد على التجسد الفعلي بمعايير لا تتحكم به مقولات الزمان والمكان. وأدى ذلك إلى أن يتداعى النص القرآني ليتحول من "كلام الله القديم" إلى نص قابل للتأويل السياسي المعاصر. وجعل ذلك الخوارج قادرين على أن يطلقوا على أنفسهم ما يشاءوا من أسماء وصفات "قديمة" مازالت أفعالهم تستجيب لحقائقها وتسعى لتمثلها أخلاقيا. ولعل مواقفهم من تعظيم ابن ملجم، قاتل علي بن أبي طالب، نموذجا لذلك. إذ جعلوا من الآية التي تتكلم عمن اشتروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله، التي تشير مصادر التفسير وكتب التاريخ الإسلامي إلى أنها "نزلت" حول صهيب، "نزولا" على ابن ملجم أيضا.
وهي ظاهرة مرتبطة بواقع كون الوعي التقييمي عادة ما يتجاهل ويتناسى ويتغافل حيثيات التاريخ الملموسة في مجرى صراعه التاريخي الملموس. من هنا سعيه لنقل المتسامي والمقدس إلى ميدان الجميل والقبيح. وهو وعي يعاني من مفارقة الوعي نفسه، لأنه وعي مهموم بالصراع والمواجهة ومنهمك أيضا في تمثيل المادة التاريخية بكل حيثياتها الممكنة، دون أن يعي ملموس أفعاله الخاصة. وهي عملية عادة ما يتداخل فيها الماضي والمستقبل في الحاضر، والمطلق والنسبي في الوعي، والمثال والواقع في العمل. وهي حالة تشبه حال من لا يدرك قيمة الحركة في يديه عندما يكون منهمكا في استرقاق السمع لضرباتها.
وتبرز هذه الصفة المميزة لحركات الخوارج أيضا في استعدادها السريع للمعركة وبحثها الدائم عنها، بحث سعوا لحرق كل انسيابية الأهداف الدافئة في مراجلها. وهو أمر يفسر لنا سر الإنسانية "الهمجية" للخوارج، كما نعثر عليه في أسماء الشراة والمارقة. وهي أسماء تحتوي على تقييم مزدوج، ظلت فعاليته مؤثرة على امتداد زمن طويل. وقد حصلت الشيعة (الروافض) والخوارج على قسطهما الأكبر منه, مما يشير بدوره إلى الأبعاد الاجتماعية والسياسية والعقائدية في مواقفهم وتقييم الآخرين لهم.
وقد ميز هذا التقييم الحاد والشامل مراحل وجودهما الأول. بينما ساهم استمرار صراعهما مع السلطة والهزائم، التي تعرضوا لها إلى توليد أسلوب التعامل غير المباشر مع قضاياهم المباشرة، مما أدى إلى نشوء وتكون عناصر في تركيبتهما الداخلية فسحت المجال لاحقا أمام انعطاف الوعي الذاتي والتقييم أيضا. فقد كسرت ممارسة التقية سورة التحدي وحولته إلى قناة التأمل الذاتي. ذلك يعني أن الممارسة السياسية، التي صنعت في البداية وهذبت إفرازات الواقع وبالأخص وحدة وصراع العناصر الاجتماعية والسياسية والعقائدية، أخذت بإخماد العاطفة المتآكلة بسبب الهزائم "الجسدية" لممثليها. وترتب على ذلك سريان الهدوء التاريخي للعناصر السياسية في السياسة، مما أدى إلى ظهور الإقرار بالاختلاف في فهم العقيدة واستيعابها. ولا يعني ذلك سوى أن عالم السياسة مازال مستمرا ولكن في عالم الفكر. أما النتيجة الطبيعة لذلك فهو ظهور بوادر التقييم العقائدي والفكري.
ولم تكن هذه البوادر معزولة عن الصراع. غير أن الصورة الجديدة، التي لم تخمد فيها بعد حماسة الماضي أخذت تتأطر بملامح الدفاع عن المبادئ ومحاولات فهمها النظري. وشكلت هذه العملية المزدوجة من تياري التبرير والتنظير المقدمة الضرورية للتصنيف العلمي اللاحق. لكن العملية المزدوجة هذه لم تظهر بصورة خاطفة. إذ تورد المؤلفات والمصادر التاريخية جملة من الروايات والأحداث والمفاهيم والممارسات والتقييمات والمواقف عن مختلف أطراف الصراع الاجتماعي والسياسي والعقائدي. وإذا كان ذلك جليا في ميدان السياسة، فلأنها الميدان التي تتضح فيه الأقوال والأفعال بسرعة بالغة. لان النتائج تحكي ما كان مضمرا. وهو واقع صوره الأشعري بدقة عندما كتب عن سلوك عمرو بن العاص في رفعه المصاحف على الرماح، قائلا "كأنه ينظر إلى الغيب من وراء حجاب رقيق" . بمعنى تبين المغزى الفعلي لبلوغ مأربه السياسي عبر استعمال الدهاء والمخادعة. أما في عوالم المثال الأخلاقي، فان الفعل السياسي كثيرا ما يؤدي إلى نتائج معاكسة. وذلك لان استشراف المستقبل يجري على الدوام من خلال يقين الماضي والتمسك به. وهي عملية صراع عادة ما تذوب في الحاضر، وبالتالي يصعب عليها رؤية حقيقة ما يجري فيه، بفعل استحواذ فكرة المستقبل، التي تطابق بين الحقيقة والسلطة والمثال، التي تغيب الماضي والمستقبل في لحظة الحاضر، بوصفها ترديد جديد لما في الأزل!! ومن هذا المنطلق يمكن فهم البروز المتصاعد لقضايا القضاء والقدر والإيمان في مراحل الخمود الأولي للصراع السياسي. حيث نرى القائد الخارجي شبيب بن يزيد الشيباني (ت - 77) يردد في اللحظات الأخيرة قبيل موته وهو على جسر الدجيل بعد أن قطعت حباله كلمات "ذلك تقدير العزيز العليم" .
كل ذلك يشير إلى أن تقييم النفس هو تقييم شخصي، لأنه يجري في صراع، غير أن ذلك لا يعني خلوه من الصدق والاقتراب من تصوير الوقائع التاريخية كما هي. من هنا أثره اللاحق في إثراء الفكر عند الأتباع والأعداء. فقد أبدع سلوك الخوارج المستند إلى مبدأ وحدة الإيمان والعمل في تقييم النفس والآخرين موقف التكفير، الذي أصبح بدوره عنصرا جوهريا في التقييم. غير أن التكفير لم يتحول إلى مبدأ شامل لجميع فرق الخوارج، كما هو الحال عند النجدية. والشيء نفسه يمكن قوله على الفرق الكبرى الأخرى، التي كان التكفير فيها ضعيفا كما هو الحال عند المعتزلة أو مستحيلا كما هو الحال عند المتصوفة والفلاسفة. ومع ذلك سرت عدواه، وإن بمستويات متباينة، إلى أغلب الاتجاهات السياسية والفكرية، وخصوصا الشيعة الرافضة وأهل السّنة والجماعة، بينما ضعف عند الاتجاهات الأخرى كالمرجئة والمعتزلة وتلاشى عند المتصوفة والفلاسفة.
فإذا كان التكفير عند الخوارج مبني على مبدأ علمي ـ عملي، فانه مبني عند الشيعة الرافضة على فكرة "النص الإلهي". مما يعني هيمنة العقائدية الجارفة في تقييم النفس والآخرين. لكنها شأن كل عقائدية "رعناء" في العلم والعمل عرضة للخضوع المفاجئ أمام الحركة الدائمة. وهو واقع يمكن ملاحظته في التثليم البطيء والمتناقض لحدة الاتهام العقائدي، كما هو الحال عند الفرقة السليمانية ـ الجريرية، التي ثلمت شوكة التكفير الأولية، دون أن تكسرها كليا. إذ أبقت عليه في موقفها من الماضي وشخصياته، كما هو الحال في مواقفها من عثمان بن عفان. وسوف تدفع الزيدية الصالحية، اتباع الحسن بن صالح بن حي (ت – 168) والابترية، اتباع الابتر وكثير النوى (ت- حوالي عام 169) هذه الممارسة إلى نهايتها المنطقية وذلك بالتوقف عن ذم ومدح الأعداء .
لم تكن هذه المواقف معزولة عن حدة الصراع الاجتماعي وأسلوب القهر الجسدي والروحي والسياسي والفكري الذي مارسته السلطة الأموية ضد معارضيها. فقد أدى هذا القهر إلى إفراز ممارسة التقية الاجتماعية والسياسية والروحية كما هو الحال عند الشيعة وجزئيا عند الخوارج (الفرقة النجدية)، كما افرز مبدأ الإرجاء، الذي احتوى في أعماقه على حرية الفكر والجبن السياسي، دون أن يعطي لأي منهما أولوية مطلقة. أما التأويل المعاصر لها، الذي حاول أن يجعل من الإرجاء تمثيلا لحرية الفكر، ومن المرجئة ممثلين للفكر الحر الحقيقي، فانه لا يعدو كونه صيغة مقلوبة لرفع الجبن السياسي إلى مصاف التسامح الحقيقي. إذ من الصعب الحديث هنا عن تسامح حقيقي في وقت لم تتبلور فيه بعد "المذاهب الرسمية" وصراعاتها المتشنجة. حينذاك فقط تصبح فكرة الإيمان الباطني والدعوة إليها تجسيدا للتسامح الشامل. وهي فكرة لم يجسدها حينذاك بصورة متجانسة سوى الفلاسفة والمتصوفة. وذلك لان قضية التسامح لم تتعلق بوعي المرجئة أنفسهم ولا ببواعث أفكارهم ومقالاتهم، بقدر ما تعلقت بالواقع التاريخي وصراع قواه السياسية وكيفية استيعاب المرجئة له. إذ لا تعطي لنا المعلومات المتوفرة في كتب التاريخ والملل والنحل إمكانية الحديث عن حرية فكر حقيقية عند المرجئة، بقدر ما أنها تشير إلى ما يمكن دعوته بالمساومة الحرة في سلوكها. فالمساومة يمكنها أن تكون خيرا وشرا، أما الحرية فإنها إبداع اللامتناه في الكينونة التاريخية للأمم والثقافة. وقد كانت المرجئة حصيلة هذا التناقض ومحصورة فيه أيضا. وجعلها ذلك تقر بالظلم في حين وتنتفض ضده في حين آخر. فحرية الإرادة ليست قادرة على أن تكون عند بعض من يدعي تمثليها سلاح المعركة الدائم، كما أن القضاء والقدر (الجبر) لا يعيقا على الدوام إمكانية إدارة الصراع.
وبغض النظر عن التأويلات الممكنة هنا، فان المهمة لا تقوم في دراسة المرجئة بشكل عام وخصوصية آرائها وتأثيرها اللاحق على جدل الفرق وصراعها الفكري والسياسي، بل الإشارة إلى مساومة المرجئة الحرة. إذ استطاعت إبداع أسلوب جديد في تقييم الاتباع والأعداء، عبر نقله إلى ميدان الروح. بهذا تكون قد ثلمت جزئيا أحرف التكفير الناتئ في خاتم القهر الفكري والاتهام العقائدي.
وشكلت آراء القدرية الأوائل، الصيغة الفكرية الجديدة لمعارضة أيديولوجية التكفير السياسي والعقائدي. حيث مثلت من الناحية التاريخية نفيا لها من خلال وضعها المقدمة العقلانية الأولى لظهور المعتزلة، وبالأخص لمبدئها عن المنزلة بين المنزلتين. فقد سلكت في تقييمها للقوى المتصارعة سلوكا مستقلا، وقدمت نموذج "التعالي" عن الانصياع إلى الاتهام المتبادل والأحكام الجازمة في تقييم النفس والخصم، وجسدت إمكانية التباين والخلاف في الأحكام العقلية ورفض الإجماع كمقياس للحقيقة. إلا أن ضعف هذا المبدأ كان مرتبطا بتدخل الدولة في شؤون المفكرين وثقل المصالح الإيديولوجية للسلطات والفرق. حقيقة أن تدخل الدولة لم يؤد إلى صياغة منظومة فكرية. وذلك لان المنظومات الفكرية هي على الدوام حصيلة تطور عناصرها الخاصة، التي يشكل الموقف من السلطة أحد عناصرها لا كلها. ذلك يعني أن الدولة تتدخل على الدوام في شئون الفكر، لكن المقصود هنا هو تدخلها "السافر". وهو تدخل لا يتطابق من حيث محتواه مع خرق الحقيقة أو تشويهها. إذ يجوز أن تلتقي آراء المفكر مع مصلحة السلطة ونظامها السياسي، أو حتى مع رموزها وشخصياتها الكبرى. إضافة لذلك إن لهذه العلاقة جوانب عديدة مرتبطة بتنوع مستويات ونماذج التقييم منها مثل التقييم التاريخي والعلمي والسياسي والفكري. وهو واقع لا يفترض بالضرورة تطابق هذه المستويات والنماذج، كما لا يستدعي إهمال أحدها لحساب الآخر. إذ لا ينبغي النظر، على سبيل المثال، لواقع خرق المعتزلة لحقيقة مبادئهم عندما أيدوا المأمون في أساليبه تجاه المعارضة الفكرية، وبالأخص أسلوب "المحنة"، من زاوية الأحكام السياسية أو الأيديولوجية وغيرها من الجوانب، وذلك بسبب تداخل الفكر والسياسة وتشعبات لا تحصى فيها.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن