تخيل السلام الذي تحلم به، ثم اعمل على تحقيقه

إلهام مانع
elham_manea@bluewin.ch

2019 / 8 / 11

"تخيل السلام الذي تحلم به، ثم اعمل على تحقيقه"



"عليكِ البدء من مكان ما"، ردَّدت علي هذه العبارة مراراً.

هي خبيرة في مجال الوساطة وحل النزاعات. التقيتها في مؤتمر دولي عن الحوار الوطني لحل النزاعات في هلسنكي، فنلندا، في نوفمبر 2015.
كنا نتناول طعام الإفطار في الصباح الباكر قبل بدء فعاليات المؤتمر.
أخذت تحكي لي عن خبرتها في الوساطة في مناطق النزاع.
أصغيت إليها بإمعان، وهي لم تمل من تكرار تلك العبارة.
"سيكون عليكِ البدء من مكان ما".


في وسط الظلام الداكن، في تلك العتمة الباهرة، عندما يكون الأمل وهما، عندما تكون الكراهية هي الخطاب السائد، وعندما يكون السياسيون عنوان اللامسؤولية، يتحتم عليك البدء من مكان ما. إبحث عن نقطة ما وابدأ في الحفر لبناء ذاك المستقبل المشترك الذي تحلم به.
الرصاص لا يصنع سلاماً.
الكراهية لن تبني مستقبلا مشتركا.
ابحث عن ذاك القبس، نور الإنسانية، تلك التي تجمعنا كلنا.

تذكرت عبارتها وأنا أقرأ كتابك، عزيزي يوسي. تجسدت أمامي مع كلماتك وصداها يتردد في روحي. أنت أيضًا تحلم بهذا المستقبل المشترك.

لن استغرب إذا كنت قد تعرضت إلى النقد والسخرية والشتائم.
هل قِيل لك إنك "تضيع وقتك وتطارد أحلاماً نسجت من سراب"؟ أم اعتبروك ساذجا وحَذروك من أن هذه المنطقة "ميؤوس منها، عازمة على تدمير نفسها، تطحن نفسها في رحى فوضى انتحارية. وتُدمر نفسها بنفسها؟" لن استغرب لو أن الأصدقاء والأعداء انِتَقدوك بسبب كتابك.
"يكرهوننا. فعلام البدء بالمحاولة اصلاً؟"
تعرضت أنا الأخرى إلى إنتقاد شديد بعد قراري للسفر إلى إسرائيل عام 2017، وكتبت سلسلة مقالات عن هذه الرحلة. "خائنة" قال البعض. "بعتي نفسك للعدو"، اكمل غيرهم. "اعتدت أن احترمك. الآن فقدت احترامي لكي". قالتها وهي تعنيها.
وانا ظللت صامتة. وواصلت كتابة المقالات.
دع العاصفة تمر.
مع نهاية السلسلة تراجعت الصرخات، هدأت ثم صمتت.
لم أبع نفسي.
كنت ولازلت ابحث عن المخرج.
أحياناً، سيكون علينا ان نحتمل تلك الأحجار التي تُرمى علينا، كي نشق طريقاً جديداً لمستقبل أفضل. والبدايات تماما كما النهايات تظل دائما صعبة.

عزيزي يوسي. أنا لا أكره.
أرى الإنسان في الإسرائيلي واليهودي. أرى الإنسان فيه وفيها.
تماماً كما لا أنكر حق إسرائيل في الوجود. لها الحق في الوجود، بدون "لكن".
وأعرف أن للصراع عدة أوجه، وأن التاريخ يُحكى من وجهة نظر راويه.
ولذا تجدنا نتحدث عن اللاجئين الفلسطينين (وهذا ضروري) ثم نختار أن نتجاهل 850 ألف يهودي ميزراحي (شرق أوسطي)، الذين اضطر الكثيرون والكثيرات منهن إلى الخروج قهرا من أوطانهم في منطقة الشرق الأوسط بعد إنشاء إسرائيل.
و لن أقلل من شأن الخوف الساكن في داخل الإسرائيلي الذي تحدثت عنه في كتابك. لأني أعلم أنه حقيقي. ويقوم على أساس مادي واقعي. كراهية إسرائيل واليهود بصفة عامة مغروسة في كياننا في منطقة الشرق الأوسط.

كتابك يحمل عنوان "رسائل إلى جاري الفلسطيني".
أنا لست فلسطينية، وأنت تعرف ذلك. ولا أزعم بأي حال من الأحوال أني أتحدث هنا بإسم الفلسطينيين. هم قادرون على التحدث عن أنفسهم. وقد فعلت العديد منهن ذلك. ردوا ورددن عليك في رسائل مست نفسي.
و لا يمكنني حتى البدء في تخيل شعورهم: الإذلال الذي يعيشونه يومياً في ظل الاحتلال، المستوطنات التي تنهش أراضيهم، ومزارعهم، ولقمة عيشهم، عالقين بين فصائل متنافسة، ومسؤولين فاسدين وسلطة عاجزة وجماعات متطرفة. أية حياة هذه؟ أسألك.
جيرانهم العرب ، الذين يدَّعون أنهم في صفهم مافتئوا يستخدمون قضيتهم لحشد الكراهية والغضب - كبش فداء لفشلهم في توفير حياة كريمة لمواطنيهم ومواطناتهم. لكن كن فلسطينيًا وحاول السفر إلى أي دولة عربية، ثم عِش فيها.
وستعرف معنى أن تعيش ذليلاً في المنفى، بلا مأوى. ستعرف معنى المهانة، الألم، والغربة.

معاناة الفلسطينيين حقيقية، لا أستطيع أن أتجاهلها، لا أستطيع أن أتغاضى عنها وأضعها جانبا، واقول لك "دعنا نتجاهلها، دعنا نتناساها، ولنمضي في طريقنا دون حلٍ للصراع".
لا أستطيع ذلك.
ولذا، لابد من إيجاد حل لهذا الصراع.
لابد من إيجاد حل لهذا النزاع.
لابد.

عزيزي يوسي. مرت علي أوقات شعرت فيها بالتعب الشديد من هذا الصراع. تعبت إلى درجة إني قلت مرة لصديق عزيز علي، "دعهم يدمرون انفسهم. لا يهمني ما يحدث هناك".
كانت لغة منَ يشعر بالإحباط، الخيبة واليأس.
فقد كنت انا ايضا من الحالمين بالسلام مثلك، لولا اليأس الذي لحق بمساره.
دعني اقول لك، عندما أقيم الحفل الرسمي الرسمي لاتفاقية أوسلو في واشنطن، في سبتمبر 1993، كنت في ذلك الوقت في واشنطن بسبب منحة فولبرايت.
وشاركت مع صديقة يهودية لي من البيرو، سيلفيا، في حفل رمزي نظمه دار الطلاب الدوليين ، حيث كنا نعيش، وقسمنا بيننا قطعة خبز، واكلناها معاً. .
غريب كيف يحمل الخبز هذا المعنى القوي. في مصر ، هناك قول مأثور ، يمكن ترجمته على النحو التالي "جمع بيننا العيش والملح"، اي جمع بيننا رباط إنساني اقوى من الصداقة.
هذا تماما ما عنته لي قطعة الخبز تلك التي اقتسمها مع سيلفيا.
وأعتقد أن هذا هو شعورها ايضاً. إلى اليوم.
مع الوقت، شعرنا بالإحباط والخيبة، وفقدنا الأمل في عملية السلام التي بدأتها أوسلو. ورغم ذلك، فإن قطعة الخبز هذه ما زالت تجمعنا. ظللت لأكثر من عقدين احمل سلسلة المفاتيح التي اعطتها لي في عيد ميلادي، مكتوب عليها عبارة بسيطة:" ليس هناك أجمل من صديق مقرب".

عزيزي يوسي ، قلت لك إنني لست فلسطينية. جذوري في اليمن ومصر. وسويسرا هي وطني الذي اخترته. وأحبهم جميعاً، اليمن، مصر وسويسرا.

في زيارتي إلى إسرائيل أعتقد الكثيرون أني إسرائيلية وتحدثوا معي بالعبرية. ربما يعود ذلك إلى أني أشبه الكثير من يهود الميزراحي، خاصة اليمنيين منهم. تحدثت عنهم أنت ايضاً في كتابك.
تأثرت كثيرا عندما رأيت كيف يحتفي الإسرائيليون اليمنيون بتراثهم اليمني، بالأغاني الفلكلورية اليمنية، وأطباقها الشعبية، والحلي الفضية الرائعة.
لم يكن اليمن رحيماً بهم، تقول لنا كتب التاريخ المكتوبة بغير العربية. تماماً كما لم تتعامل معهم المؤسسة السياسية الإسرائيلية الإشكانسية بالأحترام، بل تعرضوا للتمييز والإهانة بعد وصولهم إلى إسرائيل بعد عام 1948.
لكنهم لا يبدو أنهم يهتمون بذلك الماضي. لقد نجحوا في ترسيخ أنفسهم كجزء لا يتجزأ من المجتمع الإسرائيلي ، نابض بالحياة والفخر. لا أحد يسأل اليوم عن حقهم في الوجود في إسرائيل.
كنت أتمنى أن أقول الشيء نفسه عن عرب إسرائيل. لكني لااستطيع. فوضَعهم كمواطنين إسرائيليين متساويين يمثل اختبارا حقيقياً لديمقراطية إسرائيل.
قلت لك أني لا اشكك في حق إسرائيل في الوجود. هي موجودة لتبقى. وكي أكون صادقة معك، اريدها ان تبقى.
لكني أريدها أن تبقى كدولة علمانية ديمقراطية، ضمن حدود ما قبل حرب 1967، و بدون احتلال للأراضي الفلسطينية.
منطقتنا تفقد تنوعها.و تماما كما اختفى اليهود المزراحيون من الدول العربية فإن نفس ما حدث لهم يحدث اليوم للمسيحيين والأقليات الأخرى.
نحن نعيش في عصر يزعق فيه التطرف ويطغى صوته على كل الأصوات الأخر.
عصر يصر على اللون الواحد، في الدين، في الهوية، وفي الفكر والرأي. المواطنة المتساوية أمام القانون وعلى أرض الواقع ليست لدينا سوى مهزلة ساخرة..
وللأسف الشديد فإن إسرائيل، بدلا من أن تتحول إلى نموذج للتنوع، بدأت تُصاب بالعدوى من جيرانها العرب، ومشت بقانون الهوية الوطنية الذي تبنته عام 2018 في إتجاه التمييز بين مواطنيها، وتحديداً ضد مواطنيها العرب..

لقد ذكرت دور الدين في كتابك وأعتقد أن هذا هو العنصر الأساسي الذي يتعين على منطقتنا التعامل معه ومواجهته. فبدون الفصل بين الدين والدولة سنظل عالقين في دوامة صراع ديني لن تنتهي. نحتاج إلى الفصل بين الدين والدولة وبصورة تحقق المساواة في المواطنة في القانون والواقع. أليس من الغريب ألا تسمح أي دولة في منطقتنا بالزواج المدني ضمن حدودها؟ لسنا مواطنين نتزوج من مواطنات. بل كل ينتمي إلى جماعته الدينية او القبلية او المذهبية. منقسمين على أنفسنا.
فقط إسرائيل ولبنان تقبلا بالزيجات المدنية التي تتم خارج حدودهما. لكن من يفعل ذلك يواجه والأطفال التي تثمر عن هذه الزيجات الكثير من المشاكل في إسرائيل ولبنان.
هذا الواقع يخبرك بشيء عن نوعية التحديات التي ما زالت تنتظرنا.
لازال هناك الكثير الذي يجب فعله من أجل السلام، عزيزي يوسي.
والكثير الكثير الذي يجب أن نسعى إلى تغييره.
ولفعل ذلك، سيَتحتم علينا أن نبدأ من مكان ما.
ولذا أقترح أن نبدأ بالقفز معاً من تلك الهوة المفزعة المخيفة، قفزة من أجل السلام، نتجاهل زعيق الكراهية، ونثق في إنسانيتنا المشتركة، ونشق معاً طريقاً لمستقبل مشترك لمنطقتنا.
دعنا نجرؤ على الحلم، ونتخيل كيف ينبغي أن يبدو مستقبلنا المشترك. فالمفارقة الحقيقية في الوضع الحالي، هو أن بقائه على ماهو عليه هو وصفة لكارثة مستقبلية.
أصبح مستقبلنا مرتبط ببعضه، شئنا أو ابينا.
نعيش أو نموت معاً.
دعنا نختار العيش معاً.
ولنحمل شعلة النور كي تضيء لمستقبل مشترك. ذاك هو الطريق الأكثر وعورة، الذي لم يسلك بعد إلا قليلا.

نُشر النص الإنجليزي لهذه الرسالة على موقع رسائل إلى جاري الفلسطيني
https://www.letterstomyneighbor.com/elham-manea-imagine-peace-and-work-for-it/?fbclid=IwAR0YPn1kMe5pRurKc7YQxYcag0MSixECatLQnvd8UYSbjPGoWwnb5KDWiao

نُشر النص العربي لهذه الرسالة على موقع Dialouge التابع لرسائل إلى جاري الفلسطيني على الفايس بووك

https://www.letterstomyneighbor.com/ar/%d8%aa%d8%ae%d9%8a%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%84%d8%a7%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%b0%d9%8a-%d8%aa%d8%ad%d9%84%d9%85-%d8%a8%d9%87%d8%8c-%d8%ab%d9%85-%d8%a7%d8%b9%d9%85%d9%84-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%aa/



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن