الأديبة الفرنسية فرانسواز ساغان تروي أطيب ذكرياتها

شكيب كاظم
a.marzouq@yahoo.com

2019 / 8 / 26

على الرغم من نتاجها الإبداعي القليل، فإن الروائية وكاتبة المسرحيات فرانسواز ساغان (1935- 2004) حظيت باهتمام القراء الواسع في العراق والوطن العربي، إذ جلبت لها روايتها الأولى «مرحبا أيها الحزن» أنظار القراء لما فيها من بوح واقتراب من الأماكن المحظورة، حتى إن أباها رفض أن تنشرها باسمها الصريح، فرانسوا كوريز، خشية أن تجلب لغطا لأسرتها، فاستبدلت ساغان بكوريز، حصل هذا قبل الانفلات الأخلاقي الذي ضرب العالم؛ ولاسيما أوروبا في ستينيات القرن العشرين وظهرت حركات الهيبيين واليبيين، وفرقة البيتلز والبوهيمية، واختراع حبوب منع الحمل، والدعوات لتحطيم نظام الأسرة وعقود الزواج، والإنجاب خارج نطاق الزوجية؛ كتبتها وهي على تخوم العشرين من عمرها، وجلبت لها مالا وفيرا وشهرة واسعة، حتى إنها كانت تتضايق من متابعة الناس وفضولهم، اللذين كادا يلغيان حياتها الخاصة، ليس في فرنسا أو باريس، بل حتى في أمريكا يوم سافرت للقاء الكاتب المسرحي تنيسي ويليامز، إذ ما أن حطت الطائرة في المطار فجراً، حتى فوجئت بعشرات المصورين في انتظارها. ساغان التي تلخص حياتها في الكتابة والمقامرة وقيادة السيارة بسرعة فائقة، واصفة السرعة بأنها تسطح شجر الدلب على جانب الطريق، وفي الليل تطيل وتشوه الحروف المضاءة لمحطات البنزين، تصبح أقل هما بذلك في سرعة مئتي كيلومتر في الساعة. لا يعود الدم يتجلط حول القلب، يتدفق دمك». ومن لعبة قمار واحدة اشترت بيتها في نورماندي، كما استعدتُ مقابلة قديمة أجراها معها الصحافي سمير عطا الله ونشرتها مجلة «الحسناء» اللبنانية سنة 1966، تؤكد له أنها تركت المقامرة بسبب خسائرها المالية الفادحة، حتى إن سمير عطا الله جعل للقائه الصحافي هذا عنوان «ساغان المغامرة تخسر في البكارا ما تربحه من كتبها»!
في كتابها المعنون «مع أطيب ذكرياتي» الذي صدرت طبعته الفرنسية الأولى عن دار غاليمار سنة 1984؛ أي بعد ثلاثين سنة من صدور روايتها الأولى «مرحبا أيها الحزن»، التي نقلها عن الفرنسية مباشرة؛ متخلصين من اللغة أو اللغات الوسيطة، المترجم العراقي عباس المفرجي، واضعين تحت النظر أن الترجمات العربية مازالت متأخرة عن زمن الصدور في لغة الأصل، فثمة فارق زمني يزيد على ثلاثة عقود.

تنيسي ويليامز

تقدم ساغان فصولا من الحياة الخاصة والحياة الثقافية الفرنسية، منها فصول عن الكاتب المسرحي الأمريكي تنيسي ويليامز (1911-1983) الذي عرفناه على نطاق واسع من خلال مسرحيته الشهيرة «عربة اسمها الرغبة» فضلا عن مسرحيته الأخرى الأقل شهرة «قطة على صفيح ساخن» تسافر إلى فلوريدا للقائه، وتصفه برجل قصير، بشعر أشقر وعينين زرقاوين، ونظرة لاهية واصفة إياه بأعظم شاعر أمريكي بعد ولت ويتمان، وتمضي في ضيافته أسبوعين لاهيين صاخبين، ومع الحر اللاهب في فلوريدا كانت ساغان تشاهد ويليامز وهو يكتب على الآلة الكاتبة ساعات. بعد ذلك تلتقي به أكثر من مرة وآخرها يوم طلبت منها جهة ثقافية تقديم عمل مسرحي، فتختار ترجمة مسرحيته «طائر الشباب العذب» التي كتبها تنيسي ويليامز سنة 1959، على الرغم من لغة ساغان الإنكليزية المتواضعة، وتكتب إليه مخبرة إياه بإعدادها إحدى مسرحياته للعرض في باريس، لكنها تفاجأ ببرقية منه قبل عرض المسرحية «أنا قادم» وتنال الترجمة فضلا عن التمثيل رضاه، وكان يضحك طويلا وبصوت عال على الحوار، ما يثير ضجر المشاهدين، الأمر الذي يحرجها راجية إياه إخفاض صوته، كان فرحا جدا واصفا ترجمة ساغان لمسرحيته بالمدهشة، محتضناً إياها بطيبة قلب.
تلك كانت المرة الأخيرة التي أراه فيها – كما تقول ساغان- علمت في ما بعد بطيشه في مهرجان (كان) السينمائي التاسع والعشرين سنة 1976، وكان رئيس لجنة التحكيم، ورفضه أن يستمر أمدا أطول رئيسا للجنة التحكيم! مناجية إياه: وأنا، أنا حتى لا أعرف كيف مت أنت يا شاعري المسكين، وما إذا كنت مت كما تمنيت، موتاً متميزا، في الصباح الباكر في بيتك المشرعة أبوابه، أو لعلك فكرت في الذهاب إلى ذلك المنزل في فلوريدا وقضاء بضعة أيام في هدوء مع الشمس وورق الكتابة، أنا افتقدك يا شاعر، وأخشى أني سأفتقدك لزمن طويل جداً».

الروائية وكاتبة المسرحيات فرانسواز ساغان (1935- 2004) حظيت باهتمام القراء الواسع في العراق والوطن العربي، إذ جلبت لها روايتها الأولى «مرحبا أيها الحزن» أنظار القراء لما فيها من بوح واقتراب من الأماكن المحظورة.

أورسن ولز

وتعقد ساغان فصلا جميلا للحديث عن الممثل والمخرج الأمريكي أورسن ولز (1915-1985) الذي مازالت صورته ماثلة في ذهني، أواخر أيامه، مستعينا بأنبوبة أوكسجين يضعها عند أحد منخريه، وهو يعمل في إخراج أحد أفلامه، ويبدو أن أوكسجين الهواء الطبيعي ما عاد يكفيه لعلة في رئتيه، وقلة في التنافذ الغازي، ولعله بسبب التدخين، ومازال فيلمه «المحاكمة» بالأبيض والأسود عن رواية قصيرة للروائي فرانز كافكا، وتألق فيه الممثل الأمريكي أنطوني بيركنز، بطل فيلم «سايكو« لمخرج أفلام الرعب الفريد هيتشكوك، وإلى جانبه النجمة جانيت لي وفيرا مايلز. أقول مازال فيلمه الذي عرض في بغداد سنة 1962 ماثلاً في الذهن. تصفه ساغان: كان ضخما، كان عملاقا، كانت له عينا صقر، ضحك بطريقة راعدة وأجال طرفه في ميناء (كان) في حشوده الضالة ويخوته الفاخرة، بنظرة لاهية متقززة في الوقت ذاته». كان هذا المخرج العملاق بحاجة إلى مال؛ مال المنتجين كي يخرج أفلامه، كما كان المخرج الفرنسي كوستا كافراس القريب من قضايا العرب، الذي قدم فيلما رائعا تناول فيه كفاح الشعب الفلسطيني عنوانه ( حنا كي–hana–k) عرضته سينما سميراميس في بغداد سنة 1986، قابلناه نحن العرب بما يشبه البرود والبلادة، ما أدى إلى فشل الفيلم، زد على ذلك محاربة اللوبي الصهيوني في أوروبا والغرب، إذ تعرضت دور العرض إلى هجمات بالزجاجات الحارقة، وهل ننسى الممثلة البريطانية فانيسا رود كريف، لقد تحطمت مشروعات كافراس بسبب الحاجة إلى المال، وما امتدت إليه أموال العرب، على الرغم من امتلاء خزائنهم بالمال فخسرناه! وإذ يعرض أورسن ولز أمره على أحد المنتجين، فلمس منه اعتذاراً أو امتناعاً، يخاطب ساغان، قاصداً هؤلاء المنتجين: أنا وأنت، نحن فنانان، ليس هناك ما يجمعنا مع ثلة الماليين أو المحتالين عديمي الأهمية هؤلاء، ينبغي تجنبهم كما نتجنب الطاعون، هم مجرد سماسرة، هم». معبرة عن خيبتها أن ولز لم يستثمر أمواله عند نجاحاته الأولى في شركة شل النفطية أو مطاعم الوجبات السريعة! كان كريما مبذرا يرمي أمواله من النوافذ.

جان بول سارتر

في يوم 21 يونيو/حزيران 1979 وبمناسبة عيد ميلاد جان بول سارتر الرابع والسبعين، وهو يوم ميلاد ساغان – كذلك- سنة 1935، توجه رسالة حب إليه نشرتها في إحدى المجلات الفرنسية واصفة إياه بالأقرب إلى قلبها، وأحبته أكثر من الجميع، وكانت تزوره، وتذهب معه للعشاء في أحد المطاعم كل عشرة أيام، هو الذي بدأ يعاني ألما ممضا ووحشة مؤذية لفقده بصره، كما فقدها الروائي الأرجنتيني لوي خورخي بورخس، لقد أضحى يؤلمه تحوله إلى مستطيع بغيره، وإذ تسأله هل قرأ رسالتها إليه؟ يجيبها لقد كلفت أحدهم بقراءتها مرة واحدة، وإنه يروم إعادة قراءتها لما فيها من إشادة به ومديح يطرب نرجسيته، فتسجل الرسالة على شريط كاسيت كي يستمع إليها وقت يشاء، معبرا لها عن ألمه، لأنه ما عاد يكتب بسبب عماه، هو الذي أمضى نحو نصف قرن يكتب يوميا ويقرأ نحو عشر ساعات، لا بل إنه فكر حتى بالانتحار. وإذ تؤكد عماه، فإنها تنفي ما يشيعه البعض عن خرفه، مؤكدة شعورها بالغيظ إزاء تلك الحكايات المخزية التي قالها بضعة أشخاص من محيطه ومعارفه. وسارت في جنازته غير مصدقة، مع آلاف الناس الذين أحبوه واحترموه، والذين رافقوه الكيلومترات القليلة نحو مرقده الأخير.
ساغان، بعد أن حدثتنا عن تنيسي ويليامز وارسون ولز وسارتر، ختمت أطيب ذكرياتها متحدثة عن قراءاتها الأولى التي بلورت بدايات ثقافتها، القراءة التي علمتها العزلة، مقررة أن الحياة عزلة، مؤكدة أن الشيء الوحيد الذي تأسف له أنها ما قرأت كل الكتب التي كانت تريد قراءتها، ذاكرة كتاب «قوت الأرض» لأندريه جيد، وثانية كتاب «الإنسان المتمرد» لألبير كامو، وثالثاً شعر رامبو وأخيراً مارسيل بروست في «البحث عن الزمن الضائع» أو «المفقود» بوصفها المكونات الأولى لثقافتها.
سجل المترجم عباس المفرجي في «مع أطيب ذكرياتي» الذي تولت (دار المدى) نشر طبعته الأولى سنة 2019، تقدما جيدا على مستوى اللغة، ففي لغته في هذا الكتاب تحديدا، كثير من الموسيقى والرهافة والجمال، أنا الزاعم إني قرأت جل ما ترجم ومنذ كتابه الأول «يوميات القراءة» للأديب الأرجنتيني البرتو مانغويل، كما إنه نزع جلباب اللغة الوسيطة، فهو ترجم كتابه هذاعن الفرنسية مباشرة، والنقل المباشر يحافظ – غالباً- على دقة النص وروحيته.

حاشية

لعل عنوان هذا الكتاب من أكثر العناوين تنوعا في الترجمة، فهو قد ترجم إلى «مرحى يا كآب»» و«مرحى أيتها الكآبة» و«طاب يومك أيها الحزن» و«صباح الخير أيها الحزن» و«مرحبا أيتها التعاسة»!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن