الفيل والعميان / قراءة مجاورة في (الفقيه والسلطان ) للمفكر الدكتور وجيه كوثراني

مقداد مسعود
m.mookdad@yahoo.com

2019 / 8 / 6

الفيل والعميان..
1-2
قراءة مجاورة في (الفقيه والسلطان ) للمفكر الدكتور وجيه كوثراني
مقداد مسعود


(*)
حين ألغى كمال أتاتورك الخلاقة الإسلامية في 1924، كان الإلغاء بمثابة بيان وفاة متأخر، فقد أغتيلت الخلافة وهي في الثلاثين من عمرها :
(تكون الخلافة ثلاثين سنة ثم يكون ملك عضوض) ومابين الأغتيال والإلغاء كانت الخلافة ما بعد الراشدية تعيش موتا سريريا،فهي ملك عضوض أموياً، وهي حلبة تصفيات دموية عند بني العباس، وتصفيات داخل البيت العباسي وأخرى موجهة ضد الذين ناصروا بني العباس ومع البويهيين والسلاجقة : نفذ َ من الخلافة حتى رأسمالها الرمزي
(*)
العثمانيون الذين أسسوا أمبراطورية وصلت فيّنا، كانوا سلاطين ورأوا في السلطنة رنينا مميزا يتفوق على مفردة خلافة ..
(*)
طوبى الخلافة ،هناك من يحصرها في الفترة الراشدية،لكن أثناء الخلافة الراشدية نزت دماء ٌ غزيرة بدءاً من (حروب الردة) وتوقفا عند بمقتلة ثلاثة خلفاء..
(*)
الحكم الأموي، هو من أرتكب مجزرة كربلاء.وموقعة الحرة، ومجازر لا تعد ولا تحصى. أما أهل الذمة، المحتفظون بدينهم، فهم حسب التفسير الفقهي الإسلامي : في عهد أمان،مقابل الضرائب المفروضة عليهم، وهي ضرائب زادتهم رهقا وهناك مهام أخرى(على الذميين تقديم الخل والزيت وضيافة من يمر بهم من المسلمين لمدة ثلاثة أيام/ الطبري – أختلاف الفقهاء- ص217).. الحكم الأموي، حتى في عهد عمر بن عبد العزيز، وهو أنظف الخلفاء الأمويين،كان يؤكدعلى(لا تدعن صليبا ظاهرا إلاّ كُسِر ومحق،ولا يركبن يهودي أو نصراني على سرج،وليركب على أكاف، ولاتركبن امرأة من نسائهن على رحالة، ولا يلبس نصراني قباء ولا ثوب خز. ص88 / دكتور حسين قاسم العزيز/ البابكية/مكتبة الفارابي – بيروت/ 1975 ) ..
(*)
الآن الأحزاب الأصولية، تتذكر صورة ً للخلافة لا وجودها خارج مخيالها الأيدلوجي، هذا المخيال يطالبها بإحيائها، على حساب روح العصر ومتغيرات الحياة اليومية التي على ما بها من سوء، أفضل من السير للخلف .
(*)
المفكر وجيه كوثراني : علاقتي مع كتبه منذ(تاريخ التاريخ) استوقفني بأطروحاته الضرورية، التي تفتح أقواس للتساؤل الحيوي في لحظتنا العربية والإسلامية ، هنا في (الفقيه والسلطان) :المفكر وجيه كوثراني يرى(الخلافة مؤسسة مفترضة في كل مراحل التاريخ الإسلامي،أومتخيلة للمستقبل،أكتسبت وظيفتين: الهدف الي يُسعى إليه حال بعض الأحزاب الإسلامية والمثقفين الإسلاميين . ووظيفة الفزّاعة التي يخشى منها وينفّر 8).. ثم يسلّط ضوءاً بسعة بروجتكر عند وجهة نظر: تمحو الفُرق الإسلامية وتناحراتها الدموية، ثم تمتلك هذه الممحاة توكيلا مِن لا أحد وتثبّت تصريحا مطلقا (إن هذا الواقع التاريخي لم يعترف به الإسلام ولم يتحول إلى جزء من الدين)!! ..متناسيا أن بعد وفاة الرسول(ص) حدثت ثورتان: الثورة المضادة التي جسدتها حروب الردة، والثورة ضد الخليفة عثمان بن عفان وهي أول ثورة إسلامية، وبشهادة المفكرّحسين مروة: (أن الثورة على عثمان متصالحة مع الإسلام،بل هي تتسلح بمفاهيم الإسلام ذاتها،وتنطلق من حرص الثائرين أنفسهم على تطبيق قواعد الإسلام وشرائعه تطبيقاً عادلا وسليما،وفق روح التشريع الإسلامي، كما كانوا يفهمونه ويؤمنون به، من هنا نرى أنها أول ثورة في الإسلام من نوعها بالفعل 425- حسين مروّة/ النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية/ دار الفارابي/ بيروت/1979 )..
(*)
من منصة المفكر ّ مروّه نوّجه سؤالنا لتلك الممحاة: التنظيمات التكفيرية والقاعدة وداعش : لمن تنتسب ؟ للإمبريالية ؟ للنصارى؟ أم للحركات الليبرالية ؟ الجواب الحق هو لدى المفكر وجيه كوثراني في قوله (هذا التعالي على التاريخ والواقع يسمح بإنتاج ،،خطاب إسلامي،، معاصر له وظيفتان : وظيفة أولى إلغاء الصراعات في التاريخ، وإن اعترف فيها بخجل فهي من قبيل،، الانحرافات أو الآفات،، ووظيفة ثانية مكملة،خوض الصراع السياسي القائم والمعاصر من خلال تبني وجهة نظر يراها صاحبها إسلامية صحيحة، متماهيا بالإسلام الكلي والشمولي، ويشهرها ضد التيارات العلمانية باعتبار هذه الأخيرة نشأت في حضن الحضارة الأوربية / 14) وهنا كقارى منتج،أقترضُ عنوانا من عنوانات المفكر د. عبد الرزاق عيد وأصوغه سؤالا : كيف نستوعب التعدد والتغاير والإختلاف، ونحن في قبضتيّ :ذهنية التحريم وثقافة الفتنة ؟ وعلينا أجمعين أن نعي ان بين الدين والسياسة: علاقة إنتباذية / أنجذابية، على مرالعصور، لكن الغلبة في الغالب للدين ، في الصراع السياسي، فالحاكم يستقوي بالدين، رغم أن هذا الحاكم رقيق الإيمان، الرئيس المصري أنور السادات، كان يعاقر الويسكي في الصبوح والغبوق، ويستقوي بالتكفيرين وهم يستروحون منه، ما يحرمونه ويتشددون في تحريمه على الكافة !! وكذا كان خلفاء الأمويين والعباسيين. وحده سيد البلاغة وإمام نهجها علي الحق - عليه السلام -: (فرّق بين الحاكمية الإلهية التي قال بها الخوارج، ضرورة،،الإمارة،، كمهمة اجتماعية سياسية 16- كوثراني )
(*)
وجيه كوثراني : مفكرٌ يقف في مقدمة أولئك الذين يفركون الصدأ، عن المفاهيم، ومن أجل هذه المسؤولية يغوص بحثا عن مختارات نبوية وصحابية وأمامية(للتأويل العلماني) للتمييز بين الرأي والوحي، الاسشهاد بميثاق أهل المدينة السياسي، وبالمبدأ القرآني(لا أكراه في الدين) ومقولة النبي(أنتم أدرى بأمور دنياكم)، ويشخص العلمانية، في تحذير الإمام علي عليه السلام، بخصوص رفع المصاحف بهدف التحكيم، إذ قال الإمام (القرآن حمّال أوجه).. وفي موقفه هذا يؤكد المفكّر كوثراني على المساواة بين ضرورتين لمجتمعاتنا :
(العلمانية تساوي حاجتنا إلى الديمقراطية للخروج من طبائع الاستبداد على حد تعبير الكواكبي في آخر عام من أعوام القرن التاسع عشر،وللخروج من مسالك التعصّب وأساليب الاستقواء بالدين وخوض صراعتنا السياسية به على حد مانعانيه ونعاينه الآن 25 ) إذن العلمانية في جوهرها ليست نقيض الدين، لكنها ضد الإستقواء بالدين سياسيا وثقافيا ومجتمعيا..
(*)
ما يقدمه المفكّر وجيه كوثراني، هو قراءة مقترحة، تتواصل مع فاعلية التلقي لدينا بأفق ديمقراطي بلا ضفاف (هذه الدراسة لا تندرج تماما في نطاق المعالجة النظرية أو الفقهية لهذا الحقل الشائك في تاريخ الإسلام والمسلمين،بل تتوخى أن تقدم خلال المنهج التاريخي الذي حَكَم َ دراستنا لأنماط العلاقة بين الفقيه والسلطان،معطيات مفيدة لفهم مسألة الاختلاف والتنوع والتعدد والصراع بين المسلمين، وذلك في منظور يتوخى الفهم السليم لتاريخية هذا الاختلاف،وفي منظور مستقبلي يتوخى مقاربة الحقيقة والتطلع إلى أفق توحيدي في الهدف والغاية/ 35)..إذن نحن أمام دراسة تنتج لنا مفاتيح قراءة لتجربتين متجاورتين جغرافيا ومختلفتين في التفاصيل، ومن خلال : الاختلاف/ التجاور... و جدلية : الدين / السياسة .. سنتوصل لفهم ما يجري آنذاك في تركيا السلاطين و إيران الصفوية ..
(*)
حين يتمكن الديني عسكريا، يستقوي سياسيا، فيتخلص الجانب الديني من ملاينة المرجفين في المدينة، ويتجاوز(أخذ المستهزئين بالشدة حينا وباللين حينا) وهذا ما فعله الرسول(ص) حين حسم موقفه من المنافقين، إذ (دعا إليه بمالك بن الدخشم ومعن بن عدي،فقال : أنطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فأهدماه، وأحرقاه 376- أبكار السقاف/ الدين في شبه الجزيرة العربية/ آفاق للنشر والتوزيع/ مصر/ 2019 )..والمقبوس السابق يؤكده وجيه كوثراني،في قوله عن السلطة في التاريخ الإسلامي،إذ(يحتل الحيّز الديني والحيّز مكانة لايستغني فيها أحدهما عن الآخر وإن تمايزا 39)..فالدين الإسلامي ليس دعوة للترهبن والإنتباذ بعيداً عن اليومي ومشروطيته، خصوصا بعد توسعاته العسكرية في المدينة، صار الإسلام يكتنز بمتغيرات صادمة لمجتمع صحرواي، مطمئن في ذاته التجارية، إذ فجأة صارت القبائل أمام (معطيات التجربة الإسلامية الجديدة التي أنطلقت كدعوة دينية،ذات رسالة وتمثلت بمشروع سياسي كبير تجسد في دولة – خلافة وفي فتوحات وتنظيمات أستمدت عناصرها من القرآن الكريم والسنة وعناصر التفاعل الثقافي مع حضارات العالم القديم / 46/ وجيه كوثراني/ تاريخ التاريخ/ المركز العربي للأبحاث/ الدوحة – قطر/ ط2/ بيروت/ 2013)
(*)
يتوقف كوثراني عند أزدهار الفقه الشيعي، في العهد البويهي في بغداد، فيذكر الكليني وأبن بابويه، والشيخ المفيد والشريفين الرضي والمرتضى، وآخر الفقهاء الجهابذة : الطوسي ، ومع صعودهم حدثت فتن وأضطرابات دموية في بغداد، أثر وفاة السلطان البويهي شرف الدولة .. والفتن تعتبر من الذخائر الحية بالنسبة لبعض الفقهاء ومنهم(الفقهاء المتحنبلين الذين كانوا يسيطرون في حينه على الشارع في بغداد ويتقنون فن تحريض ،،الجماهير،، دامغين إياهم بالعصبية و بالأرهاب الغوغائي. 323/ جورج طرابيشي/ العقل المستقيل في الإسلام/ دار الساقي/ بيروت/ ط2/ 2011 ) .. ثم تنتج وقفة كوثراني سؤالين ضروريين :
(كيف نفهم طبيعة العلاقة بين النهضة الفكرية الشيعية وحكم الأسرة البويهية الشيعية؟ هل ثمة تبرير فقهي شيعي لشرعية هذا الحكم ؟/ 42)..أنتعش المذهب الشيعي في برهتين : الأولى أثناء خلافة عمر بن عبد العزيز، والبرهة الثانية أثناء خلافة المأمون المضطربة والمنبجسة بصراع بين الأخوين ومقتلة أحدهما وهو الأمين، وما أن انتهى الصراع، تقدم المأمون بخطوة دموية أخرى وهي الإجهاز على الإمام علي بن موسى الرضا – عليه السلام – وكذلك إرغام الكافة والخاصة على تبني نظرية المعتزلة، التي اشتهرت ب(فتنة خلق القرآن) هذا الارغام التي أساء إلى فكر المعتزلة..
(*)
منذ الأمويين وحتى وصول البويهين إلى حكم بغداد، كابد المذهب الشيعي من القمع الخارجي ومن التقية، لكن مع البويهين أنتعش التنظير الشيعي واستطاع أن يؤثل وبعمق متطلباته الفكرية وفي الهواء الطلق ، وتكريس الأجيال علنا بمضامين هذا الفكر: وتحديدا (نشأة علم الأصول) ويرى كوثراني وهو يقتبس من المفكر الشهيد محمد باقر الصدر،الكلام التالي : (لعل أهم ما تُعبر عنه تلك النهضة الفكرية الشيعية في العهد البويهي هو مايشدد عليه محمد باقر الصدر في تاريخه لنشأة علم أصول الفقه،حيث يعتبر تأسيسا على المعتقد الشيعي:(أن تأخر علم الأصول تاريخيّا لم ينتج فقط عن أرتباطه بتطور الفكر الفقهي ونمو الأستنباط،بل هو ناتج أيضا عن طبيعة الحاجة إلى علم الأصول.فإنها حاجة تاريخية توجد وتشتد تبّعا لمدى الابتعاد عن عصر النصوص/ ص54/ محمد باقر الصدر/ المعالم الجديدة للأصول/ ط3/ دار المعارف /بيروت/ 1981/ نقلا عن ص43/ وجيه كوثراني/ الفقيه والسلطان)..إذن هنا نكون أمام ملء معرفي لفجوة زمنية،أعني أن المعرفي سيردم فجوة ً زمنية ً وسيعة وعميقة ، أعني ..لدينا عصرين :
*عصر الأئمة الإثني عشر، وهو عصر النصوص
* يلي ذلك لحظة ضعيفة الانتاج بسب القمع الخارجي والتقية ،جعلت مثقفي المذهب ينشغلون بالسرية التنظيم وهذه السرية، ينشط فيها الوعي السياسي، ويتقلص التنظير..
*عصر نهضة المذهب الشيعي، من خلال اعتناق البويهيين له وهؤلاء بيدهم كل مقاليد الامور الرئاسية: هنا نشطت المنظومة الفكرية الشيعية :(فدخل علم الأصول بسرعة دور التصنيف والتأليف، فألف المفيد كتابا في الأصول، وأفرد تلميذه السيد المرتضى كتابا للأصول سماه(الذريعة) وألّف الفقيه المجدد الطوسي(العدة في الأصول) وهكذا أنتقل علم الأصول على يده إلى دور جديد من النضج الفكري،كما أنتقل الفقه أيضا إلى مستوى أرفع من التفريع والتوسع/ 43/ كوثراني ).. نلاحظ أن المذهب اشتغل كليا على إرساء منظومته الفكرية الكاملة
هو اشتغال خاص وداخلي وتفنيدي لم يتضادد مع المذهب وبشهادة الشيخ الطوسي : (إني لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقهة والمنتسبين إلى علم الفروع،يستخفون بفقه أصحابنا الإمامية وينسبونهم إلى قلة الفروع وقلة المسائل ويقولون: إنهم أهل حشو ومناقضة الطوسي :كتاب العمدة/ نقلا عن ص45/ كوثراني (الفقيه والسلطان ) ولقد كانت انشغالات الفكر الشيعي بعيدة فقهيا عن تناول (شرعية السلطة التي تطرحها الإمارة البويهية44/ كوثراني ) وفي هذا السياق كقارىء منتج أرتكز على رسالة الشريف المرتضى (مسألة في الولاية عن الجائر) والشريف المرتضى (ت 436 هجري – 1044 ميلادي) وهو مِن عقب الإمام موسى الكاظم – عليه السلام – وقد صار حُجّة الشيعة وفقيههم بغير منازع ببغداد، وكان نقيب نقباء الطالبيين، كما ولي المظالم وأحتفظ بعلاقات جيدة مع العباسيين/250- 251/ رضوان السيد/ من كتابه (الأمة والجماعة والسلطة / دار أقرأ- بيروت- 1984) ..والسؤال هل كالتالي هل كانت رسالته دفاع عن النفس، بعد رضي عنه ثلاثة من خلفاء بني العباس : الطائع والقادر والقائم ؟ لأن العمل مع السلطان غير الشرعي كانت تهمة شخصية .لذا جاء رسالته لتفكيك إلتباس القصد بينه وبين مذهبه الشيعي. للرسالة أكثر من دافع، وهذه الاشكالية ليست جديدة، ويمكن أن نلمسها في ما هو أسطع تجربة أعني علاقة علي بن يقطين مع الخلافة العباسية، وكانت هذه العلاقة بموجهات مذهبية من الإمام موسى الكاظم – عليه السلام - /أنظر الكافي وكذلك الكشي / ص245- 249/ رضوان السيد / الأمة والجماعة والسلطة ..)
ومثلما أنتج الشريف المرتضى/ ت 436هجري،رسالة (مسألة في الولاية عن الجائر).. بعد قرابة خمسة قرون/ ت910هجري ليكتب بالضد من ذلك كتابا عنوانه(ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين ).. وهكذا يظل التعامل مع سلطة السلطة من المسائل الخلافية.. رحِم الله ذلك الصحابي الجليل حين يوصينا أجمعين (إذا استطعت أن تأكل التراب فأفعل ولا تكن حاكما على أثنين )
*المقالة منشورة في (طريق الشعب) 5/8/ 2019
*وجيه كوثراني/ الفقيه والسلطان / جدلية الدين والسياسة في تجربتين تاريخيتين العثمانية والصفوية – القاجارية /المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات/ ط5 / قطر/ 2017



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن