العنصرية في لبنان:العنزة بتخلّف عنزة

محمود الصباغ

2019 / 8 / 6

كتبت جريدة الأخبار يوم أمس تعليقاً على ما نشره موقع "القوات اللبنانية" بعنوان (بالفيديو منتخب لبنان يزل السوريين) عشية فوز منتخب لبنان على منتخب سوريا في مباريات «غرب آسيا».
من حيث المبدأ هذا كلام ينضح بالعنصرية* كما وصفته الجريدة، غير أنه في ذات الوقت، ومن حيث تعريف العنصرية، لايبعد هذا العنوان/ التهمة/الصفة عن جريدة الأخبار و القيّمين عليها، إذ قد يتساءل البعض ماذا لو أن هذا اللبنان"زل"فريق يتبع المعارضة، هل سترى فيه الجريدة عنصرية فاقعة ضد "السوريين" أيضاً، أم أن السوريين بالنسبة لها هم تلك الفئة/الطائفة التي لا تخفي تحيزها لنظام الأسد جونيور؟ وهل ستصر على أن العنوان ينطوي على "تشفي واضح" و "ذل"؟. علماً أن الجريدة استدركت في ذات الخبر بأن الموقع " استبدل العنوان" بواحد أقل حدة رغم أنه لا يخلو من انتفاخ للذات"اللبنانية" (بالفيديو: رجال الأرز يقلبون الطاولة على المنتخب السوري).
وفي مجتمعات مشحونة و مستقطبة طائفيا مثل لبنان يكون الفرد فيها بحاجة ماسة لأفكار معينة تجعله يتماهى مع جماعته لتعزيز مكانته ووضعه السياسي و الاجتماعي، و يتم، في أقصى حالات التطرف، تقمص دور الضحية من خلال خلق عدو وهمي يؤمن التماسك المطلوب و التماهي القومي/الطائفي/الإثني في مشاعر يختلط فيها التعبد الذاتي بالسلوك الأناني للجماعة "التي نشترك معها بروابط الدم و الجينات". ويطلق البعض على هذا السلوك صفة العنصرية، ويتم تفسيره -من الناحية النفسية- باعتباره نتاج معتقدات الفرد المكتسبة وتركيبته الشخصية وتفاعله مع البيئة المحيطة به و ظروف تنشئته الاجتماعية، والنزعة التسلطية، التي تحدث عنها "ثيودور أدورنو" والتي تفسر العداء تجاه الجماعات المغايرة بما يقابله من ميل شديد لأفراد من تلك الجماعة للخضوع للسلطة وللأساطير المؤسسة للإثنيات التي تفرضها الجماعة المهيمنة، مما يعزز من سلوك الشخصية التسلطية فيؤدي إلى خلق صور نمطية تساهم و تساعد في عملية "التصنيف" الاجتماعي و السياسي، فالعقل الإنساني لا يمكنه التفكير دون تصنيف ( والتصنيف خاصية امتاز بها الذكاء البشري عن سائر الكائنات)، وما إن تصبح هذه التصنيفات ناجزة حتى تعتمد كأساس للمعيار و الحكم المسبق، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود فئات أخرى على هامش الشخصية التسلطية ليس لديها استعداد للتصدي لهذا الوضع وترى في الامتثال للمعايير الاجتماعية مسألة شخصية.
يعيش اللبناني الحالي-لاسيما الطائفي- حالة شاذة ومتطرفة بما يعرف باسم"التوحد بالمعتدي"، وهي بأبسط تعريف لها سلوك أو ممارسة تدفع "الضحية" لتقمص سلوك المعتدي و التطبع بطبعه و الميل نحو العنف ومحاكاته عند أول فرصة يرفع عنه الضغط بدلاً من التمرد و رفض سلوك المعتدي، واعتبار القيم الإيجابية للجماعة المغايرة هي حالة فردية استثنائية لا يعتد بها، في حين ينظر إلى السلوك السلبي لأفراد هذه الجماعة بتعميم ينسحب على أفرادها كافة.
وتشبه آلية التوحد بالمعتدي التصور الخلدوني " في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه و نحلته و سائر أحواله و عوائده"**، ولايتوقف الأمر عند هذا الحد بل يتم نقل العديد من المشاعر و الأفكار و الرغبات نحو هدف "أضعف" في سياق عملية نفسية/عقلية تسمى "الإزاحةDisplacement" كآلية دفاع لاشعورية واستراتيجية نفسية يتم من خلالها تثبيت السلوك العدواني نحو هدف جديد عادة ما يكون في موقع أو موضع ضعيف غير قادر على الدفاع عن نفسه. وتتميز عملية الإزاحة بأنها تراتبية تنتقل من الأعلى للأسفل بطريقة مدهشة لتنوع "الغالب و المغلوب" اللذان أشار لهما ابن خلدون .
ويبدو أن صورة اللاجىء في "الوعي الجمعي اللبناني" تختزن الكثير من الصور النمطية التي عبّر عن بعضها مبكراً الأخوين رحباني في "جبال الصوّان"***: فاللاجىء: "اللي مطرود مَنُّو ضَيف، حامل حزْنو معو، وْحامِل الحزِن بيهِرْبو منّو الناس، بيخافو يعديهن". وتتساءل غربة/فيروز عن سبل عيش اللاجىء في غير وطنه:
"بيعيش.. لكنْ كيف؟؟
بيضلو يسألوك: إنتَ شو إسمَك؟
بتقلُّن إسمي فلان
ما فيك تكون بلا إسم.
بيضلو يسألوك: إنتَ مِنْ وَين؟
بدَّك تقول منَين
ما فيك تكون مش من مطرَح
إذا فيك تعيش بلا إسم فيك تعيش بلا وَطن."
واقعياً يسعى الأفراد لحماية أنفسهم باستخدام تلك الآليات و الاستراتيجيات بطرق واعية و/أو لاواعية تتسم في غالبيتها بإنكار الحقائق "كما هي" أو التلاعب بها بهدف التخلص من حالة التوتر و القلق و مشاعر الخوف التي تنتاب الفرد بما يضمن تأكيد شعور الرضا الذاتي ولو بطريقة رمزية.
فما الذي يجعل من بعض الأفراد العاديين الذين قد نلتقي بهم يومياً يتحيزون (ظاهرياً أو باطنياً) ضد شخص معين أو جماعة محددة، أو فئة/إثنية/طائفة معينة ليس لسبب سوى أن هؤلاء ليسوا"مثلنا"؟ سواء باللون أو السلالة أو الدين أو المهنة أو الوظيفة الاقتصادية/الاجتماعية ؟
ما الذي يفسر التعصب والعنصرية وعدم التسامح مع المختلفين والأقليات و الأغراب؟
ثمة سلوك نمارسه جميعنا بطريقة ما و بمستويات أقل أو أكثر تحدث عنه فرويد وهو "الإجبار على التكرار"، ويمكن وصفه بأن توالي الهزائم والانكسارات يولد ميولاً لاشعورياً للعودة إلى ما يخاف منه الإنسان، بل والوقوع به وبحسب زعم فرويد يعزى هذا إلى محاولتنا تجاوز خوف الصدمة الناشئ عن التجربة. فنكرر الحوادث المؤلمة كمحاولة لتجاوز خوفنا منها. الملفت في الأمر أن حالة الوسواس القهري هذه ستفشل في كل مرة نكررها بسبب إحاطتنا بأقمطة الخوف من التجربة وهذا ما يعزز الشعور بالهزيمة والشلل العقلي. والطريف في الأمر ايضاً أننا سنفشل في كل مرة طالما خوفنا من التجربة لا يزال ماثلاً في أذهاننا وما دمنا ،بالتالي، ينفشل فسوف يتعزز إحساسنا بالهزيمة أمام مخاوفنا وهكذا نبقى ندور وندور وندخل في حلقة مفرغة. لعل هذا ما أصاب اللبنانيين. ‏فحالات الضعف التي واجهوها في مراحل سابقة أمام أطراف كانت أقوى أو بدت أنها أقوى لأسباب موضوعية أكثر منها ذاتية (مثل الجيش السوري، والفلسطيني المسلح، وإسرائيل، وما نتج عن ذلك من تعصب مبني على تعميمات خاطئة في معظمها أدت إلى جملة صراعات ذات أنساق تنافسية سواء كانت سلمية أم عنيفة مسلحة تقسم المجتمع إلى ما يطلق عليه اصطلاحاً"الجماعات الداخلية و الجماعات الخارجية" أي باختصار: "نحن" و"هم" )، ولّد لديهم مشاعر مختلطة انهزامية قادتهم ( دون الاعتراف بذلك) إلى فشل تلو الآخر حين يسعون لاشعورياً لتكراره. ليس هذا فحسب بل أنه حتى الغرائز الرئيسية للبعض منهم لم تتحرك إزاء الحدث أو الأحداث القريبة منهم والموت المجاني لجيرانهم وتغول نظام الأسد جونيور على المعيش اليومي للسوريين وعلى الوجود و التاريخ الشخصي و العام لكل فرد -والحديث هنا لاشك مازال عن اللبناني الطائفي و أي عربي طائفي يشبهه-
......
* أبسط تعريف للعنصرية و أكثرها شيوعاً هو الذي يراها اعتقاد يقوم على"تعريف" الناس تراتبياً وفقاً لهويتهم الجنسية ولونهم، وهذه الهوية ذات صفات ومزايا و عناصر وطبائع تنتقل وراثياً عبر الأجيال، "العنصرية" كفكرة مهووسة بالنقاء لذلك تجد نفسها محقّة في تبرير المعاملة الدونية اجتماعياً و قانونياً للأفراد المنتمين للجماعة "الأخرى" المغايرة من خلال إطلاق التعميمات و الصور النمطية و التلفيقات "العلمية" و سرديات الهيمنة القائمة على الإقصاء و التهميش والتمييز.
**يعزو ابن خلدون في الفصل الثالث و العشرون من المقدمة السبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها و انقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أولما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب فإذا غالطت بذلك و اتصل لها اعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب و تشبهت به و ذلك هو الاقتداء أو لما تراه و الله أعلم من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية و لا قوة بأس لم إنما هو بما انتحلته من العوائد و المذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب و هذا راجع للأول و لذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه و مركبه و سلاحه في اتخاذها و أشكالها بل و في سائر أحواله و انظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً و ما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم و انظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية و جند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم حتى أنه إذا كانت أمة تجاور أخرى و لها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا التشبه و الاقتداء حظ كبير ...إلى نهاية الفصل.
*‏** مسرحية غنائية للأخوين رحباني من بطولة السيدة فيروز (بدور غربة). قُدمت أول مرة في العام 1969 في كل من بعلبك ودمشق.
.....
أدناه رابط الخبر في جريدة الأخبار:https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=2389737711140601&id=119422474838814



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن