الجينات الثقافية

مهدي القريشي
nah-----------------dir-----------------ay2@yahoo.com

2019 / 9 / 3

نجح علماء أمريكيون في تعديل جينات بشرية لإزالة طفرات جينية تُسبِّب قصور في القلب لدى الشباب الاصحاء حسب تقرير لصحيفة الغادريان البريطانية ، وتعمل تكنولوجيا ( كريسبر-كاس 9) مثل مقص للجزئيات تتيح التخلص من الأجزاء غير المرغوب فيها لتحل محلها اجزاء من الحمض النووي الوراثي . لكن علماء الوراثة سيجدون صعوبة في تعديل بعض الجينات او خلق أجنة بمواصفات بعينها . ورغم ما فاضت به هذه المرجعيات من علم فأنا لنا الحق أن نضيف له قناعات اخرى
قد تكون في قابل الأعوام من المسلمات أو تكون المهاد لنظرية جديدة نغني بها العالم ، مع العلم ان معظم الاكتشافات العلمية بدأت بنظريات او تصورات غير قابلة للتحقيق . ففي أحيان كثيرة تقودك مخيلتك الى أماكن يصعب الوصول اليها ، المخيال يقرب البعيد ويلين الحديد ويزوجك وانت العاجز .
الجينات الثقافية قد يكون مصطلحاً جديداً وغير متداول لحد اللحظة لكنني استخلصته او استنتجته من خلال تجاربي ومشاهداتي الحياتية ، خاصة مع الذين وِلِدَ آباؤهم وأجدادهم في الأرياف وقد فرضت على هؤلاء الآباء والأجداد ، الجزء غير الواقعي من أخلاقيات القرية المتمثل بثقافة الانحياز للقبيلة بدون الرجوع الى العقل والامتثال القسري لتطبيق أوامر الإقطاع وقد استعان الإقطاع ببعض المحسوبين على الدين لغرض ترويج ثقافة تناصر وتتموسق مع أوامر وطروحات سطوة الإقطاع وإيهامهم بان هذا هو المقدس وبث روح التعصب القومي او الديني او المذهبي وبالتالي العمل على تجهيلهم ،وإبعادهم عن كل ما يمت للمدنية من افكار بصلة لغرض التجهيل والتبعية . هذه الممارسات سلبت من الفلاح انسانيته بعد ان لحق به حيف كبير مما ساعده على التفكير في الهجرة الى المدن وخاصة بغداد .
الأبناء الذين ولدوا في بغداد بعظهم دخل مدارسها وكلياتها وتبادلوا الثقافة مع السكان الأصليين في المدينة وخبروا سلوكياتهم وكيفية ممارستهم للحياة الاجتماعية والمدنية وانخرط معظمهم خاصة المتعلمي في المنظمات اليسارية ، وقد وفرت لهم المدن الكثير من المتنزهات والحدائق العامرة بالورود ودور السينما صالات المسارح والمكتبات وهذه الأخيرة منحتهم مئات العناوين من الكتب الادبية والثقافية والفنية والسياسية وغيرها الكثير . هذه المستلزمات الثقافية كانت ضرورية لإغرائهم للعمل في الثقافة والآداب وبالتالي ادركت الكثير منهم حرفة الأدب والصحافة والفن والكتابة في مجالات اخرى وتفوقوا فيها ووصلت شهرة بعضهم الى العربية والعالمية
وحصدوا الجوائز في معظم الاجناس الادبية والثقافية وتبوؤا المراكز الثقافية كرؤساء تحرير لمجلات ودوريات ثقافية وصحف يومية وأسبوعية .
هذه الأجيال خلعت جلباب الآباء والأجداد ظاهرياً بعد ان ادعوا تبنيهم لمفاهيم معاصرة كالحداثوية والمدينية وآمنوا( شكلياً) بالتحولات الاشتراكية والمرحلة الانتقالية ودافعوا عن الدولة المدنية وناصروا المرأة في حقوقها . ولكن رغم كل ذلك بقيت جينات الأسلاف نشطة ومتحفزة وجاهزة للظهور في اَي موقف يتطلب ذلك وبقيت في مأمن من فر ض إرادة الجينات الثقافية المكتسبة نظراًلقوة ارادتها المستندة على إرادة الأسلاف ، بل كان لها التأثير الفعال في توجيه حاملها الى السلوكيات الاجتماعية المتساوقة مع أهدافها بدون أية عوائق تذكر .فبأختبار بسيط لأحدهم في ذكر اسم زوجته امام الأصدقاء لأي سبب كان فتتحفز جينات الأسلاف الثقافية لتنتصر وبكل سهولة على الجينات الثقافية المكتسبة ، من الحوارات الشفاهية او المستخرجة من بطون الكتب ، وتضمحل أمامها جميع الأفكار المستلهمة من الحياة الثقافية والاجتماعية للمدنية فيما لو سمح القدر لأحدهم من مشاهدة ابنته الجامعية مع زميل لها داخل اروقة الجامعة . .
ولم تقف جينات الأسلاف مكتوفة اليدين او تمثل الدور السلبي بالنسبة للعراقيين الذين امضوا قرابة الربع قرن في بلدان الغرب وأمريكا والذين يتباهون كونهم اكتسبوا ثقافة ما بعد حداثوية من المجتمعات المتنورة والمتقدمة علمياً وثقافياً وتشبعوا بها وقد تبوأ معظمهم مناصب ثقافية حين عودتهم الى العراق ، ويفتخرون بوفرت كتبهم ودراساتهم المتنوعة لكننا لم نر اَي واحد منهم قد مارس دورا متحضراً أمامنا بتابطه ذراع زوجته او صديقته وهو يدخل علينا في اتحاد الادباء او في اَي من المنتديات الثقافية او المقاهي الادبية المنتشرة في بغداد ، مستبعدين المحافظات لأسباب معروفة ، على الأقل ليغيضونا ويثبتوا لنا انهم كانوا في بلاد الإفرنج وتشربوا من معينها الحضاري باستثناء رئيس الجمهورية السيد برهم صالح حين تأبط ذراع زوجته في شارع المتنبي في اول نزول له لشارع الثقافة . اما من امتهن الفنون السمعية والمرئية او المسرح فلم يجدوا في قواميسهم الدرامية سوى إضحاك الجمهور على لهجة أهل الريف والانتقاص من فعاليات الاسلاف والضحك عليها ولم يغادروا هذه المنطقة لوقتنا الحاضر .
جينات ثقافة الاسلاف لم تكن محافظة على كينونتها فحسب بل نمت وانتقلت بالوراثة ( كما حصل لجينات مندل ) لامتلاكها رصيد معنوي واشتغالات مؤثرة باستنادها على التراث الذي منحها القدرة على سحق المفاهيم الجديدة ، انتصارها يمثل ضعف وانهزامية الجينات الثقافية المكتسبة واضمحلال دورها واستسلامها في اول منازلة حضارية ، وهكذا يظهر زيف المتحضر المصطنع والاستعلام الفارغ ....



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن