ظروف في عملية التنبؤ التأملي

توني جرجس توفيق
Tony_girgis1@yahoo.com

2019 / 8 / 29

التنبؤ التأملي... هبة الرب، قد تقترن بالإنسان عند ولادته، أو يصل لها كثمرة عندما يرتقي روحياً... وفي الحالتان تحتاج إلى طُرق خاصة للتعلم، فيها يتعلم المتأمِّل في بيت معلِّمه.

كما أن هناك منطق للمادة، هناك أيضاً منطق لذلك العالَم الآخر، والذي يقطنه أشخاص يعلمون ما يسير في أرجاء عالمهم، يتكلمون، يتعلمون. ويدركون زمنهم، يدركون أيضاً أن ما يفعلونه قد يؤثر على ساكني عالم المادة: "كما فوق كما تحت". أما المتأمِّل فهو الذي يستطيع أن يرى، يلاحظ تلك الومضات التي تظهر له كنور يربط بين العالم الذي يرقد جسده فيه، وبين ذلك العالم الآخر الذي يكتشف جوانبه كطير في السماء محلِّقاً يرى ما لا تراه أعين الآخرين. حينها تتلعثم أفكاره، خاصة عندما يشعر بعدم وجود زمن ، حينها يعلم أن العقل "الوعي" يجب أن يصغي إلى ما تراه أعينه دون تحليل، دون تذكر. صور خاطفة تعرف طريقها إلى وعيه الذاتي، إستعداداً لأن تظهر في صورة رسالة. أحياناً يعتاد ذلك حتى أنه يصبح تلميذاً في صفوف تلك المدرسة العليا، يتعلم ويرى فيصير أكثر رقياً، أكثر قبولاً للكون وقوانينه.

للتنبؤ التأملي أسس، ولكن ما تختلف فيه تلك القواعد عن أي قواعد أخرى هو أنها قواعد مُعاشة. و القواعد المعاشة هي تلك القواعد التي ترى من خلال التجربة، حتى أنها أحياناً تظهر في صورة "وسيلة" ليعتاد عليها المتأمِّل إلى أن تصير قانوناً.

إن الاختلاف الجوهري بين طبيعة من يريد أن يعيش المعارف الروحية وبين من يريد المعارف الأخرى هو أن المتعلم يجب أن ينجذب لتلك الكينونة التي تربط بين العناصر، أو ما نُطلق عليها اسم "المادة اللاصقة" التي تربط الأمور بعضها ببعض. فتجده يقفز من موضوع لآخر شاملاً إياهم، لأنه أتقن معرفة الوسيلة التي تربط بينهم جميعاً... حينها يربط بين الرياح والسؤال الذي يدور في خلده.

هناك قواعد (وسائل) عديدة تمكِّن المتعلِّم من الرؤية، حتى أن ما يراه يتدرَّج في الرمزية والقوة بقدر ما وصل إليه المتأمِّل من ارتقاء روحي.

من تلك الأسس:
"إهمال الزمن، عدم الانتباه للعناصر بقدر الانتباه للعناصر اللاصقة، تعوُّد الذات على جعل "الوسيلة" الروحية هدف، الإرادة الحرة للإنسان والتي تجعله كياناً منفصلاً يستطيع الرؤية أو بمعنى آخر يستحق الرؤية، تفعيل البساطة بجعل ذلك الباب الرائع مفتوحاًللإيحاءات العلوية، إنكار الذات، التمسك بالرغبة الروحية تلك الرغبة التي تشبه رغبة طفل في حضن أمه عائداً إلى الأصل، المفاجأة، النمطية والاستمرار، الإبداع الخلاق الواثب من ذات الفوضى، التناقض كوحدة، عدم الاكتراث لنتيجة التنبؤ، وغيرها..."

كل تلك الطُرق التي ترافق الارتقاء الروحي للمتأمل تجعله يرى، إلا أن التنبؤ التأملي كثمرة للارتقاء أعظم من أن تستطيع كلمات أن تصِفه.

سنناقش في المقالة التالية واحدة من تلك القواعد، وهي الخاصة "بعدم الاكتراث لنتيجة التنبؤ".

المتأمل أو الشخص الذي يتأمل بهدف التنبؤ التأملي هو إنسان يخرج من الحيز الزمني ليرى موقف أو حدث ما في المستقبل، وربما يخرج حتى من الحيز المكاني ليرى ما هو أبعد مما يمكن أن تصل إليه قدمه، ولذلك فهو يتنبأ في حالة التأمل. ولكن إذا تأخرَت ساعة حدوث الشيء المتنبَّأ به لدلّنا ذلك على معنى خطير، وهو أن الزمن أو رمز ما قد اتخذ من المتنبيء نفسه ندّاً أو تلميذاً له أو خصماً يلعب معه لعبة ما. فيبدأ ذلك الرمز في تحقيق حادثة التنبؤ بعيداً عن زمنها بيوم أو شهر أو سنة!

وكلما ازداد التركيز على قوة التنبؤ أو الاستعداد لاستقبال الحدث المُتنبَّأ به كلما ازدادت قوة الرمز وإصراره على تأخير أو تقديم الحادثة المتنبأ بها، أو فعل شيء أكثر غرابة وبساطة وهو لجوء رموز المادة لمجموعة من الأفعال التي تلعب بدورها في التشكيك بالصورة التأملية بالرغم من حدوث الحدث في زمنه. فمثلاً إذا ما رأيت التفاح يسقط من سقف بيتك، فسوف تلاحظ أن بيتك تسقط منه جميع أنواع الفاكهة ماعدا التفاح. أو يسقط التفاح ولكنك تصاب بنوع غريب من الأنفلونزا فتسقط على الأرض و يتساءل الآخرون لِمَ لَمْ يعرف بمرضه؟ ولكن إن لم تحدث العملية المتنبأ بها ففي ذلك إشارة لقوة أعظم وأقوى وأكثر تحييراً. إن المتنبِّئ هذه المرة يتعامل مع رمز واحد و ربما اثنان أو ثلاثة أو أربع...

الجميل في الأمر أن بعض المتنبئين يعلمون ذلك فيوبِّخون أنفسهم في لحظة حدوث الحدث المتوقَّع لإلهاء الرمز، والغريب في الأمر أنهم في أكثر الأحيان يلهون أنفسهم لأنهم أكثر العوامل التي تؤثر في حدوث عملية التنبؤ، رغبةً منهم بعدم التدخل في تلك الصورة الجميلة التي رآها وعيهم أثناء التأمل.

وبالتالي فإن عدم الاكتراث لنتيجة التنبؤ- لنتيجة تلك الرؤيا- هو قاعدة هامة في عملية التنبؤ التأملي.

كثُرَت الأشياء المتفرقة و المتنوعة التي تجعل المتأمل يشعر وكأنه محاصَر لعدم إتمام عمله، عندها فقط يجب أن يعرف أنه على مشارف إتمام تلك المعرفة.

ثم ماذا؟!

المتأمِّل هو شخص لا يغيِّر أحداث الكون أو يعاند قدر حدث معيَّن، بل يتمِّم الإرادة الكونية بأن يشهد. كمن يتأمل الرسام حين يرسم لوحة جميلة، شاهداً على جمال لوحته. التنبؤ ليس هو هدف التأمل، ولكن عند حدوثه أثناء التأمل يجب تصديقه. علينا ألّا نحاول أن نتنبَّأ، بقدر ما علينا أن نثق بحدسنا الأول ونصدِّقه.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن